فنُّ الكتابة عند جوزيه ساراماجو

(ثقافات)

فنُّ الكتابة عند جوزيه ساراماجو

اختيار وترجمة: سارة حامد حواس

 

كنتُ في الثامنة عشرة من عمري حين قلتُ لأصدقائي، إنَّني أوَّدُ أن أصبح كاتبًا، وكان ذلك خلال واحدة من تلك الأحاديث التي تجمع المراهقين والتي كانت من أعذب متع الحياة. في ذلك الوقت، لم أكن قد كتبت سوى بعض القصائد العاطفية والدرامية التي كانت شائعة بين الشباب آنذاك. وربما شغفي بالقراءة منذ طفولتي هو أكثر ما أسهم في مستقبلي الأدبي.

وعندما كنتُ في التاسعة عشرة تقريبًا، سُئلت عمّا أرغب أن أكونه في المستقبل، أجبتُ بأنَّني أريدُ أن أصبح كاتبًا. ولم أنتظر طويلًا لأحاول تحقيق ذلك الهدف، إذ نشرت رواية ”أرض الخطيئة”، وأنا في الرابعة والعشرين. لكن خلال العشرين عامًا التالية كتبت قليلًا ولم أنشر شيئًا. والمفارقة أنَّه عندما عادت الكتابة لتصبح نشاطًا دائمًا في حياتي، لم يكن ذلك الحلم القديم بأن أكون كاتبًا حاضرًا في ذهني بالوضوح نفسه. واصلت الكتابة والنشر لسببٍ بسيطٍ ؛لأنني اعتدتُّ ذلك، من دون وجودِ مشروعٍ واضحٍ يوجِّهُني.

وبحلول عام 1974، وهو العام الذي شهد الثورة التي أنهت ما يقارب خمسين عامًا من الديكتاتورية في البرتغال، كنتُ قد نشرتُ ستة كتب فقط: تلك الرواية القديمة المنسية، وكتابين من الشعر، وثلاث مجموعات من المقالات الافتتاحية. ثم جاءت روايتان في عام 1975: ”دليل الرسم والخط” و ”كائنٌ شبه مُكتمل”.

وفي أواخر عام 1975، أُقلتُ من منصبي كنائب مدير لجريدة ”دياريو دي نوتيسياس” لأسبابٍ سياسيةٍ، بعد أشهرٍ قليلةٍ فقط من تسلُّمي المنصب. قلتُ لنفسي يومها: ”إن كنتُ أريد فعلًا أن أكون كاتبًا، فهذا هو الوقت المناسب لأبدأ.”

وبعد أسابيعٍ قليلةٍ وجدتُ نفسي في ريف منطقة ألينتيخو، ومن تلك التجربة وُلدت رواية ”النهضة من الأرض” التي نُشرت عام 1980. بدأتُ أصدِّق، حينها فقط، أنَّ لديَّ ما يستحق أن يُقال.

وفي عام 1982، حين بلغت الستين، نشرت ”بلتازار و بليموندا”. عندها فقط أصبحتُ فعلًا الكاتب الذي تمنَّيتُ أن أكونه. وعندما يَسألني الناس كيف وصلت إلى هذه المرحلة، لا أملك إلا أن أجيب: ”أنا لا أكتبُ فحسب، بل أكتبُ ما أنا عليه.” إن كان في الأمر سرٌّ، فربما يكونُ هذا هو السرُّ”.

صحيح أنَّني أرى الرواية عملًا لا ينفصلُ عن شعورٍ بالاتساع والشمول، فهي

أشبه بعالمٍ صغيرٍ يبدأُ في التمدُّد، ويجذبُ إليه كل الأجسام التائهة التي يصادفها، مهما كانت متناقضة، ليحولها في النهاية إلى كلٍّ متناسقٍ. ومن هذا المنطلق، أعتقدُ أنَّ الرواية، كما أفهمها وأمارسها، يجب أن تميلُ دائمًا نحو “المُبالغة” أو “التجاوز”.

لكن “المُبالغة”، في المبدأ على الأقل، يبدو مناقضًا لما هو “كلاسيكي”، لولا أن الوقائع تثبتُ العكس؛ فالروايات الكلاسيكية، في معظمها، أعمال “مُبالغة” بطبيعتها.

يسعدني أن أعلمَ أنَّ رواياتي تدفعُ القارئ إلى التفكير. فأنا نفسي فكَّرتُ كثيرًا أثناء كتابتها، فكَّرتُ بأقصى ما أستطيعُ وما أعرفُ. وسأشعر بخيبة أملٍ لو لم يجدُ القُرَّاء في كتبي ما يتجاوزُ مجرَّد الحكاية الممتعة التي أرويها لهم. وإذا كانت المتعة بحدِّ ذاتها ذات قيمةٍ، فإنَّ قيمتها تتضاعفُ حين تتحوَّلُ القصَّة إلى جوازِ عبورٍ للتأمُّل والتفكير.

ولا أظن أن أيا من المهن التي مارستها كان له أثر مباشر في تكويني ككاتب. لكنَّها أسهمت بالتأكيد في تشكيل شخصيَّتي، إلى جانب عوامل كثيرةٍ أُخرى، بعضها يمكنني تسميته، وبعضها الآخر لم أعد حتى أعيه. من يدري؟ ربما كان الأمر ببساطةٍ يبدأُ من طفلٍ يجلسُ على ضفَّةِ نهرٍ، يتأمَّلُ جريان الماء أمامه، وأنَّ ذلك الطفل سيصبحُ يومًا كاتبًا، من دون أن يعرفُ السبب تمامًا.

أنا كاتب روائي أفضل ممَّا أنا شاعرٌ أو كاتبٌ مسرحيٌّ أو كاتب مقالات. لكنني ما كنت لأصبح الروائي الذي أنا عليه الآن (على ما في ذلك من قيمة) لولا تلك الهويَّات الأخرى التي تسكنني أيضًا، وإن كانت غير مكتملةٍ. وقد قلتُ في مناسباتٍ سابقةٍ إنني، في الجوهر، لستُ روائيًّا بالمعنى الدقيق، بل كاتب مقالات فاشل لجأ إلى كتابة الرواية لأنه لم يعرفُ كيف يكتب المقال كما ينبغي.

أما عن العلاقة بين النَّص وما وراء النَّص في رواياتي مع كثرة الأقواس والإشارات المُتبادلة، فهذا سؤال صعب، يشبه أن تسألَ لاعب تنس كيف ينفِّذُ حركةً معينةً. فجوابه، على الأرجح، سيكون أن يعيدَ الحركة أمامك ببطءٍ، شارحًا خطواتها واحدةً تلو الأخرى، كأنَّه يحوِّلُ حركةً واحدةً سلسةً وفعَّالةً إلى سلسلةٍ من الصِّور الثابتة.

لا يستطيعُ الكاتب، في المقابل، أن يُراقب نفسه أثناء الكتابة، ولا أظن أنَّه حين يواجهُ الصفحة المكتوبة يصبحُ قادرًا على تحليل علاقةٍ معقدةٍ كهذه التي يطرحها سؤالك.

وحين جعل ”موليير” بطله في ”البرجوازي النبيل”،يكتشفُ أنه كان يتحدَّثُ نثرًا من دون أن يدري، لم يكن يقدِّمُ موقفًا كوميديًا إلى حدِّ العبث فحسب، بل كان يشيرُ إلى أمرٍ أعمق وهو أنَّ في ”الَّلاوعي معرفة تفوقُ ما نتخيلهُ”، وأنَّنا أحيانًا نعرفُ أكثر مما نُدرك أنَّنا نعرفهُ.

في سؤالك الذي تطرَّق إلى تعدُّد العوالم والشخصيات في رواياتي، من ملوكٍ وشعراءٍ ورجالِ دينٍ إلى عُمَّالٍ وفلاحين ، أشرتَ إلى أنَّني، مثل جابرييل جارثيا ماركيز وسولجينتسين، أرى أنَّ “الفقراء هم ملح الأرض”، وقلتُ إنك تقصدُ بالفقر هنا فقر الروح لا الفقر المادي فقط.

ورغم وجاهة المقارنة، فإنَّني أرى أن موقف ماركيز وسولجينتسين لا يتطابقان في هذه المسألة كما قد يبدو للوهلة الأولى؛ فماركيز، في نظرته للشخصيات، يبحثُ عن تلك ”البراءة الأولى”، الأصيلة، التي لم تفسدها التحولات ولا التبدلات التاريخية. أما ”سولجينتسين”، فينطلق من رؤية مغايرة تمامًا؛ إذ يبدأُ برصد الشرور والآثام بلا رحمةٍ، ثم يسعى، عبر معاناةٍ طويلةٍ ومكاشفةٍ عميقةٍ، إلى ”استعادة البراءة المفقودة”، لا اكتشافها كما هي لدى ماركيز.

أما أنا، فقد وُلدتُّ فقيرًا ولست غنيًّا حتى اليوم، كما ما يحرِّكني ليس التأمُّل النَّظري في الفقر أو البراءة، بل الرغبة في ”تصوير الهدر الحقيقي للإنسانية ذاتها”. أسوأ ما في عالمنا هو أن ملايين البشر سُحقوا تحت أقدام التاريخ، ولم يملِكوا في الحقيقة إلا حياتهم، ومع ذلك كانت تلك الحياة نفسها ”موردًا يُستغل من قِبَل غيرهم”، الأذكى، والأقوى، والأكثر نفوذًا.

تقنيتي في الكتابة الروائية، أو لعلِّي أفضِّلُ أن أقول ”أسلوبي”، ينبعُ في جوهره من مبدأ أساسي مفاده أن كل ما يُقال مُعدُّ لأن يُسمع. ما أعنيه بذلك هو أنَّني حين أكتبُ أرى نفسي ”راويًا شفهيًّا”، وأنَّ الكلمات التي أسطرها مقصودة بقدرٍ متساوٍ لأن ”تُقرأ وتُسمع”. فالراوي الشفهي لا يستعينُ بعلامات الترقيم، فهو يتحدَّثُ كما لو كان ”يؤلِّفُ موسيقى”، مستعملًا الأدوات ذاتها التي يستخدمها الموسيقي: النغمات والسكتات، المرتفعة والمنخفضة، الطويلة والقصيرة. أما تلك الاتجاهات التي أقِرُّ بها وأتمسَّك بها، كالتركيب الباروكي، والإيقاع الدائري، والبُنى المتناظرة، فأظنُّها نابعةً من رؤيةٍ للخطاب الشفهيِّ باعتباره شكلًا من أشكال الموسيقى.

وأتساءلُ أحيانًا إن كان ثمة أكثر من مجرَّد مصادفة بين ”تفكُّك الخطاب الشفهيِّ المعاصر” و” النَّزعة التبسيطية في الموسيقى الحديثة”، فكلاهما يقومُ على التجزئة، والانقطاع، والإيماء أكثر من الإفصاح.

لديَّ دائمًا تصور واضح عمَّا أريدُ الوصول إليه، وأعرفُ الاتجاه الذي عليَّ أن أسلكهُ للوصول إلى تلك النقطة. لكن هذا لا يعني أن لديَّ خطَّةً صارمةً. في النهاية، أريدُ أن أقولَ ما أريد ُقوله، لكن هناك مساحة من المرونة داخل هذا الهدف. وغالبًا ما أستخدمُ هذه المقارنة لتوضيح ما أقصد: أعلمُ أنني أريد السفر من لشبونة إلى بورتو، لكنني لا أعرف إن كانت الرحلة ستكون في خطٍّ مستقيمٍ. قد أمرُّ حتى عبر كاستيلو برانكو، وهو أمرٌ يبدو سخيفًا، لأنها تقعُ في عمق البلاد، قريبةً من الحدود الإسبانية، بينما تقعُ لشبونة وبورتو كلتاهما على ساحل الأطلسي.

ما أعنيه هو أن الخط الذي أسلكه من نقطةٍ إلى أخرى دائمًا ما يكون متعرِّجًا، لأنه ينبغي أن يواكبُ تطوُّر السرد، الذي قد يحتاجُ إلى شيءٍ هنا أو هناك لم يكن ضروريًّا من قبل. يجب أن يكون السرد يقظًا لحاجات اللحظة المحددة، أي إنَّ لا شيءَ مُحدَّد سلفًا. فلو كانت القصة محدَّدة مسبقًا، حتى لو أمكن ذلك، وصولًا إلى أدق تفصيل، لكان العمل فاشلًا منذ البداية. إذ سيكون الكتاب مُلزَمًا بأن يوجد قبل أن يوجد فعلا. يُولد الكتاب في أثناء تكوُّنه؛ فإذا أجبرتُه على الوجود قبل أن يحين أوانه، فإنني سأكون بذلك أعملُ ضد الطبيعة الحقيقية لتطور القصَّة نفسها.

ولم أعرف طريقة أخرى للكتابة غير ذلك. وأظن أن هذه الطريقة سمحت لي، لست متأكدًا مما قد يقوله الآخرون، بأن أُنتج أعمالًا ذات بناءٍ متينٍ. ففي كتبي، كل لحظةٍ تمرُّ تأخذُ في الاعتبار ما سبقها، تمامًا كما يفعلُ البنَّاء الذي يوازن بين عنصرٍ وآخر حتى لا ينهارُ البناء بأكمله. وهكذا ينمو الكتاب هو الآخر، ساعيًا وراء منطقه الداخلي، لا وراء بنية مفروضة عليه سلفًا.

لا أؤمن بتلك الفكرة القائلة إن بعض الشخصيات تملكُ حياة مستقلة، والكاتب يكتفي باتباعها. على الكاتب أن يكون حذرًا، فلا يُجبر الشخصية على القيام بما يتعارضُ مع منطقها الداخلي أو طبيعتها النفسية، لكن هذا لا يمنحها استقلالًا. فالشخصية عالقة في يد الكاتب، في يدي أنا، وإن كانت لا تدري أنها عالقة. فالشخصيات مشدودة بخيوطٍ، لكن هذه الخيوط مرتخية قليلًا؛ إنها تعيشُ وهم الحرية، تتصرَّفُ كما لو كانت مستقلة، لكنها لا تستطيعُ الذهاب إلى مكانٍ لا أريدها أن تذهب إليه. وعندما يحدثُ ذلك، على الكاتب أن يشدُّ الخيط ويقول لها: أنا من يقودُ الأمور هنا.

لا تنفصلُ الرواية عن الشخصيات التي تظهرُ فيها. فالشخصيات وُجدت لتخدم البنية التي يريدُ الكاتب أن يبنيها. عندما أُدخل شخصيةً ما، أعرفُ أنني أحتاج إليها، وأعرفُ ما أريده منها. لكنها في تلك اللحظة لا تكون مكتملة بعد، إنَّها في طور التكوين. وأنا من يقومُ بعملية التكوين هذه، وإن كان يمكن القول إنها أيضًا عملية تشييد ذاتي للشخصية، أرافقها أثناءها. أي إنني لا أستطيعُ أن أطوِّرُ شخصيةً بما يتناقضُ مع نفسها، بل يجبُ أن أحترمها، وإلا ستبدأُ تفعل أشياء لا تتناسب مع طبيعتها.

على سبيل المثال، لا يمكنني أن أجعلَ شخصيةً ترتكبُ جريمة ما لم يكن ذلك منطقيًّا في ضوء صفاتها ودوافعها. فمن دون تلك الدوافع التي تُبرِّرُ الفعل في عين القارئ، لن يكون الأمر مقنعًا أو ذا معنى.

يتوقَّفُ كثيرٌ من النقَّاد عند كثافة التفاصيل في رواياتي، ويسألون كيف أسيطرُ على هذا الكمِّ مع تطور السَّرد.

والحقيقة أنَّه لا توجدُ عندي طريقةٌ محددةٌ أو انضباطٌ مُحدَّدٌ”. تتدَّفقُ الكلمات واحدةً تلو الأخرى، في تسلسلٍ صارمٍ، بدافع أشبه بالحاجةِ العضوية، إن جاز التَّعبير. ومع ذلك، فهناك في داخلي ”مقياسٌ خفيٌّ”، أشبه بميزانٍ داخليٍّ، يسمحُ لي بأن أتحكَّمَ، أو فلنقل أوازن، تلقائيًّا في اقتصاد السَّرد والتفصيل. من حيث المبدأ، يظل “العقلُ المنطقيُّ”، منفتحًا على جميع الاحتمالات، بينما “العقلُ الحدسيُّ” يسيرُ وفق قوانينه الخاصة، تلك التي تعلِّمُ العقل المنطقي أن يطيعها.

كل ذلك، طبعًا، بعيدٍ عن أي منهجٍ علميٍّ بالمعنى الدقيق؛ إلا إذا اعتبرنا أن هناك ”علمًا فطريًّا لا إراديًّا” ملازمًا للفن نفسه، علمًا لا يستطيعُ من يمارسه، مثلي، إلا أن ”يعيشه من

دون أن يقدر على شرحه”.

وُلدت رواية ”العمى”، كما حدث مع كل رواياتي السابقة، من فكرة خطرت فجأةً في ذهني. (لا أظن أن هذه الصيغة الأدق للتعبير، لكنها أقرب ما أستطيع قوله). كنتُ في مطعمٍ، أنتظرُ الغداء، وفجأةً، من دون أي مقدماتٍ، خطرت لي الفكرة: ”ماذا لو كنا جميعًا عميانًا؟” ثم، وكأنني أجيبُ نفسي، قلت: ”لكننا بالفعل كذلك.” تلك كانت البذرة الأولى للرواية. بعد ذلك لم يكن عليَّ سوى أن أبتكرَ الظروف الأوليَّة وأدع النتائج تتوالد منها. كانت نتائج فظيعة، لكنها تحملُ منطقًا صارمًا كالفولاذ. لا يوجدُ في ”العمى” الكثير من الخيال، بل مجرَّد تطبيقٍ منهجيٍّ للعلاقة بين السبب والنتيجة.

أنا متشائمٌ، لكن ليس إلى الحدِّ الذي يجعلني أطلق رصاصة على رأسي. القسوة التي تشير إليها هي قسوة الحياة اليومية، وهي موجودة في كل مكانٍ من العالم، لا في الرواية وحدها. ونحن، في هذه اللحظة بالذات، نعيش وسط وباءٍ من العمى الأبيض. فالعمى مجاز لعمى العقل البشري، ذلك العمى الذي يجعلنا قادرين، من دون أي صراعٍ داخليٍّ، على إرسال مركبة إلى المريخ لدراسة الصخور هناك، بينما نسمحُ، في الوقت نفسه، لملايين البشر بالموت جوعًا على هذا الكوكب.

وهذا يعني إما أننا ”عميان”، أو أننا ”مجنونون”

قال جابرييل جارثيا ماركيز ذات مرَّةٍ إنَّ كل كاتبٍ، مهما كان غزير الإنتاج، لا يكتبُ في الحقيقة سوى كتابٍ واحدٍ، ثم أضاف أن كتابه هو رواية “مئة عام من العزلة”. في رأيي أنَّ الكُتَّاب يكتبون لأنَّنا، ببساطةٍ شديدةٍ، لا نريدُ أن نموت. لذلك أقول إنَّ الكتاب الذي نصرُّ على كتابته، سواء أكان في صورة كُتبٍ متعددة أم في كتابٍ واحدٍ جامعٍ، هو في جوهره ”كتاب البقاء”. ومع ذلك، من البديهي أننا نخوضُ معركةً خاسرةً، ”فلا شيء ينجو في النهاية”.

أما عن المقولة التي تركها خورخي لويس بورخيس، والتي كثيرًا ما يستشهد بها، حين قال: “كل كتابٍ عظيمٍ وخالدٍ لا بد أن يكون غامضًا”، فأنا أرى أن مثل هذه العبارات التي يطلقها الكُتَّاب الكبار تتركني غالبًا بارد المشاعر تجاهها. فعندما تُقتطع من سياقها وتُفصل عن العمل الأدبي كله، تصبحُ مثار جدل وقد تُكسب قائلها مهابةً زائدةً، لكنها في الوقت نفسه تشلُّ قدرتنا على التفكير بحريةٍ. فإنَّ الغموض في العمل الأدبي، إن لم يكن عيبًا، فلا ينبغي أيضًا أن يُرفع إلى مرتبة الفضيلة التي تمنح الكتاب قيمته الخالدة. بالنسبة إليَّ المسألة أبسط من ذلك بكثير، فغموض الكُتَّاب هو ما يخلق ُغموض الكتب، وربما يكون الغموض في النهاية سمةً متأصلةً في فعل الكتابة نفسه. ولذلك، علينا أن نبحثَ عن عناصرَ أخرى قبل أن نقرِّرَ ما إذا كان الكتاب عظيمًا أو خالدًا حقًّا.

رغم أن هذا التصريح قد يبدو متعاليًا إلى حدِّ السخافة، فإنَّني لا أرى أن هناك تأثيرات بارزة في عملي، باستثناء ربما بعض التقاطعات مع كُتَّاب برتغاليين من القرن السابع عشر.

ومن الكُتَّاب الذين أشعرُ أنَّني أشتركُ معهم في الطبع والرؤية:

جوجول، ومونتين، وسربانتس، جميعهم متشائمون، وكذلك الأب أنطونيو فييرا، الذي كان يوتوبيًّا عمليًّا.

كلُّ رواية هي فعلٌ يائسٌ، محاولةٌ عقيم لإنقاذ شيءٍ ما من الماضي. ولكن لم يُحسَم بعد ما إذا كانت الرواية هي التي تمنع الإنسان من نسيان نفسه، أم أن عجزه عن النسيان هو ما يدفعهُ إلى كتابة الروايات.

إن كتابة رواية تشبه تمامًا صنع كرسي ،يجبُ أن يكون المرء قادرًا على الجلوس عليه، وأن يجدَ فيه توازنًا. وإذا استطعت أن أصنع كرسيًّا رائعًا، فذلك أفضل، ولكن قبل كل شيءٍ، عليَّ أن أتأكدَ من أن له أربعة أرجل ثابتة.

نكتبُ الأشياء، ثم نحكمُ عليها لاحقًا بأنها جيدة أو رديئة، ونعيدُ التفكير فيها. ربما يجدر بنا أن نحتفظ بهذا التصور على أنه استعارة لا عقيدة صارمة؛ فاللغة كانت بحاجة إلى لويس دي كامويش، وكاميلو كاستيلو برانكو، وفرناندو بيسوا، ولأنها خرجتْ تبحث عنهم، وجدَتهم.

أو ربما يمكننا القول إننا لا نرى اللغة تخلقُ الكاتب في اللحظة الدقيقة والحية لعملية الكتابة، لكن حين نتأمل تاريخ الأدب، تمنحنا رؤيتنا منظورًا يسمحُ لنا بأن نرى كيف تنمو اللغة في قدرتها على التعبير.

🛑 طقوس الكتابة عند خوسيه ساراماجو:

عندما أعملُ على مشروع يتطلَّبُ استمرارية، أكتبُ كل يومٍ، أتعرَّضُ لأنواعٍ مختلفةٍ من المقاطعات في البيت أو بسبب السفر، لكن باستثناء ذلك فأنا منتظم جدًّا، ومنضبطٌ إلى حدٍّ كبيرٍ. لا أُلزم نفسي بعدد ساعاتٍ محدَّدٍ من العمل يوميًا، لكنَّني أفرضُ على نفسي إنجاز قدرٍ معين من الكتابة في اليوم، عادةً ما يعادل صفحتين. كتبتُ هذا الصباح صفحتين من روايةٍ جديدةٍ، وغدًا سأكتبُ صفحتين أخريين. قد يبدو لك أن صفحتين في اليوم لا تُعدَّان كثيرًا، لكن هناك أمورًا أخرى عليَّ القيام بها، كتابة نصوص أخرى، أو الرَّد على الرسائل، ثم إن صفحتين في اليوم تعنيان ما يُقارب ثمانمئة صفحة في السنة.

في النهاية، أنا شخصٌ عاديٌّ تمامًا. ليست لديَّ عادات غريبة، ولا أميلُ إلى المبالغة في درامية الأمور. والأهم من ذلك، أنني لا أُضفي طابعًا رومانسيًّا على فعل الكتابة نفسه. لا أتحدَّثُ عن القلق أو العذاب الذي أعيشهُ أثناء الكتابة. لا أعرفُ خوف الصفحة البيضاء أو ما يُعرف بعُقدة الكاتب أو كل تلك الأشياء التي كثيرًا ما نسمع عنها. لا أعاني من أيٍّ منها، لكن لديَّ مشكلات مثل أي شخص آخر يمارسُ أي نوعٍ آخر من العمل. أحيانًا لا تخرجُ الأشياء كما أريدها، أو لا تخرجُ على الإطلاق. وعندما لا تأتي النتيجة كما تمنَّيتُ، لا يبقى أمامي سوى أن أتقبَّلها كما هي.

“تاريخ حصار لشبونة”، هي آخر رواية كتبتها على آلة كاتبة تقليدية*. والحقيقة أنَّني لم أجد أي صعوبةٍ في التكيُّف مع لوحة المفاتيح. وعلى عكس ما يُقال غالبًا عن أن استخدام الحاسوب قد يفسدُ أسلوب الكاتب. ولا أعتقد أن في ذلك أي مساس بالأسلوب، خصوصًا إذا استُخدم كما أستخدمه أنا: كآلة كاتبة فحسب. ما أفعله على الحاسوب هو بالضبط ما كنت سأفعله على الآلة الكاتبة لو كانت ما تزال عندي، والفارق الوحيد أنه أنظف، وأكثر راحة، وأسرع.

لا يُؤثِّر الحاسوب سلبًا في كتابتي. والقول بعكس ذلك يشبه الادِّعاء بأن الانتقال من الكتابة باليد إلى الكتابة على الآلة الكاتبة قد يُغيِّرُ الأسلوب، وأنا لا أؤمن بذلك. فإذا كان لدى الكاتب أسلوبه الخاص ومفرداته الخاصة، فكيف يمكن لطريقة الكتابة على الحاسوب أن تُغيِّرُ تلك الأمور؟

ومع ذلك، ما زلت أشعرُ بارتباطٍ قويٍّ بالورق، وبالصفحة المطبوعة. فأنا أطبعُ دائمًا كل صفحةٍ أنتهي منها. فأشعرُ دائمًا بأنَّ شيئًا ما يُنقصني، عندما لا تكون الصَّفحة المطبوعة أمامي.

أعيدُ قراءة النَّص كاملًا، حين أصلُ إلى نهاية العمل. أقومُ عادةً في تلك المرحلة ببعض التعديلات، تغييرات بسيطة تتعلَّقُ بجزئياتٍ أو بأسلوب الكتابة، أو تحسينات تجعلُ النص أكثر دقّة، لكنها لا تكون تغييرات جوهرية أبدًا.

نحو تسعين في المئة مما أكتبه يبقى كما هو منذ المسودة الأولى. لا أفعل كما يفعلُ بعض الكُتَّاب الذين يبدأون بملخِّصٍ من عشرين صفحة يتحوَّلُ بعد ذلك إلى ثمانين ثم إلى مئتين وخمسين. أنا لا أعملُ بهذه الطريقة. تبدأُ كتبي ككتبٍ وتنمو انطلاقًا من ذاتها.

لديَّ الآن مئة واثنتان وثلاثون صفحة من روايةٍ جديدةٍ، ولن أحاول أن أجعلها مئة وثمانين صفحة؛ فهي ما هي عليه. قد تحدثُ تعديلات داخل هذه الصفحات، لكنها لن تكون من النوع الذي يغيَّرُ البنية أو الطول أو الجوهر. ما أقوم به من تعديلاتٍ يقتصرُ فقط على ما يُحسِّن العمل، لا أكثر.

عندما يكون لديَّ ما أريدُ قوله، عليَّ أن أهيِّئ الظروف الملائمة لكتابته، ومع نمط حياتي الحالي، لا يكون ذلك دائمًا سهلًا. فقد سافرتُ مؤخرًا إلى إيطاليا وألمانيا وتيمور وأمريكا، وأمضت بيلار وأنا شهرًا في لشبونة. لكن رغم كل هذا التنقُّل، خصوصًا بعد جائزة نوبل في الآداب عام 1998، كنتُ أتمكَّنُ من الكتابة، وإن كان الأمر يستغرقُ وقتًا أطول قليلًا. كما أنَّني لا أكتبُ إلا في البيت. لا أستطيعُ الكتابة في الفنادق أو في منزل صديق، مستحيل تمامًا!

لا يخرجُ مني شيء في تلك الأماكن، وهذه ببساطةٍ طريقتي.

في أثناء كتابة روايتي ”الكهف” كنتُ أكتب أربع صفحات في اليوم. يتعلَّقُ الأمر بتنظيم الذهن، فقد يبدو ذلك غير كثير.

قد يساعدني على ذلك أنَّني أبدأُ الكتابة ولديَّ فكرة واضحة عمّا أريدُ قوله، وعن بعض المواقف الأساسية. علاقتي بالكتابة ربما تكون غير مألوفة؛ أشبِّهُها بنموِّ شجرةٍ زُرعت ثم راحت تكبرُ بطريقةٍ تبدو في آنٍ متوقَّعة وغير متوقَّعة. هي متوقّعة لأننا، حين نزرعُ شجرة زيتون، نعرف سلفًا ما ستصبح عليه؛ فالزيتون معروف الشكل. لكنها أيضًا غير متوقَّعة لأن ما من شجرتين متشابهتين تمامًا. وبالمثل، الكتاب يتجذر وينمو وفق منطقه الخاص.

أقوم بعد ذلك بمراجعةٍ نهائيةٍ، أحذفُ فيها التكرارات المزعجة والأخطاء، وأراجعُ النَّص بعنايةٍ. لكن ما أريدُ قوله هو أنَّ منهجي ليس عشوائيًا. فكتبي تُعطي القارئ إحساسًا بالتماسك وبنية حقيقية، وهذا ليس لأنني أقتطع أجزاء ضعيفة وأحاول ”تقويتها”، بل لأنَّ الكتاب ينشأُ قويًا من بدايته، وأنا أقودهُ لينمو بهذه الصلابة.

فالكتابة عملي، وهي ما أبنيه بيدي. لا أؤمنُ بالإلهام، ولا أعرفُ ما يكون. ما أعرفهُ هو أن عليَّ أن أقررَ الجلوس إلى مكتبي. لن يدفعني الإلهام إلى هناك. فالشرط الأول للكتابة بسيط: أن تجلسَ، ثم تكتب.

جوزيه ساراماجو (١٩٢٢-٢٠١٠)

روائي وصحفي بُرتغالي حائز على جائزة نوبل في الآداب عام (1998)

شاهد أيضاً

روبين داريّو؛ أمير الأدب الإسباني الذي تغنّى بفلسطين

(ثقافات) روبين داريّو؛ أمير الأدب الإسباني الذي تغنّى بفلسطين في ذكرى ميلاده 1916/1867 ألمتوكل طه *** …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *