افرح يا قلبي: في السرد وتمثّلات المجتمع

(ثقافات)

افرح يا قلبي: في السرد وتمثّلات المجتمع

ليندا نصّار

طالعتنا الروائية علوية صبح برواية جديدة معنونة بـ “افرح يا قلبي” صادرة حديثًا عن دار الآداب بغلاف من تصميم الفنانة نجاح طاهر. ويعدّ العنوان من العتبات المهمة للنص بحسب جيرار جينيت، فهو الباب الذي يشكل جاذبًا للمتلقي ويدفع به نحو التفكير بمضمون المنجز الأدبي مهما يكن نوعه. ويحيلنا العنوان هنا إلى التفكير بأغنية أم كلثوم التي يتكرر ذكرها في أكثر من مكان في الرواية. كما يوحي بالحاجة إلى بناء فرح ممكن حيث تقيم الروائية في المسافة الفاصلة بين الواقع اللبناني وما هو عليه وبين المتخيل الذي تتمناه ويتمناه كل لبناني عاش الحرب الأهلية وظلم في الأزمات التي مر بها وطنه وما زالت مستمرة حتى اليوم.

“إنّ الغالب كان شعوري الدائم إني في غير مكاني”/ “المنفى قوة قسرية لا تنجسر في الكائن البشري وموطنه الأصلي، بين النفس ووطنها الحقيقي، ولا يمكن التغلب على الحزن الناجم عن هذا الانقطاع. أيا كانت إنجازات المنفى فإنها خاضعة على الدوام لإحساس الفقد”، بهذه الاقتباسات حول الغربة والمنفى والموسيقى وغيرها، استهلت علوية صبح روايتها، وكأنّها تدعو قارئها إلى توقّع موضوع الرواية، قبل أن تبدأ سرد الأحداث بأسلوب سلس حيث مثّلت الشخصيات أدوارها ضمن زمنين متعاقبين: زمن الماضي أو الاسترجاع الداخلي حيث تكمل الروائية الأحداث فتشير إلى اللحظات المستعادة من خلال الشخصية الرئيسة غسان وحياته الماضية في وطنه وعلاقاته، وبين الزمن الحاضر حيث تعرف على كريستن في الغربة وأحبها وتزوجها. وتسير عوالم الرواية من خلال هذه الشخصية الرئيسة التي تتحلق حولها الأحداث في الفضاءات المكانية التي أدت فيها الشخصيات أدوارها بين الوطن والغربة.

أسئلة الرواية

تطرح الروائية أسئلة عدة ترافقها مشاعر عميقة وهواجس كثيرة في هذه الرواية، فيرد هنا سؤال الهوية والانتماء وعلاقة الإنسان بوطنه والخوف على المصير والصراع الذي يعيشه الإنسان بين عالمين قد بني على أساسهما السرد الروائي. وتتداخل الأحداث حيث تبدع الكاتبة في وصف قضايا الشباب والمراهقين ورفض الواقع ومحاولة التغيير، وعلاقة الأهل بالأبناء والمتزوجين ببعضهم البعض، كما تركّز الرواية على صورة الوالد الذي يمثل شخصية الأب المتسلط المتحكم بمصير أفراد عائلته وبزوجته التي يعاملها بقسوة ويقوم بتعنيفها.

إذًا نحن هنا أمام جيلين: جيل الأهل وجيل الأبناء باختلاف المراحل وطرق التفكير والتصرفات. وترتسم الحيوات المتداخلة ببعضها البعض بين الأب والأم والأبناء الستة، وكأننا هنا أمام لوحة مركبة ومترابطة ببعضها البعض. ويكشف التخييل الروائي عن مكونات المجتمع وطبائع الشخصيات عبر الحوار أو الحكي والرواي.

غسان الشخصية الرومنسية الحالمة وهو الموسيقي أو العازف الذي يمثل صورة كل مبدع مرهف متعلق بالموسيقى، وقد ولدت معاناة وطنه في نفسه والظروف الاجتماعية والعائلية ردة فعل ضد كل ما هو شرقي حيث قرر هجر الشرق والعزف على الآلات الشرقية للبحث عن انتماء جديد للغرب فيبدأ بالعزف على الآلات الغربية. أما نور فهي حب غسان وقد تزوجت وسافرت ثم عادت مطلقة لرفضها مشاركة زوجها السرير.

إذًا سافر غسان بمساعدة صديقه سعيد الذي تعرّف إليه عندما كان يدرس في الجامعة الأميركية في بيروت، وكانت وجهته نيويورك فاشتغل مدرسًا في معهد للموسيقى وكان يعزف في مطعم إيطالي حيث يتعرف إلى كريستن التي تكبره بسنوات وهي أستاذة الفلسفة ومادة الصوفية وعاشقة التراث الشرقي التي سيعجب بشخصها وأسلوب تفكيرها وسيتزوجها في مرحلة لاحقة.

للكاتبة رؤية سردية رسمت صورة الشخصية الرئيسة التي ترتبط فيها كل الأحداث في الزمنين والمكانين المذكورين حيث أتقنت لعبة الضمائر في إطار لغة قريبة من المتلقي ومفردات بعضها مأخوذ من مجتمعه ولغته وقد بدا هنا التفاوت بين الشخصيات من ناحية الثقافة والمعرفة أيضًا.

لم يكن حلم غسان كبيرًا فهذا الشاب مثل أي شاب يبحث عن حقه بحياة فيها الحد الأدنى من الاستقرار وهذا ما بحث عنه ولم يجده في مجتمع لبناني محكوم بالتمزق والصراعات التي لا تلبث أن تغيب عنه حتى تطل عليه من جديد وتدمر أحلام شبابه. لكن وبالرغم من كل ذلك نلمح حيرة غسان في الغربة وتتمثل بين العودة واللاعودة ويبدو ذلك من خلال الحكي على لسانه في حديث دار بينه وبين صديقه سعيد في بدايات مرحلة الغربة حيث تبدو رغبته القوية في نسيان الماضي وتغيير نمط الحياة.

“غسان: أنا خائف من البقاء وخائف من العودة وإن بقيت كل حياتي هنا أخاف ألا يعرفني بلدي ولا أنا أعرفه.

سعيد: الغربة هي أن تعيش في مكانك وبين أهلك وفي بلادك وتشعر بها”.

في موقف آخر لافت تروي علوية صبح عن غسان “هو لا يريد أن تكون المرأة خاضعة له، لطالما كره خضوع أمه والخاضعات في بلده”، بحيث تبدو حالة رفض تصرفات والده وطبعه وفي المقابل رفض حالة الخضوع التي تعيشها المرأة متمثلة بالأم، وكأنه يأبى أن يبني أو يستنسخ عائلة مماثلة لعائلته. فالمرأة التي امحت هويتها وصارت فاقدة القرار، تعيش في مناطق مظلمة فرضها عليها زوجها لم تبذل أيّ جهد للتحرر من سلطته في مجتمع ذكوري بل كانت تمارس الصبر وتسعى لإرضائه على الرغم من قسوته وخياناته المتكررة لها لكي لا تخسره.

“ينظر غسان بأسى وغضب إلى العصي المتنوعة الأشكال والأحجام المعلقة على حائط المطبخ قبالة أمه دائمًا تذكرها بقصاصها حيث يقول الأب: شو يا بنت الكلب بأي عصا بدك تاكلي قتلة؟ بينما لسانه يقطر عسلًا مع النساء”.

لوحة مركبة من ستة إخوة

إننا أمام لوحة مركبة من ستة إخوة مختلفي الأطباع والشخصيات يشكلون صورًا عن المجتمعات فنجدهم في كل زمان ومكان. وغسان يراقبهم ويدرك مزاجهم وخياراتهم ويعرف أنه مختلف عنهم. فهو يدرك جيدًا حالة الالتباس الهوياتي التي يعيشها أخوه سليم حين ينظر إلى نفسه بغرابة في المرآة ويراقب حركاته الأنثوية ونعومة جسده ويقارن نفسه بإخوته. كما أنه يحزن لوضع أمه ومعاناتها مع أطباع والده. كما يشغل باله دائمًا أخوه طارق المصور فيفكر على أي جبهة يصور ضحايا الحرب ومشاهدها. كذلك يعرف جيدًا انتماء عفيف إلى التنظيم المتطرف حيث يقتل أخاه جمال ويغيب عن البيت لسنة كاملة ولا يعيده إلا أخوه محمود من أجل الأم.

“يقول رفاق عفيف في التنظيم:

“اقتل أخاك لا تخف، الجهاد أهم من أخوة كافرين، القتال في سبيل الله يجب ألا يحبط عزيمتك”.

وفي هذا العمل الروائي تفاصيل عن الفن بشكل عام، إذ يبدو اختلاف الأذواق وتنوعها بين الموسيقى الشرقية والغربية، بحيث ينتبه القارئ إلى المعرفة التي تقدمها الروائية حولهما من خلال حوار دار على لسان غسان وكريستن حول الموسيقى الشرقية والغربية…

التوقعات السردية

من خلال الحبكة نجد إجابات عن أسئلة الواقع التي تفرض نفسها على الإنسان ببساطته وتعقيداته. ولبناء الحبكة دور في اهتزاز التوقعات السردية بحسب رولان بارت. ولعل المتلقي في هذه الرواية يسير في القراءة متابعًا تسلسل الأحداث حيث تتكثف وتتماشى وفق خط تصاعدي شيّق ليصل إلى الثلث الأخير من الرواية حيث يبلغ مع الكاتبة نقطة مهمة وهي وفاة الوالد وعودة غسان بعد غياب طويل وزواجه من رلى. وتنقل الكاتبة مشاهد تتجلى فيها الحوارات الداخلية التي تكشف عن نفسية الشخصيات وهواجسها وأفكارها فنلمح المونولوج  والصراع الذي عاشه غسان مثلًا إثر ركوبه الطائرة بعد عودته من عزاء والده متزوجًا من رلى اللبنانية، فبرزت حيرة التفكير بين رلى وكريستن، وهذه الأحداث قد لا يتوقعها القارئ.

بالنظر إلى المجتمع، تتبدى العادات والتقاليد والظروف الاجتماعية والتي لم تكن بمعزل عن الظروف السياسية حيث نلاحظ ذكر الحرب الأهلية، هذه الحرب التي لم تغب إجمالًا عن روايات علوية صبح.

في النهاية يبقى من الحق أن نقول إن هذه الرواية تكشف عن ثقافة علوية صبح ووعيها بأبعاد الأحداث من خلال السرد وإبراز القضايا التي تواكب الواقع عبر تمكنها من تقنيات السرد الروائي، فتعددت المنظورات بتعدد الأحداث، وخلقت الكاتبة علاقة بين عالم الرواية والقارئ الذي صار مشاركًا لها في النص.

  • عن ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *