محمد عفيفي مطر: حملَ عصا الريح ورحل

(ثقافات)

محمد عفيفي مطر: حملَ عصا الريح ورحل

* موسى حوامدة

تعرفت إلى محمد عفيفي مطر قبل أكثر من عشرين عاماً، في أحد مهرجانات جرش. وفي مهرجان المربد عام 2000، كنا برفقته حين طلبت منه انةيضع إكليل الزهور على تمثال السياب في البصرة. كان الراحل شاعراً حقيقياً: كان يتصرف ببساطة داهشة، وبنقاء عجيب، وبلا عقد، ولا تكلف. كان حاد النظر، حاد المزاج، شاعراً رافضاً لا يقبل الدجل والتدليس، وينفر من كل سلطة، ومن كل مثقف لا يحترم نفسه. لم يسعَ إلى منصب أو مكسب مالي، أو موقع ثقافي: فلم يسبق له أن وقف إلى جانب مصلحته الشخصية على حساب قيمه ومبادئه وشعره. لذلك كان صوته المعارض يجلجل، دائماً، حين يرفض ما يذهب إليه الكثيرون في الأوساط الثقافية العربية، وفي الساحة المصرية، وفي لجنة الشعر أو في اتحاد كتاب مصر، أو حتى في جلساته الحميمة والبسيطة.
وفي زمن تكسرت فيه النصال على النصال، كما يقول أبو الطيب، وتساقَط الرجال تساقُط الجراد الميت، ظل محمد عفيفي شامخاً، لم يهادن ولم ينحن ولم يركع. ورغم أنه اعتقل وعذب تعذيباً قاسياً ومرعباً بعد الغزو الأمريكي للخليج، عام 1991، إلاّ أنّ التعذيب لم يورثه سوى الصلابة والتمسك بمبادئه، بينما سال لعاب كثيرين من أجل مكاسب تافهة وسخيفة.
دافع عفيفي عن العراق دفاعاً مستميتاً. لم يقف مع نظام العراق، ولم يستفد كما استفاد كثيرون وقلبوا ظهر المجن له لما حوصر وتم احتلاله.
دافع عن فلسطين ودافع عن الحلم المصري والكرامة المصرية. وكان يعشق الأطفال، وخصص لهم العديد من كتاباته، لا بل كان ـ آخرَ مرة قابلته، في معرض الكتاب الدولي بالقاهرة، قبل الأخير ـ متحمساً جداً لما كتبه للأطفال.
كان صوته الشعري متفرداً، وكان بناءً مستقلاً. هضم الشعر العربي القديم، والفلسفة، والفكر العربي كله، ووصل إلى قناعة بجفاف الشعر العامودي، ودخل فضاء القصيدة الحديثة بفهم وبعد نظر. لم يتكئ على أحد: لم يكن إلا صوته الخاص، وأسلوبه المتفرد. ورغم اعتراض الكثيرين على غموضه، إلاّ أنه كان يؤمن بأن الشعر ليس مقالاً نثرياً عادياً، وكان يبني صوراً شعرية متدافعة وقوية، وهذا ما كان يرهق قارئ شعره العادي، حيث لا يحتمل الغموض والتكثيف لديه. وبرغم أن كثيرين من الشعراء غرفوا من شعره، واعتمدوا، عليه وسرقوا، من قصائده، فإنه لم يكن يبالغ في المسألة، وكان يقول: هذا يكفيني. حتى أن أحد الشعراء المصريين قرأ، ذات مرة، قصيدته بوجوده، فقال له أحدهم: هذه قصيدة عفيفي. فردّ، بلا غضب: هذا يكفيني.
ظل صاحب موقف، رافضاً قبول الهدايا والأعطيات، وتدخل الدولة لعلاج المثقفين في أواخر حياتهم: فقد رفض العلاج على نفقة الدولة، وحاول إخفاء مرضه عن أقرب الناس له، حتى أنه ـ في الآونة الأخيرة ـ تكتم على حالته الصحية، وطلب أن يدفن في وضح النهار، وليس في العتمة.
وإذا كان الموت حقاً على كل بني آدم، والسعي للحياة يتطلب تقديم العديد من التنازلات، والعمل لتكريس اسم الشاعر كما يتطلب إقامة العديد من العلاقات مع المؤسسات والمنابر، فإنّ عفيفي ظل بعيداً عن التنازلات والمساومات والمجاملة، حدّ أنه لم يطبع في مصر الكثير من مجموعاته وكتبه. وعندما بودر إلى طباعة أعماله الكاملةً، في مصر، أسوة بغيره من الكتاب المصريين، ألغي المشروع في آخر لحظة.

كتب الراحل جزءاً من سيرته في كتابه “أوائل زيارات الدهشة ـ هوامش التكوين”، ومن خلال هذا الكتاب يمكن التعرف أكثر إلى سيرة شاعر مليء بالغضب: سيرة البساطة التي دفعته إلى حب الفلسفة والشعر والغموض، والعيش في جنة الكرامة. لم يأخذ حقه حتى في بلده، ورغم رحيله البسيط بساطة حياته وسيرته، فإنّ أثره في كثير من الشعراء سيظل بارزاً. وبالنسبة لي، فلن أنسى مشهد الوداع الأخير في القاهرة: إذْ ـ بعد أن تلاقينا أياماً عدة، وبعد جلسات بسيطة جمعتنا في معرض الكتاب، وبحضور بعض الأصدقاء ـ حمل عصاه كأنه يحمل الريح، ومضى بخفة شاعرية، كأنه يطوي بلاداً تضيع من بين يديه لكنها تتجمع كاملة في قبضة يده وصدره.

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

تعليق واحد

  1. مقالة قيمة، شكراُ أستاذ موسى حوامدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *