“إسعيدة”.. بين التوثيق والحبكة الروائية
ناصر الريماوي
تأتينا رواية “إسعيدة” للدكتور “محمد عبد الكريم الزيود” لا كعمل أدبي فحسب، بل كـضمير جغرافي ينبض تحت أنقاض الزمن الغابر، وشاهد على تحولات مجتمع بأكمله، اختزلته رقعة جغرافية نابضة وسط “الزرقاء” كمدينة ومحافظة لها امتدادها الوجداني الذي يتسع ليتخطى بعدها الجغرافي والذي يشملنا جميعا، فمن “إسعيدة” ذات الاسم الأصيل، إلى “الهاشمية” ذات العنوان الحديث، وحتى آخر ذرة من تراب المدينة لى اتساعها الذهني والعاطفي.
هنا، حيث نقف، الكاتب وأنا، فوق وجدانية الأرض نفسها، فإن الكتابة عن هذه الرواية “إسعيدة” لا يعد تحيزا لها بقدر ما هو (تميزا) حولها، شكلا ومضمونا.
ليغدو هذا التضامن كفعل وجودي صائب ينحاز إلى هامش المكان قبل متنه.
وشكله التقليدي الفقير، قبل مضمونه المعاصر الثري.
فالدكتور “الزيود” لا يكتب من ذروة برج عاجي، يطل من خلاله على صقيع المفردات البعيدة، بل ينبش في ذاكرة النهر والوادي؛ من نهر “الزرقاء” وحتى مصباته البعيدة، وما شهد عليه من تحولات مفصلية هامة منذ عشرات السنين وحتى يومنا هذا.
إنها رواية ترفض أن تظل “الزرقاء” وما حولها مجرد مدينة عابرة في ذاكرة الزمن المعاصر، أو نقطة هامشية تسند بجذورها العميقة عجرفة الطرق السريعة، الطرق (المتعجلة) بترف نحو ذاكرة أكثر استقرارا من غيرها.
هذه الرواية تنتزع البطولة من مركزية “العاصمة”، لتمنحها للأطراف القريبة، والتي ظلّت لسنوات كثيرة مصدرَ العطاء وصمّام الأمان الخفي.
فـ”إسعيدة” التي تحولت إلى “الهاشمية”، والتي سميت تكريماً للشهداء من أبناء عشيرة الزيود ، لم تكن مجرد اسم فقط، بل كانت وعاءً رحبا لروح جماعية أصيلة، تأثرت بل وتماهت مع هذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية الكبرى كغيرها.
مشاهد وصور حيّة:
كأنّما تنساب الكلمات في رواية “إسعيدة” ببراعة، لا لتسرد حدثاً، بل لتنحت عالماً كاملاً ينبض بالحياة أمام أعين القرّاء. ها هو ضباب الفجر يُرفع مثل ستارة على مشهد البلدة النائمة، في وصف مستفز يستنطق الكائنات، ليفوح المكان بذلك العبق التاريخي.
أو في مشهد الجنازة المُفعم بالتناقضات الإنسانية، حيث يمتزج حزن الفقد بزهو التضحية، وتعلو زغاريد النساء فوق صمت الرجال المطبق، مخلّفاً وراءه لوحة لا تنسى في مخيلة القارئ. هذه ليست مجرد قدرة سردية عادية، بل هي براعة شاعرية استثنائية استطاع بها المؤلف أن يحوّل الوقائع العتيقة الحافلة بالمرار إلى مشاهد مصوّرة تنهمر لتلامس الوجدان.
هو أشبه بسحر الكلمة التي تتحول إلى عين تراقب، والنص الذي ينتقل بك من عالم التلقي بذلك الحياد التام إلى التورط الجميل بالمشاركة في وقائع الرواية، تسمع همسات الشخوص، وتلمس جدران المكان، تتشارك معهم أثقال ذاكرة جمعية قاسية، لتخرج في النهاية وأنت تحمل جزءاً من “إسعيدة” في داخلك.
اللغة البصرية.. وبراعة التوظيف السردي في بثق الصور:
لا تقتصر اللغة في تميزها على شعرية الوصف وبراعة التكثيف في الرواية، بل على قدرتها الفائقة في التأثير على ذهنية المتلقي، حيث يمكن للبعض أن يتلمس متعة غريبة في ذلك المرار الكامن في قسوة العيش ذلك الزمن، وغير ذلك من مفاصل الرواية على اتساعها الوصفي.
هل يصح لنا أن نقول بأنها لغة حسيّة، تمزج باقتدار بين ضرورات السرد وترف الوصف المشهدي على امتداها؟ ربما.
رموز ودلالات لافتة:
لا تكتفي رواية “إسعيدة” بسرد حكاية المكان، بل تغوص بعيدا في أعماق الذاكرة الجمعية من خلال شبكة مبسطة من الرموز التي تتحول في النص إلى علامات دالة (أوعلى الأقل هذا ما لمسته أنا كمتلقي في الرواية) تختزل قسوة الماضي وتطلعات المستقبل في آن معا.
بعضها قد يكشف لنا كيف تتحول تلك المفردات العادية إلى شيفرات ثقافية مبطنة تحمل في طياتها تلك الرؤية الواضحة والهامة لأي مؤلف في إنجاز عمل أدبي كهذا.
ذهب “العصمللي” والبحث عنه كمثال: فهذا الذهب لا يبقى مجرد كنز مادي يُبتغى، بل يتحول إلى علامة على الحلم المستحيل والبحث عن معجزة للخلاص من قسوة الحياة وواقعها الصعب.
إنه يمثل أيضا ذلك الحنين الأسطوري إلى زمن مضى يعتقد بأنه كان أفضل، فينقبون في طبقات الأرض كما ينقبون في طبقات الذاكرة الحية.
”فضة”.. الأخت التي لم تكمل تعليمها الأساسي، كمثال آخر: هنا تتحول “الفضة” من معدن نفيس إلى استعارة مؤلمة لثروة مهدورة. إنها ترمز إلى معرفة مغيبة وإمكانات ضائعة على وقع قيود مجتمعية، كان لها مبرراتها آنذاك.
أيضا تحصيلها الدراسي غيرالمكتمل، هو ليس حرمانا من العلم بقدر ما هوعلامة على اغتيال البراءة، وقمع الحلم الفردي بمسميات ومبررات عديدة.
أضف إلى ماسبق، تلك الطرق الصخرية القاسية والدواب المتعبة على وقع أحمالها: فهي ليست مسارات جغرافية وعرة، بقدر ما هي استعارة وجودية لمسار الحياة الصعبة وقسوتها آنذاك، وإشارة لتلك العلاقة الجدلية بين الإنسان والأرض التي ينتمي إليها في سعيه الدؤوب نحو التقدم والنهوض لإحداث تغيرما.
إنها الحمل الثقيل، والثقل في زمن التحولات المفصلية بما تخلفه في نفوسنا من أعباء أخلاقية ونفسية إزاء التراث والعادات والتقاليد والموروث والمعاييرالجمعية في تفسيرها والحكم عليها في زمن التحولات.
من خلال هذه الرموز وغيرها، تتحول “إسعيدة” من مجرد رواية إلى متحف للذاكرة الشعبية، حيث كل عنصر فيها يحكي قصة لا عن نفسه فقط، بل عن مجتمع بأسره يحمل بين طياته تناقضات عديدة كالألم والأمل وغيرها.
أيضا هناك العلامات والدلالات العديدة، والتي تكتسب معانيها ضمن هذا الإطار الروائي الشيق، الإطار (الثقافي).
يصف الكاتب “إسعيدة” مثلا بأنها “أنبتت مروجًا من قمح، وموارس من تين، وزيتون”.
فالزيتون ليس أشجارا هنا، بل هي إحالة مبطنة إلى البلدة ككيان عضوي متجذر في الأرض والهوية. وهي علامة على ارتباط الإنسان بأرضه الذي لا ينقطع، حتى مع “الوقائع العتيقة الحافلة بالمرار”. إنها علامة على نسغ الحياة المتواصل في مواجهة التحديات وقسوة العيش.
وأيضا ذلك الوصف الدقيق للبيت بـ “ثلاث غرف من الحجارة.. باردة في الصيف لأن سقفها مغطى بالقصيب، والطين المعجون بالتبن”. المعنى في سياق الرواية، كما أفهمه، بأن هذا البيت ليس مجرد سكن. إنه علامة على عالم آمن وطمأنينة مفقودة مقابل عالم الحداثة المضطرب (الذي تمثله مصفاة البترول لاحقًا).
إنه الحيز المكاني الذي يحتفظ “بالوقائع العتيقة” لتظلّ “قريبة من القلب”.
تفاصيل البناء (الطين، القصيب) هي علامات دالة على بساطة الحياة، لكنها حقيقية ومليئة بالدفء الإنساني، الجميل.
البنية ومستويات السرد:
تتبنى رواية “إسعيدة” بنية سردية (تأريخية- توثيقية)، مختلفة قليلا عن البنى التقليدية الأخرى، حيث يمكن تحديد ملامحها على النحو التالي، سردية تبتعد بالرواية عن البطل الفرد التقليدي، لتصنع بطلًا جماعيًا ممثلًا في “أهل إسعيدة” ككل، مع تركيز خاص على شخصية “قاسم” كراوٍ وشاهد على التحولات.
ليحتفظ “المكان” – منفردا- بالبطولة المطلقة والذي تدور حوله كل الوقائع والأحداث.
أما البناء الزمني فيمتد – ولكن بكثافة واختزال للوقائع والأحداث – للتواصل خلاله الحكاية على مدار ثلاثين عامًا (من الخمسينيات إلى الثمانينيات)، مما يخلق إحساسًا بتاريخية الحدث، ويعكس عملية التحول البطيئة والتدريجية التي شهدها المجتمع.
تتعدد مستويات السرد، اجتماعيا وتاريخيا وإنسانيا، وقد تشتبك أحيانا كثيرة بذلك التداخل المبرر، كنتيجة حتمية للتأثير المتبادل بينها، والذي سيطال المكان وحاضنته الشعبية آخر المطاف، فالتحول من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، وربط هذا المجتمع المصغر ومصيره بالأحداث السياسية والمصيرية الكبرى (كحرب 1967 )، ثم هذا التأثير الحاصل في إثر هذه التحولات المتتالية على العلاقات الإنسانية والهويات الفردية، كلها، وكأنها تتوالى لتحدث في زمن واحد وتوقيت محدد.
أنثروبولوجيا الألم ( وقائع المرار والعذاب اليومي):
لا تكتفي رواية “إسعيدة” بسرد أحداث الماضي، بل تنحت لوحة أنثروبولوجية فائقة الدقة لتشريح “الألم” اليومي الذي يحياه الإنسان في تلك الجغرافيا القاسية. فـ “المرار” هنا ليس مجرد شعور عابر، بل هو طقس وجودي متكرر، تُسجَّل وقائعه ليس في الذاكرة فحسب، بل على أجساد الشخصيات وظهور الدواب، وفي ثنايا الطرقات الصخرية الوعرة. يتجلى هذا الألم في الموسمية القاسية لدورة الحياة، فمشقة “موسم الحصاد” والتنقل بين بيادر القرية والموارس ليست عملاً زراعياً عادياً، بل هي رحلة إجهاد جماعي تتحول فيها الحياة إلى سعي مرهق للبقاء.
الدواب التي تشق الطرقات الصخرية وتندفع بصعوبة أكثر نحو هضابها الشائكة، من خلال هذا المشهد، لا يقدم المؤلف وصفاً، بل توثيقاً إنسانياً لـ “طقوس العذاب” اليومية التي تشكل الهوية الجماعية، حيث يصبح الألم تراثاً مشتركاً وذاكرة جسدية لا تُمحى، تورَّث كما تُورَّث الأرض.
هذه الأنثروبولوجيا الخاصة ترفع الواقع اليومي إلى مستوى الأسطورة الحزينة، مؤكدة أن الجمال والشقاء وجهان لعملة واحدة اسمها “إسعيدة”.
نقاط قابلة للنقاش حول الرواية (شكلا ومضمونا):
أتفق مع البعض ممن كتبوا عن هذه الرواية وتحديدا على صعيد المضمون في ما يتعلق بالتحولات السردية وضرورة تطويرها، بحيث يمكن القول بأن هناك الكثير من التفاصيل والتأثيرات على الصعيد النفسي للفرد والجماعة في التحولات المصيرية قد تحتاج إلى تطوير، كما أنها تحتاج إلى المزيد من العمق في الجانب السردي والاسهاب لتعزيز بعض التحولات المجتمعية وآثارها التي تناولتها.
أيضا، وعلى صعيد المضمون ذاته، حيث يطغى التوثيق على الحبكة في الرواية، كون الرواية “سيرة ذاتية جماعية” و”وثيقة أدبية” وهو ما أدى إلى طغيان الهم التوثيقي والتاريخي على بناء الحبكة الدرامية المشوقة وتطور الشخصيات الفردية، ليضعف الجانب القصصي المحض لصالح السرد التاريخي، وهوما لمسته في الرواية.
وأما على صعيد الشكل، فهناك الإيجاز الشديد في السرد، فقد استطاع الكاتب أن يختصر ثلاثين عاماً في عدد قليل من الصفحات (115 صفحة). ربما يُعد هذا إيجابية، إلا أنه قد يكون سلبيَّة في بعض المواطن من الرواية، إذ جاء هذا الاختزال على حساب التفاصيل الهامة في بعض المشاهد والعواطف، مما أدى إلى إيقاع سردي سريع جداً قد لا يتناسب مع بعض الأحداث المفصلية الهامة.
الخاتمة :
وأما ما بقي عالقاً في ذهني بعد انتهاء الرواية، ليست الأحداث الكبرى بالضرورة، بل تلك التفاصيل الصغيرة الحاملة للدلالات؛ ذلك الصمت الثقيل الذي كان يخيم على كبار القرية وهم يشاهدون عالمهم يتبدد، وكأن الكاتب يصوّر الاغتراب بلغة الجسد قبل الكلام.
وفي مفارقة صعبة وقاسية، كانت أنوار المصفاة التي أنارت الليل للمرة الأولى، هي نفسها التي حجبت عنهم نور القمروالنجوم، رمزاً لضياع البوصلة والاتجاه..
الجلسات المسائية برفقة المختار في استحضار “فلسطين” بقراها ومدنها كشلال ذكريات يحكي عن أيام العمل في بياراتها، المشهد بحد ذاته يؤكد فكرة “الذاكرة الجمعية” وبأنها سلاح قوي يقي ضد النسيان أو محاولات الطمس العديدة.
أيضاً وبالرغم من أن الرواية تحكي قصة مجتمع ذكوري على الأغلب، إلا أن شخصيات مثل ‘الجدة نوفة’ كانت تشبه الجناح الخفي الذي يحفظ توازن الحكاية، حاملةً معها ذاكرة المكان الأصلية من “رام الله” إلى إسعيدة.
مع الصفحة الأخيرة.. تسقط الستارة ويزحف الضباب ليعلو، دون إجابة قاطعة، بل تترك القارئ مع ألم السؤال.. إلى أين نسير؟ وكيف نحمي ذاكرتنا من أن تكون مجرد حكاية.. لنرويها؟
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
بين بينخاص- ثقافات *محمد مراد أباظة لستُ متشائماً يا صديقي إلى حدّ الاستقالة من حيّز أمل…
-