رغد السهيل وسمفونيّة المدن الخضراء المرئيّة

رغد السهيل وسمفونيّة المدن الخضراء المرئيّة

فاضل عبود التميمي

تسعى هذه المقالة إلى قراءة المجموعة القصصيّة (سمفونيّة المدن المرئيّة) للقاصّة العراقيّة رغد السهيل الصادرة عن المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، 2025، برؤى النقد البيئيّ الذي أحاول من خلاله قراءة العلاقة الرابطة بين الطبيعة، والقصص بهدف إثبات أن قصص المجموعة دارت حول البيئة الخضراء التي انسجم السرد مع تشكيلاتها، وهو يحاول إيجاد وعي إنسانيّ يساند وجود الاخضرار في الحياة، وديمومته بوصفه جمالا مشبّعا بالتأمل والراحة، والبهجة التي تأتي من محيط الإنسان.
لقد انحازت القاصّة في سردها إلى البيئة بوصفها الفضاء الأخضر، الذي أسهم في إنتاج حياة خالية من التعقيد، والموت البطيء، والتصحّر الحياتي، فالبيئة (يوتوبيا) خضراء تتصارع تماما، وحضور أمراض الرأسمال، وسلطة المركز، والمادة بأمراضها القاتلة، وقد تفشّى التصحّر في حياتنا، وبتنا قاب قوسين أو أدنى من فقدان الأنهار، والبساتين، والطيور، ومزارع القرى؛ تلك التي كانت ولمّا تزل علامة فارقة في تاريخ الإنسان ومجاوراته.
انفتحت مجموعة «سمفونيّة المدن المرئيّة» على اقتباسين؛ الأول مستعار من ثقافة القاصّة الموسيقيّة، حاولت من خلاله الدخول إلى الشكل التنظيمي للسمفونيّة التي أفادت من بنائها، وهي توازي بين بناء القصص، والموسيقى، وقد جعلته في صفحة واحدة، أمّا الاقتباس الآخر فقد انفتح على نصّين؛ الأول مستعار من الروائي والرحّال البريطاني لورنس داريل قال فيه: الإنسان ما هو إلا امتداد لروح المكان. والآخر لراي برادبري الأديب والكاتب الأمريكي ونصّه: أنظر إلى العالم، إنّه أكثر روعة من أيّ حلم، وهما بدلالتهما المكانيّة انفتحا على متون القصص دلاليّا، وأسهما في فهمها وتأويلها، فهما أشبه بكولاج مستعار من كتاب آخر لكنّهما صارا جزءا من متنها، بوصفهما نصّين ما ورائيين ربطا بين القصص وتأويلها.
بُنيت مجموعة «سمفونيّة المدن المرئيّة» من أربع حركات مستعارة من البناء السيمفوني المعروف، الذي يعزف بكامل الآلات الموسيقيّة، وكلّ (حركة: نقلة) انفتحت على ثلاث قصص، وللحركة هيكلها، وإيقاعها المرتبط بلفظ سمفونيّة، لتختتم الحركة الرابعة بشكلها السوناتي، بأدوات موسيقيّة محدودة، كانت الحركة الأولى (بهجة الروح) احتوت ثلاث قصص، ومثلها الحركة الثانية (شموس ساطعة)، والثالثة (براءة)، فضلا عن الحركة الرابعة (عيون الجحيم) التي احتوت مقطوعتين: قصتين، والمقطوعة الأخيرة (القصّة) كانت بمنزلة سوناتا الختام، فقد أفادت تلك الحركات، وقصصها من أجواء الموسيقى، وحركة تنامي الصوت في تشكيل النصّ القصصي، وفق جغرافيّات خضراء نكاية بحضور التصحّر، وانهزام البهجة من مستوطنات الإنسان التي خلت من جمال الروح، والسماء الصافية، وحفيف الأشجار، وقد اختارت القاصّة لمتون قصصها الاثنتي عشرة أن تسوح في القارة الأوروبيّة، فضلا عن بلدان خضراء أخرى، مؤكّدة روح المكان الأخضر المشّع في الحياة ونواميسها، فالموسيقى في حقيقتها الكبرى استلهام لأصوات البيئة المختلفة، وهي تتناغم بين أدنى قرار وأعلى جواب.
في قصّة (الدانوب الأخضر) بعنوانها اللونيّ الأجمل إحالة سرديّة على ذلك النهر الذي يقع وسط شرق أوروبا وجنوبها، ينبع من غرب ألمانيا ليمرّ في عشر دول أوروبيّة هي: ألمانيا، والنمسا، وسلوفاكيا، والمجر، وكرواتيا، وصربيا، وبلغاريا، ومولدوفا، ورومانيا، ثمّ أوكرانيا، وكانت الطبيعة في حوض ذلك الدانوب متناغمة في وحدتها (حتى إنّ أغصان الشجر تميل لتعانق البشر، فينبعث من الجذور: دو، ري، مي، فا، صول)، فالموسيقى حاضرة من خلال سلّمها الذي يستعين بالصوت المخضّر من المكان الذي تنعكس سيمياؤه على ثوب الراقصة، وقد شفّ عن تفاصيل جسدها اليانع، فهي عاشقة الشجر، وفي أجواء فريق الناشطين الذين يحذّرون من التغيّر المناخي، فتشيع روح الزراعة، وغرس الشجر، متساوقة والدعوة الصادقة للحفاظ على البيئة، ولا تبخل القصّة على متلقيها بأسماء الأشجار: شجر الدفلى، وأشجار المطاط، والزان، والليلك، والحور الأبيض، والتين، والجميز، واللبلاب، والفلفل الأحمر، والشوك الأسود، فتتعانق كلّها لتصنع مظلّة من الدانتيل الخضراء، وتكمل القصّة سردها باستعارة أجواء الطبيعة من خلال الغيوم التي غطّت سماء المكان لتنعكس ظلالها بشكل جميل على الأرض، فيكون المكان حلّة خضراء على مرمى البصر بأماسي شلّالات ضوء تنهمر من السماء، مثل أسماك مضيئة تسبح في الدانوب.
في قصّة (لوليتا في امستردام) تضحك المدينة فيزهر التوليب، وتفيض قنواتها المائيّة كركرات، كان الاستهلال بشعريّته البيئيّة المؤنسنة، خير دليل على تنامي ألوان التوليب: الأحمر، والأبيض، والأصفر، والوردي، والبنفسجي، والبرتقالي الدالّة جميعا على تجدّد الحياة وبهجتها، فتبدو القصّة مقترنة بمظاهر الطبيعة الأخرى، فتطير الغيوم، وتمطر سماؤها ضحكات جديدة مجنّحة سائلة فتلتقط الأذن البشريّة كركرات أصص الورد الملوّن على جوانب الجسر، وفوق الدرجات، تكركر المدينة ليل نهار، فهي في حالة أنسنة لا تتعب من الكركرة، كما المرشدة السياحية لوليتا، وهي تعلن لا ظلام في أمستردام مدينة المياه الراقصة التي يخشى صاحب المقهى من تلوّث بيئتها.
تقرأ قصّة (زهرة البلقان) فتجد البيئة عامرة بتأثيث الطبيعة، ومكملاتها، فـ(صوفيا) تحيطها الجبال من كل الجهات، فضلا عن الموسيقى التي تشمّ عطورها من خشب الكمان الصارخ في كلّ مكان، وهو يصدح قريبا من التماثيل، والكاتدرائيّات ذات القباب الخضر، والمياه الجارية، وزقزقة العصافير، فاللون الأخضر سيّد المكان، في المدن، والتلال، وبين المنحوتات التي تميّز الأمكنة، ولاسيّما في المقاهي التي تصمّم على شكل غابة مسحورة لتجذب الأطفال.
وتجد في قصّة (إسطنبول والدرّ المنثور) الطبيعة التركيّة بجمالها الطبيعي الأخضر الآسر، فالمقهى يطلّ على البحر الذي تتراقص بين أمواجه مآذن الجامع الأزرق، لترى البيئة تجمع بين الممارسات اليوميّة، والحكايات الدالة على أيديولوجيا رامزة إلى الخيال الروحاني، الذي تشرق ثقافاته في العمارة، وفي جلسات المقهى، وفي الوئام الذي يبهج الحضور، وهو يقارب مظاهر الطبيعة المنسجمة وتصورات الإنسان. في (شقراء البتراء) يحيل السرد على الأردن ليلاحق جمال البيئة في وادي (رم): القمر الموصوف بأنه بقعة مستلّة من كوكب المريخ، فالطبيعة هناك من إبداع خالق عجيب تتحدّى قدرة الإنسان على الابداع، والمحاكاة، بدءا من مغيب الشمس، ومرورا بتنشّق الهواء النقيّ، وصولا إلى إدراك الفضاء المترامي نحو نهاية غير معلومة بطيور تفرش أجنحتها حبّا بالحريّة في ظلّ سماء مشرقة أبدا.
في قصّة (ثور ميلانو) وُجد النحات الإيطالي ميكليه تشيرولي وقد صمّم تمثالا لتفاحة بيضاء فخمة من مواد معدنيّة لتكون رمزا لعلاقة الإنسان بالبيئة، وهي علاقة تشهد الآن اضطرابا واضحا في سوء الاستعمال، والتجاوز على مقدرات البيئة المتوارثة بوصفها نشاطا يتبنى وجود التماثيل، والمنحوتات بعدّها حضورا فعالا في حياة تعنى بالإنسان، ونماذجه الكبرى التي لها صلة بثقافته، وتصوّراته الواعية. وتجد في قصّة أخرى الوصف معقودا على محبّة البيئة: (كان يوما خريفيّا باردا من صباحات نابولي الايطاليّة. أمطرت فيه السماء بغزارة وتدفق، وكذلك أمطرت عيون السيدة (صوفيا) بالغزارة والتدفق نفسيهما، فلا كفّ المطر ولا جفّت عيناها طوال اليوم)، وتقرأ وصفا آخر (لقد أفزعتني فوهة الجبل التي ظلت تتوسع مطلقة صوتا مرعبا يتواصل صداه، ثم نفثت من جوفها الحمم النارية)، فالوصف في النصّين السابقين احتلَّ مكانة مهمّة في القصّة، وأصبح أثره أكثر فاعليّة، حين راهن على الجدّة، والمغايرة، والاتيان بما هو جميل، وهو ما سمح به تخيّل اللغة ليكون الوصف كاشفا ماهرا لثقافتين؛ ثقافة النصّ الذي قَبِلَ أن يكون أداة للاتصال بالمكان، وثقافة البيئة التي تحضر بسبب التفاعل بين الإنسان، وما تحيط به من حيوات.
تنحاز لغة القصص نحو البيئة أيضا رابطة العبارة، واللون الأخضر المنتزع من الطبيعة بما هو مبهج وتأمليّ، وقد كشف ذلك الانحياز عن مقدار الانسجام مع مكوّنات البيئة الخضراء، فالعمر في لغة السرد له ربيع يانع في حياة الإنسان، والمدينة التي تحلم بها الشخصيّة الساردة فراشة طارت فوق البراكين، وفم المرأة وردة مضمومة الأوراق لم تتفتّح بعد، وبسمتها مثل شمس الغبش، والغترات التي توضع على رؤوس الرجال بيضاء نوارس تتعانق أجنحتها، فضلا عن أنّ المكتبة التي تضمّ الكتب خضراء في ما تحتوي من متون، وشلالات البراءة تغدو حبّة دراق في أوان نضوجها، فضلا عن أن الانفعالات في لغة السرد كانت طوفان بحر يشبه غزالا راكضا نحو هدفه، ولك أن تتأمّل في إحدى القصص وجنتي المرأة الريّانتين وقد شبهتا بخوخة طريّة.
إنّ اللغة المشار إلى قسم من تمثيلاتها السابقة طاعنة في الانتماء إلى البيئة، بما تنسجم وتطلعات النقد البيئي إيمانا من القصص نفسها، بضرورة التقريب بين الحاجات الإنسانيّة، ومعطيات الطبيعة، فالتشبيهات، والاستعارات، والتناصات، وألفاظ معجم البيئة في سرد القصص تجاوزت فكرة وجودها المحض في الحياة المعروفة، التي يمكن لأيّ لسان أن يتحسّسها، إلى إحالات ذات نمط خاص بهويّة سرديّة ذات تمظهرات واضحة لها شكلها الثقافي المتفرّد المنتزع من البيئة، ولها أسلوب تضافرت في سياقاته أكثر الصيغ تأثيرا في التلقي، والتخييل.
أكاديمي وناقد من العراق

شاهد أيضاً

جائزة سميحة خريس للرواية الأولى

جائزة سميحة خريس للرواية الأولى يوسف أبو لوز أطلقت دار (الآن ناشرون وموزّعون)، ومقرّها في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *