(ثقافات)
محمد إبراهيم لافي: درج الشعر ما زال أخضر
د.محمد عبيد الله
محمد إبراهيم لافي شاعر الحزن الصامد الأسيان، الحزن الذي يكفي لكتابة الشجن، والحدب على الكائنات الجريحة. من أبرز شعراء السبعينات في تجربة الشعر الحديث في الأردن وفلسطين، بدأ بديوانه الأول:(مواويل على دروب الغربة) عام 1973 وأتبعه بعمله الثاني: (الانحدار من كهف الرقيم) عام 1975. وقد مثل هذان العملان بداية شعرية متدفقة ضمن صعود شعر المقاومة، ولكن ذلك الحس المأساوي وتلك النبرة الرومانتيكية صحٍباه منذ البداية ليفتحا للشاعر بوابة القول الخاص، ورغم أنه حاول أن يكتب المجموع وتوجهاته إلا أن الصوت الذاتي/ صوت الشاعر كان حاضرا يقظا منذ البداية. وربما أسهمت هذه النافذة في توجيه قصيدة لافي لتكون قصيدة تجربة تعتمد على تدفق الذات ومجموع خبراتها ومشاعرها وتأملاتها في العالم المحيط وفي خيوط السيرة وأسئلة المآل الشخصي والجمعي.
ولد محمد لافي في قرية حتا الفلسطينية قريبا من حدث النكبة المزلزلة، وعاش نكبتين متتابعتين: الأولى لحق بذيولها طفلا لاجئا، والثانية عاشها فتى في (العوجا) في الناحية الفلسطينية من ضفة نهر الأردن قرب أريحا، والعوجا المنسية هي أول الطريق إلى العبور من الطفولة إلى الصبا والشباب المجرح بالمناشير واللافتات، وبوعود التحرير والثورة وصعود الروح الفدائية الواعدة. تشرب لافي معنى الغربة إنسانا وشاعرا وتضاعفت غربته على مر السنوات. أما تكوينه الشعري فساعده على تحويل الغربة إلى صيغة إنسانية تعمق حس الاغتراب وتصفيه ليغدو مدى من الإنسانية الشفافة والشعر الجميل. إنه واحد من أبرز شعراء الشجن، يعلمك كيف تتخلص من الحزن كي لا يقتلك، وكيف يتحول الحزن المميت إلى شعر متدفق يرثي ويبكي، لكنه يصمد ويقاوم. الحزن المقاوم والفارس المخذول دون وطن أو حبيبة تلك صورة الفتى وهو يستعيد فتنة الذكريات وفروق الغربة.
صمت لافي في المرحلة البيروتية ولكن زلزال بيروت وخروج المقاومة فجّر فيه الشعر من جديد فنشر عام 1985 ديوانه الثالث على شكل قصيدة يجتمع فيها الغناء والدراما، ويبرز فيها الرثاء الذي يقاوم السقوط. ومثلت )قصيدة الخروج( خروج لافي نفسه من دور إلى دور. وهو ما برز بصورة أوضح في أول التسعينات عندما نشر ديوانه الرابع: نقوش الولد الضال، مستبدلا القصيدة القصيرة بالشكل المطول الذي انتهى إليه في قصيدة الخروج. ولم يكن هذا التحول من النفس الطويل إلى التوقيعات الجارحة الموجزة مجرد تحول من شكل طويل إلى شكل شديد القصر، بل كان تمثيلا شعريا دقيقا وحارا لتمزقات الذات وتصدعاتها: لم يعد هناك عالم متماسك ليكتب عنه الشاعر. تمزّق العالم إلى كسر من الذكريات والصور والأشتات التي تجمعها القصيدة القصيرة بقفلتها القوية المؤثرة وإيقاعها الفاتن الحزين. وقد أعطت تلك القصيدة أو التوقيعة سمات مميزة لهذا الصوت الذي يجدد تقاليد الرثاء: رثاء النفس كما كان ابن الريب يفعل، ورثاء الجماعة وهجاء الذين تبدلوا وانقلبوا. لافي شاعر وفيّ للمعاني الكبرى التي تغذي الشاعر والإنسان فيه، وهو ضد التحولات التي تأخذ صورة انقلاب على المبادئ، ضد سياسة الأخذ بالأمر الواقع، وبصورة ما يمكن أن نقرأ في قصيدته التسعينية هجاء للواقع الفلسطيني والعربي في ضوء ما آل إليه الحال من مفاوضات مباشرة واتفاقيات مع العدو والمحتل. لم يحتمل الشاعر ما حدث ويحدث، فكتب مراثيه وأحزانه وهجائياته بروح الشجن نفسها: تصوير سقوط الرايات وانكسارها، واستذكار علامات المقاومة زمن خيبتها، الشهداء والدم والمناشير والحزب تحضر عند لافي بصيغة جديدة تعيد حضورها في زمن غيابها وخيبتها، ولكن بصيغة الرثاء والاعتراف بالخيبة. وأما الطفولة والعوجا وأريحا فخزان كبير يفتش فيه لافي عن شعر وأحزان، وهكذا دخلت السيرة على نحو أوضح إلى القصيدة. ومن مجموع هموم الذات والجماعة والبعد السياسي المندمج بالإنساني تطورت قصيدة لافي في شكل قصيدة لا تملك إلا أن تحبها وتتعلق بها لأنها تفتح فيك بوابة الحزن وتشرع أمامك مدى من الخيبات التي تعودت أن تغمض عينيك عنها. وبعيدا عن اليأس، وقريبا من الحزن المقاوم كتب لافي: مقفى بالرماة (1993) وأفتح بابا للغزالة (1996) ثم عمله المدهش: لم يعد درج العمر أخضر(2005)…في كل هذه الأعمال ظل لافي الفتى الذي يفر من الخيبة عبر تحويلها إلى قصيدة، يعتصم بالشعر الأسيان من قسوة العالم الذي أودى بالأحلام الكبرى وبالمعاني النبيلة التي كان لها من يدافع عنها ويحميها.. لافي واحد من آخر المحاربين والمنافحين عن تلك القيم الكبيرة.. قيمة أن تكون إنسانا في عالم لا يعترف بالإنسان.
إنه شاعر (لا) بصيغة دونكيشوتية_كما يصفه صديقه رشاد أبو شاور_ دونكيشوت الذي يصر على استمرار عهد الفروسية بعدما غاب الفرسان أنفسهم وصارت سيوفهم من خشب، ولكنه لا يملك إلا قصيدته التي تتغذى بالطفولي وبمواقف من السيرة الشخصية وبخيوط من الموال والأغنية الشعبية، إنها تبحث عن بلاغتها من خلال بساطتها الآسرة ومن خلال حرصها على البعد التواصلي الجماهيري بعيدا عن اللغة الشعاراتية، قصيدة لافي تعلمك كيف تميز بين البساطة والسطحية، وبين الوضوح والمباشرة. شاعر جميل واضح في حزنه وشجنه، يكتب مراثيه الجديدة بلغة أليفة صادقة…تعيد القارئ أو السامع إلى جوهر الشعر الذي يحرك المتلقي ويبني معه ميثاقا جديدا في زمن تراجع الشعر وغياب حضوره في الحياة العربية الراهنة.
مرتبط
إقرأ أيضاً
-
-
-
جماليات ما بعد الرعب*محمد العباس لم يعد من الممكن كتابة الشعر بعد أوشفيتز، هذه العبارة التي قالها تيودور…