كيف ندرِكُ الشَّر؟!

(ثقافات)

كيف ندرِكُ الشَّر؟!

د. يوسف كوفحي

 

يَكْثر الحديثُ عند أغلب النّاس حينما تقع نازلة من نوازل الطّبيعة حول أسباب حدوثها، وينتشرُ على وسائل التّواصل الاجتماعي وغيرها السّؤالُ الدّارجُ المعروف، هل هذه الكوارث عقاب أم هي حدث طبيعيّ ليس له علاقة بالبشر وسلوكاتهم وعقائدهم؟ ثم ينقسم النّاس إلى قسمين: قِسْم يستنكر أنْ تكون هذه الأحداث عقابا، منطلقا من أنّها تقع على الصّالح والفاسد، وعلى الفاجر والبرّ،  عدا عن وقوعها على غير المُكلَّفين كالأطفال مثلا. ولا ريب في أنّ عذابات الأطفال تلك، هي الحجة التي يتغنّى بها الملحد ليلا ونهارا، مؤكدا عدم وجود إله من أصله، أو وجود إله بلا قدرة وبلا إرادة وبلا رحمة، وأنّه إله شرّير ومجرم، متكئا على آلام الأطفال، ومتسائلا: ما ذنب الأطفال الذين قُتِلوا وتشوّهوا وأوذوا ويُتِّموا وشُرِّدوا؟ أضف إلى ذلك، ما تحدِثُه تلك الكوارثُ من تدمير وتخريبٍ وهلاكٍ للحرث والنّسل.

وهكذا، فإنّي أزعم، أنَّ فكرة الشّرّ، تلك، بوصفها معضلة، يتشبّث بها الملحد ليثبت عدم وجود إله، هي صحيحة من وجهين، إذا اتُّفِق عليهما:

الوجه الأول: أنّ معضلة الشّرّ صحيحة إذا اتفقنا أنّنا نعيش في المدينة الفاضلة أو الفردوس أو جنة النّعيم، وأنّنا نعيش الحياة الأبدية في ذلك النّعيم، ولسْنا نعيش حياة أرضية وبطبيعة بشريّة بُنِيت على الشّقاء والأحزان والهموم والأمراض، ومحكوم عليها بالموت عاجلا أم آجلا. فالحقيقة المطلقة، بوصفها واقعا عينيا ويقينيا نعيشه،  وبوصفها مُخبَرًا عنه لنا كحياة، عند المسلمين وعند غيرهم من الأديان والملل أنَّ هذه الحياة التي نعيشها هي حياة الشّقاء والألم والحزن والحروب والكوارث الطبيعية والقتل والفقد وغير ذلك من الآلام والأحزان. وقد خُلِقت للابتلاء والاختبار والتّمحيص، وثمّة حساب وعذاب ونعيم بعد انقضاء تلك الحياة. وهكذا، فإنّ معضلة الشّر بوصفها دليلا على عدم وجود إله أو وجود إله شرير، لا قيمة لها إطلاقا، وهي مغالطة منطقيّة جليّة لا تصلح برهانا قطعا.

أمّا الوجه الآخر، فإنّ معضلة الشّر بوصفها دليلا على عدم وجود إله صحيحة إذا اتفقنا على أن مفهوم الشر نظرية وليس واقعا راهنًا، بمعنى أنْ نتفقَ على الشّرّ باعتباره مفهوما، لا كماصدق، فهل الشّرّ باعتباره مفهوما له ماصدق عيني أو ذاتي، أمْ هو لحظة آنية مرتبطة بالشّعور الإنسانيّ؟ وهل الشعور الإنسانيّ ذلك مرهون بالمصلحة الآنية أم بمآلات الأمور؟ بمعنى أوضح ربما، هل الشّر الذي نسميه شرا هو ثابت محدد بغض النّظر عن الزّمان والمكان، أم هو متغير ومتحول بتحول الزّمان، وما أعنيه هنا هو التّحول الماصدقي للشّر أو الشّعوري له، وليس التّحول المفهومي له بوصفه لغة، أي لا أعني التحول بالمفهوم “النيتشوي” للشّر .

