«في المأساوي»: بيتر زابفه والطرح البيولوجي
رامي أبو شهاب
يُستعاد اليوم كتاب الفيلسوف النرويجي بيتر فسِّل زابفه «في المأساوي» بوصفه طرحاً جديداً في فهم الوعي بالمأساة، رغم صدوره عام 1941، إذ إنّ تأخر ترجمته إلى الإنكليزية حتى عام 2024 حدّ من انتشاره، قبل أن يُعاد اكتشافه باعتباره منعطفاً في تعريف المأساوي ضمن الإطار البيولوجي، وفلسفة الوعي. يُشار إلى أن بيتر فسيل زابفه يعدّ واحداً من أكثر الفلاسفة النرويجيين انعزالاً، إذ لم ينتمِ إلى أي تيار فلسفي سائد، حيث بقي في منطقة الظل، بمعنى آخر مارس الانعزال الإرادي الذي حرمه من الانتشار الواسع، بالتوازي مع النأي بالنفس عن ضجيج المؤسسات الأكاديمية، بيد أنه يُعد اليوم من أهم رواد التشاؤمية الحديثة، إلى جانب شوبنهاور وسيوران، ولاسيما بعد ترجمة أعماله إلى الإنكليزية، ومنها كتابا «في المأساوي»، و«الرسول الأخير»، وغيرهما.
الوعي البيولوجي
تتأسس أطروحة زابفه، على الوعي بالمأساة من خلال الإشارة إلى أن الإنسان كائن حي؛ شأنه شأن باقي الكائنات الحية، وبناء على ذلك فهو يخضع لقانون البقاء، أو الصراع مع المحيط أو البيئة، غير أن المعضلة تكمن في أن العقل البشري قد مُنح هذه الهبة للإنسان، غير أنها قد تتحول إلى نقمة حين يفوق الوعي حاجته البيولوجية؛ من مبدأ أن الإنسان، لا يكتفي بتحقيق سبل الحياة، أو احتياجاته فحسب، إنما هو دائم التفكير بالماضي والحاضر والمستقبل، كما في الموت، والمعنى، وما بعد ذلك لينتهي إلى معضلة الوجود، الذي يحفز الوعي بالألم، ومن ثم الإدراك إلى أكثر مما يُحتمل.
قد تبدو الفكرة بسيطة أو بدهية، غير أنّ تأملها بهذه القدرة يجعلنا على وعي أعمق بمعنى الألم، وما يتصل بذلك من إدراك، ووعي وجودي. ومن وجهة نظري الشخصية، فإنّ هذا الطرح، على الرغم من وجاهته في تأصيل فكرة الألم، يحتاج إلى تمييزٍ دقيق؛ إذ إنّ الوعي أو التفكير يتمايزان بين البشر، وبناء على ذلك فإن حاصل الألم قد يتخذ أبعاداً تختلف من شخصٍ إلى آخر. ومن هنا يمكن إدراك جوهر المأساوي تبعاً لتفاوت البشر في الوعي بالمأساة، فكلّما ازداد الإدراك أو اتّسع الوعي ازداد الشعور بالألم.
لقد زوّدت الطبيعة الإنسان بأدوات معرفية تفوق الاحتمال، وبهذا يمكن تفهّم التفرد في هذا التكوين من وجهة نظر زابفه. ومن أمثلة ذلك: الوعي بالموت، وما ينجم عنه من تعميق للأزمة الوجودية، فضلاً عن ارتقاء فكرة الانفصال عن العالم. وكل ما سبق يجعل المأساة ضمن أوسع، وأعمق تجلياتها. غير أنّ هذا التفسير الذي يغرق في مادية واضحة دفع زابفه إلى الاستنتاج بأن الإنسان استدعى الدين، وابتكر الأدب والفنون، ليكتم هذا الألم الوجودي المفرط، أو الناجم عن خلل بيولوجيّ في بنية الكائن على حدّ تعبيره.
المعرفة والمنهج
يستعيد زابفه البحث الكلاسيكي في ما يتعلق بالمأساوي، ويرى أنه مفهوم متعدد ومتباين، إذ تضيف إليه كل حقبة ظلالاً جديدة بتغير الزمن والسياقات. ومن ذلك قيم التباسه بالجمالي والفلسفي والأدبي والديني، بل حتى اليومي. وبناء على ذلك، تكمن المعضلة في تحديد موقع هذا المصطلح: أهو من مجال الميتافيزيقيا، أم النفس، أم الجمال، أم اللغة، أم البيولوجيا؟ غير أنّ زابفه يخلص إلى أنه لا يمكن بأيّ حال الإغراق في مفهوم واحد، أو حصره في مجال بعينه، فالقيمة الحقيقية للمأساوي تكمن في كونه يستغرق المجال الإنساني بأسره، أو بمعنى أدق: التجربة البشرية برمتها. وبهذا يغدو المأساوي صفة لازمة تتصل بمحورية التناقض الداخلي أو القدري، لا خاصية طارئة. يعمد الفيلسوف النرويجي إلى المنهج البيولوجي في سعيه لفهم المأساوي، لا بوصفه علماً فقط، إنما بوصفه رؤية تختبر الحياة ذاتها. فثمة توتر دائم بين المهمة والقدر، أو بين الرغبات والقدرات أو الاستطاعة، بيد أن المشكلة تطرأ حين تتجاوز رغبتنا حدود القدرة. ومن هنا يمكن تفهم مبدأ الصراع الذي يعد، في جوهره، أساس التجربة الإنسانية. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم كان جزءاً من تصورات عدد من العلماء والفلاسفة، أمثال هيغل وفرويد وشوبنهاور، فإن زابفه يقاربه من خلال تأمل في النموذج البيولوجي، وتعالقه مع العالم الخارجي أو مع البيئة بوصفها امتداداً للصيرورة الإنسانية.
ولعل هذا التوجه لا يعمد إلى طيف من التحليلات اللغوية، أو أدواتها فحسب.. إنما يعتني بتأمل محورية أو جوهر المعاناة التي تسم وجود البشر، وأثر ذلك على الجسد، والرؤية، وبروز التعالي لمعنى التعارض بين القدرتين: العقلية والجسدية، وبينهما ثمة ابتهاج وانكسار لينتهي إلى أن المأساوي يعني الوعي العنيف بحدود الحياة بكل ما فيها من تناقض، وغموض، وغرابة.
في فصل «الظروف البيولوجية» يشرع زابفه في بناء الأساس العلمي ـ الأنطولوجي لفكرته عن المأساوي، إذ يرى أن الحياة، في جوهرها عبارة عن صراع بين الكائن و«العالم الخارجي» الذي يتجلى أحياناً في صورة بيئة غير مبالية أو عدائية، أو في قوى مضادة أخرى. ومن هنا ينبثق التوتر بين الحاجة والقدرة، وهي المعضلة التي تلازم الإنسان في وجوده على هذه الأرض. فثمة قلق متأصل بمحاولة البقاء، غير أنّ هذه المحاولة تظل رهينة المحدودية والعوامل البنيوية التي قد تحول دون تحقيقها. وبهذا يمكن إدراك قيمة «الظروف البيولوجية» أو العضوية في تحديد الماهية التعريفية لهذا الطرح الفلسفي، بوصفها البنية التي تفسّر تناقض الوجود الإنساني ذاته.
يتجاوز زابفه البحث في أصل الأنواع وآليات التطور، إلى تأمل موقع الكائن في صراعٍ كوني يتأرجح بين لامبالاة الطبيعة وعدائيتها. ولعل هذا الصراع لا يُدرك إلا عبر الوعي الإنساني الذي يحوله إلى معاناة وتأمل واحتجاج، فتصبح المأساة وعياً مأزوماً يتشكل من تناقض بين الحياة والعالم، وقد يطرأ عن تفاوت القدرة بين النقص والفائض إلى العجز والانهيار، ليمسي الوعي ذاته الشرط البنيوي للمأساة. يرى زابفه في فصل «البدائية والتمايز» أن أصل الحياة يتجسد في «البروتوبلازما» بوصفها مادة حية تحوي كل الإمكانات، قبل أن تقيدها البنية والتخصص، فكل تمايز هو فقدان لحرية الوجود. ومن هذا المنطلق، يصور الإنسان كائناً غير مكتمل، إذ توقفت الطبيعة عن تشكيله، فاضطر إلى إعادة خلق ذاته بالعقل والخيال. وهكذا تصبح بدائيته شرطاً للوعي لا مجرد علامة نقص، بينما يظل عجزه العضوي قائماً، ومن هنا تتولد المأساة من التوتر بين رغبته في الارتقاء، ومحدودية قدراته.
يصوّر زابفه الإنسان كائناً تتحرك مصالحه ضمن جبهات متداخلة: بيولوجية، واجتماعية، وغائية، وميتافيزيقية… تتنازعها رغبتا البقاء مع السعي إلى المعنى. وكلما اتسعت هذه الجبهات، ازداد وعي الإنسان بتناقضاتها، ما يعمق الفعل المأساوي بين الغريزة والوعي. ويمكن فهم ذلك بالانتقال إلى الفصل الخامس، حيث يحدد زابفه المشكلة في كون الإنسان كائناً مفرط التجهيز؛ فقدراته البيولوجية متفوّقة، تجعله غير منسجم مع الطبيعة أو ثابتاً فيها، بما في ذلك قدرة الخيال التي تعمق إحساسه بما لا يستطيع احتماله.
الوعي بالحلول
تكمن بعض الحلول، أو محاولات التلطيف من خلال القبول، أو الإقرار بأن الوجود أو المعنى مأساوي، إذ ينبغي البحث عن بدائل جديدة تتمثل بالهروب من خلال الدين والفن والتسلية، وبذلك يُنظر إلى الآلية الأولى على أنها شجاعة، في حين أن الثانية قد تبدو هروباً من المواجهة. يستعين زابفه بمثال من الطبيعة لتمييز الفارق بين الوعي وغيابه، فالشجرة تموت بلا إدراك، بينما الإنسان حين يفقد أو يشهد كارثة يدرك معنى الفقد، فيتحول الموت لديه من حدث طبيعي إلى تجربة وجودية. فالمعضلة لا تكمن في الموت إنما بالوعي به. ومن هنا يرى زابفه أن الكارثة تُقاس بالمعنى الذي ينتج عنها في الوعي، لا بحجم الخسارة، كما في مأساة «أوديب» الذي تتجاوز مأساته جزئيتي العمى أو الفقد، إلى ما هو أعمق، ونعني إدراكه العميق للمعنى، والقدر.
قد تتخلى المأساوية – كما يرى زابفه – عن فكرة البحث عن معنى أو خلاص خارجي، كونها قيمة قائمة بذاتها تنهض من عمق الوعي الإنساني، ومع ذلك فقد يتحول الأدب إلى مصدر لتجسيد حدودها، كما في «هاملت» و»أنتيغون»، حيث يتداخل العجز بالسمو الجمالي، إذ يكشف الألم عن طاقة التعالي في الأدب الذي يختزل المأساوي في صيغ استعارية تتيح للإنسان ملامسته. ومن هنا يتجلى دور المسرح في الثقافة الإغريقية، بوصفه تجسيداً للصراع بين الإنسان والقدر، إذ قد يعيش المتلقي معنى الكارثة دون أن يفنى فيها، أو يختبرها حقيقة، وهكذا يصبح الفن أداة تكثيف الوعي المأساوي، سواء عبر اللغة أو الصورة الحديثة.
المأساة واللغة
إن النماذج التي يتناولها زابفه تشترك جميعها في قدر من الحتمية؛ فأوديب نتاج جهل يعاقب عليه، بينما يأتي انهيار هاملت نتيجة الفكر، أمّا أنطوني وكليوباترا وفاوست وغيرهم… فتنبثق مأساتهم من التعارض بين الرغبة والمعرفة. وبين هذين الحدّين يتشكل الوعي الذي يقود إلى المأساة، لنصل إلى قانون كوني مفاده أن كل ارتقاء في الوعي يقابله ازدياد في الألم. ومن هذا المنطلق، يتجاوز زابفه الفهم الأرسطي لدور الفن، متخطياً البعد التطهيري الشعوري أو النفسي، ليقدم نموذجاً آخر يقوم على التطهير المعرفي، الذي يمكّن الإنسان من التحرر عبر فهم حدود العالم.
يختتم زابفه أطروحاته في الفصول المتصلة بالنماذج الأدبية بخلاصة مؤدّاها، أن وظيفة الفن تتجاوز مهمة تخليص الإنسان من مأساته، إلى منحه الوعي المنظم بها، بما يحقق نوعاً من النجاة الرمزية، وبهذا يغدو الفن استجابة تطورية للألم والوجود، كما يمكن النظر إليها بوصفها آلية دفاعية تتيح للإنسان إمكانية البقاء إلى حد ما.
يستكشف زابفه المنظورات التي تناولت المأساوي، تبعاً لمنطلقاتها التاريخية والفكرية؛ فاليونانيون ربطوه بالقدر الإلهي، والمسيحية جعلته امتحاناً أخلاقياً، أمّا الحداثة فقرنته بالعبث والعزلة. في المقابل، نظر إليه أرسطو بوصفه تطهيراً، في حين رآه هيغل صراعاً بين حقّين متناقضين، بينما عدّه نيتشه تعبيراً عن الطاقة الديونيسوسية التي تواجه الانهيار بالفعل الخلّاق، وبذلك يقدّم زابفه خلاصة لمفهوم المأساوي، من خلال تراتبية الكائنات وفق مصالحها وقدراتها؛ فالعالم غير العضوي بلا اهتمام، والنبات والحيوان محدودان بالوظيفة، أما الإنسان فيبلغ ذروة التعقيد حين تتجاوز اهتماماته البقاء إلى القيم والمعنى.
وعلى الرغم من كل ذلك، فإن أطروحته قد تظهر قصوراً واضحاً بانغلاقها على البعد البيولوجي، إذ تحصر الصراع بين الكائن وبيئته، مع تجاهل الأبعاد الثقافية والنفسية والتاريخية. كما أن تعامله مع النماذج الأدبية اتخذ طابعاً تجريدياً قد يضعف البعد التطبيقي، إذ تغلب عليه نزعة تشاؤمية لا تتيح أفق الخلق أو المقاومة، كما عند نيتشه أو كامو، فتصوره يجعل من الإنسان كائناً حبيس وعيه، دون منفذ سوى الاعتراف بالهزيمة.
كاتب أردني فلسطيني
- عن القدس العربي
ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!