وبلا ريب، فإنَّ الشّر متحول ومتغير حسب الزّمان، إذ إنّه مرهون باللّحظة الآنية للشّعور به بوصفه شرّا؛ أيْ مرهون به بوصفه فترة زمنيّة حتما هي منقضية بأيّ شكلٍ من الأشكال، فاللّحظة الشّريّة مهما طالت، هي لحظة صفرية زمنيّا وقت انقضائها، هي صفرية في مشاعرنا بوصفنا بشرا، ندرك الزمن بأبعاده الثّلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل، فكيف إذا كانت هذه الأبعاد صفرا زمنيا عند الخالق سبحانه. فالمسألة لا تعدو كونها فِلْما في شريط فيديو أُنْتِج وصُوِّر من عشرات السّنين، وأحداثه منتهية كلّها بمأساتها وملهاتها، بخيرها وشرّها، بحقّها وباطلها. وخاتمة هذا الفِلْم معروفة لكلّ من شاهده، وعرف نهاية هذا الصّراع الدّرامي الدّامي والمخيف. فحركة شريط الفلم وهو ينتقل من مشهد لمشهد، هي نفسها حركة الأرض وهي تنتقل من حدث لحدث، ومن حِقْبة زمنية لأخرى، فتخيّل نفسَك جالسا على حافة الكون في نقطة خارجة عن الزمن، وأنت تشاهد المشاهد الأرضيّة أحداثا سنيمائية، تقوم على صراع الخير والشّر، وهي تتكرر باستمرار، وتظهر لك نهايات كلّ حِقْبة زمنيّة ومآلات النّاس فيها. وفي تلك اللحظة التي تشاهد فيها تلك الأحداث من مبتدئها، في أدنى حافة الكون، حتى نهايتها المحتومة لك، في أقصى الحافة الأخرى. وقتئذ، فإنّك لن تقرأ الشرّ شرّا بالمرّة، لن تراه شرّا أصلا من حيث هو شرّ، ولن تعترف بوجود شيء اسمه شرّ إلا إذا هَبَطتَ إلى الأرض ودَخَلَت في زمكانها.

ولا شكَّ في أنّ قصة سيدنا موسى مع العبد الصّالح في سورة الكهف كفيلة بأنْ تجيبَ عن كل أسئلة الشّر، الشّر بالمنظور البشريّ الضيق والمرهون بأبعادنا الزمنية، باعتبار الشّر الشّعوري الآني للبشر، سعادة ونعمة في مستقبل الوقت، الذي هو أيضا، شعور آني، وهما شعوران في لحظة الصّفر الزّمني لنا؛ أيْ في الزّمن الوهمي، وهو وهمي فعلا، كما هو مقرّر في علم الفيزياء. فموسى عليه السّلام، كان يرى الشّر شرّا في حدوده الزّمكانية، أمّا العبد الصّالح فقد كان يراها غير ذلك، بل لم يرها شرّا ألبتة، فقد كان كصاحبنا الجالس على حافة الكون.

وفي ظلّ ذلك السّياق، قد يسأل سائلٌ، عن سبب خَلْقِنا على تلكم الهيئة وفي زمكان الأرض؛ أيْ فإذا كانت الحياة التي نعيشها بهذه التّعاسة والألم والشّقاء، لماذا خَلَقَنا الله، إذنْ، في حياة هذه سنتها؟ فهي شرّ من أصلها، أيْ أنّ خَلْقنا بهذه الآلية الزّمكانيّة من الحياة على الأرض مدة زمنية، كي نصارع الآلام والأحزان والموت، هي فكرة تتناقض مع الإيمان بوجود إله رحيم ولطيف وودود، فلماذا لم يخلقنا الله سبحانه المتصف بالرحمة خلقا كالملائكة؟ أو أنْ يخلقنا في حياة خالدة في جنة النّعيم مباشرة؟ وإنْ كان القرآن العظيم قد أجاب عن تلكم التّساؤلات بوضوح جليّ، إلا أنّني حتى أفهم ذلك كلّه، لا بدّ أنْ أكون إلها حكيما وعليما وقادرا، وهذا محال لكائن بشري مخلوق لا حول له ولا قوة، فالله خلقنا على هذه الهيئة في إطار زمان ومكان محددين، لِحكمة يعلمها سبحانه، وليس بِمُكْنَتنا أن نُنْكر أنّنا كذلك، شئنا أم أبينا، وسواء آمنا أم ألحدنا، تواضعنا أم تَكَبَّرنا، فنحن كائنات حقيرة وضعيفة ومحتاجة باستمرار لكلّ شيء. أمّا إذا كنتَ مُنكِرا لتلك الحكمة، فعليك أنْ تكون مؤمنا بقناعتك إيمانا صادقا، مُدعِّما نفسك بالأدلة والحُجج، التي ترى أنّها قد تدفع عنك العذاب يوم الحِساب.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *