بحثاً عن الفردوس المفقود: شهادة في الكتابة والحياة ليحيى القيسي

 (ثقافات)

بَحثاً عن الفِرْدَوس المَفقود

 (شهادةٌ في الكتابة والحياة)

  

يحيى القيسي*

 

               

لطالما انتقدتُ أولئك الذين يُدلون بالشهادات الإبداعية عند كلّ شاردةٍ وواردة، خُصوصاً من الذين ما يزالون في أوَّل الشباب، أو يعانون من عدم نُضج التجربة الأدبيَّة ووضوح معالمها. وأجد أنَّ من الحكمة أن لا يتسرَّع المرءُ بالشهادة على نفسه، أو على محطات تجربته إلا إذا كان هُناك ما يستحقُّ مشاركة الآخرين به.

وها أنذا على مشارف الستّين، وأكثر من ثلاثين عاماً من التوّرط اليوميّ في حرفة الكتابة أُسطّر شهادتي لأوّل مرَّة، عسى أن تُضيء شيئاً جديداً عما أنجزته في حقول الأدب والصحافة والبحث.

لا بدّ من المُرور قليلاً على جذور الموهبة الأدبية لديّ التي بدأت بالقراءة الكثيفة لكلّ ما يقع تحت يديّ من مجلات أو كتب، ممّا كان يأتي به أخي الأكبر إلى بيتنا في تلك القرية الحورانية “حرثا”، التي تقع على حافة هضبة ساحرة أقصى شمال الأردن، حيث تشكّل مربعاً ذهبياً مع هضاب سوريا، وامتدادات سهول لبنان، وجبال فلسطين.

القيسي طفلا (على يسار الصورة ) مع أخويه وبيده باقة من الأعشاب

خلال فترة المدرسة تميّزتُ بكتابة مواضيع الإنشاء، وبعض النُّصوص الساخرة التي كنت أقرأها خفية لبعض زملائي، وكانت مكتبة “مدرسة حرثا الثانوية للبنين” نبعاً لا ينضب لمطالعاتي في المرحلتين الإبتدائية والإعدادية، وقد فُزت فيما بعد بجائزة أوائل المطالعين أي خلال المرحلة الثانوية في مدرسة وصفي التل بإربد، وأذكر أنّه تقدمت بمائة ألف صفحة من المطالعة، وجرى النقاش والأسئلة من المقيّمين حولها.

خلال دراستي للهندسة الميكانيكية في كليّة عمان للمهن الهندسية “البوليتكنيك” 1981-1984  كنت أحرص على حضور بعض الأمسيات الأدبية في نادي “أسرة القلم” في الزرقاء، ولم أكن حينها قد بدأت الكتابة الفعلية، بل محاولات ساذجة لكتابةِ قصَّة طويلة، وبعض المقالات في مجلة الكليّة، فلم يكن هناك من يُوجّهني أو يكتشف موهبتي للأسف.

ربَّما لا يعرف الكثيرون أنّني بدأت حياتي الكتابية الناضجة نسبياً بالمقالات الساخرة والشعر، ونشرت بعضاً منها في الصحف الأسبوعية أوّل الأمر في العام 1987، جريدة “اللواء” مثلاً و”أخبار الأسبوع” تحت عنوان ” يوميات عبدالصبور المغمور” لكنّي سرعان ما أدركت أنّ ما كتبته تمارين بدائية لكتابة أخرى بدأتها بقوة حينها، وهي “القصّة القصيرة”، ففي الحقيقة لا توجد عندي مُحاولات أولى لكتابة قصّة قصيرة أبداً، أو أنّني كتبتُ ورميتُ في سلّة المهملات، ولم يسبق أن تمَّ رفض أيَّة قصّة أرسلتها إلى المُحرر الثقافي أيضاً في الصحف أو المجلات المعروفة حينئذ، بل كلّ ما كنت أكتبه يتم نشره في مكان محترم مع بقية الأسماء الأخرى الراسخة في فنّ القصة في تلك الفترة، أي نهاية الثمانينيات، ولا سيما في الملحق الثقافي لصحيفة “صوت الشعب” الذي كان يشرف عليه الأديب الراحل إبراهيم العبسي، ويساعده في الأمر الشاعر موسى حوامدة، وأذكر أنّني قمتُ بزيارة لهذه الصحيفة لأوّل مرة بعد أن تمَّ نشر بعض القصص لي في الملحق، ولا أزال أذكر رأي الحوامدة في تلك المقابلة يومها: “كتاباتك ناضجة حتى ظنّنا أنّك أحد الأدباء المعروفين يكتب باسم مُستعار..”.

القصصُ الأخرى تمّ نشرها في ملحق “الرأي” الثقافي الذي كان يشرف عليه الشاعر الراحل خالد محادين، وبعضها في ملحق “الدستور” الثقافي الذي كان يُشرف عليه الراحل د. نبيل الشريف، وأيضاً في مجلة “صوت الجيل” التي كانت تصدرها وزارة الثقافة، ويرأس تحريرها الأديب الراحل فايز محمود، كما نشرت بعض القصص في مجلة “القصّة” المصرية، و”المجلّة العربيّة” السُعودية، ومجلة “الثقافة” الليبية، إضافة بالطبع إلى مجلة “أفكار”.

إربد: حركة ثقافية ومجموعة قصصية

خلال تلك الفترة من نهاية الثمانينيات بعد أن أنهيتُ “خدمة العلم” وعملت في التعليم كانت علاقتي تتوثَّق مع الحركة الثقافية والإبداعية في إربد، فأصدرتُ مجموعتي القصصية الأولى “الولوجُ في الزمن الماء” عن دار نشر هناك ليس لها وجود اليوم، وهي “طبريا للنشر والتوزيع” لا بل عملت فيها متعاوناً بعض الوقت برفقة القاصة منيرة قهوجي، وفي إربد تعرفت على كثير من الأدباء من بينهم: هاشم غرايبة، وأحمد الخطيب، ومحمود عيسى موسى، وسليمان الأزرعي، ود. إبراهيم الخطيب، وعطاف جانم، وأمين عودة، وعمر أبو الهيجاء، ومحمّد مقدادي، ومريم جبر، ونادر هدى، ومهند ساري، ونزار اللبدي..وغيرهم.

في المجموعة القصصيَّة التي اخترت لها اسماً مأخوذاً من عنوان إحدى القصص الموجودة فيها “الولوج في الزمن الماء..والأمكنة الهباء”  كنت أميل إلى التجريب وعدم كتابة قصص متشابهة في الأسلوب ومختلفة في الحكاية، ولم تستهويني فكرة أن على الكاتب أن يبحث عن أسلوب خاص به ويستمر فيه، بل قلت في داخلي إنّ كتابة قصة واحدة بأسلوب وتقنيات معينة تكفي للدلالة على أنّي استطيع الكتابة مثلها عشرات القصص، لهذا رحت أغرق في التجريب في الأساليب والتقنيات واللغة، وهذا ما جرى في مجموعتي الثانية لاحقاً “رغبات مشروخة” والتي صدرت في العام 1996 عن دار النسر للنشر والتوزيع بعمّان، ولا وجود لها اليوم أيضاً.

يجب أن أعترف هنا دون أي تردّد بأنّني نبتٌ برّيٌّ في عالم الأدب دون أب، إذ لا أستطيع أن أُسمّي أحداً من الأدباء الأردنيين أو العرب ممن تأثّرتُ به حقّاً، أو كان يراجع لي ما أكتب قبل نشره، أو حتى ساعدني في النشر، أو أنَّ أسلوبه الأدبي قد طغى على تجربتي. جئتُ إلى عالم الأدب كنتاج لقراءاتي في الأدب المحلّي والعربي والعالمي مما استطعت الوصول إليه، على أنه لا يمكن تجاهل إعجابي بما كان يكتبه مؤنس الرزّاز، وفايز محمود، وإبراهيم العبسي، وخليل قنديل، ويوسف ضمرة، ..على المستوى المحلي من نصوص سرديّة، بعضها وجد طريقه في التأثير على تجربتي بشكل غير مباشر إضافة إلى إعجابي بكتابات جمال الغيطاني، وإدوار الخراط، ويحيى يخلف، ومحمّد زفزاف على المستوى العربي، وماركيز، ونيرودا، وحمزاتوف وتشيخوف، وديستويفسكي على المستوى العالمي، في تلك الفترة المبكرة التي ُسرعان ما تبدّلت الأسماء وتوسّعت في الفكر والفلسفة والأدب والفن لتشمل كلّ ما هو عميق ومتميز وممتع عربيّاً ودولياً.

ستشكّل أمكنة معيّنة في إربد مصدراً خصباً للتواصل المعرفي مع الحركة الثقافية المحليّة والعربيّة والنقاشات العميقة مثل: عيادة الشاعر الراحل د. إبراهيم الخطيب، وصيدلية الأديب والفنان محمود عيسى موسى، وبيت الناقد والأديب سليمان الأزرعي، ومختبر الأديب هاشم غرايبة للأسنان، ومحل الشاعر أحمد الخطيب للملابس، وبالطبع فرع رابطة الكتاب في إربد، إضافة إلى بعض ما كان يجري في جامعة اليرموك من نشاطات ومؤتمرات ثقافية.

يمكنُ القول كذلك إنّني لم أُطل المقام في جغرافيا قريتي الضيّقة، أو حتى “إربد” المدينة الريفية فقد كنت دائم التواصل مع الحركة الثقافية في العاصمة، وأيضاً مع الساحة الثقافية العربية عبر المجلات الثقافية الصادرة حديثاً، والتي كنت أنتظر وصولها إلى “وكالة حجازي” في إربد، أو عبر الفعاليات الثقافية في عمّان، والتي كانت تستضيف العديد من الكتاب العرب، سأذكر هنا بعض الأسماء في تلك الفترة المبكرة: الأديب المغربي الراحل محمد زفزاف، والأديب الجزائري الراحل الطاهر وطاّر والأدباء الفلسطينيون القادمون حديثاً للأردن بعد منع طويل: يحيى يخلف، وعزالدين مناصرة، والأديب التونسي يوسف رزوقة، وعدد كبير من الأدباء العراقيين الذين اختاروا عمّان مستقرّاً لهم أو مرّوا منها أو قاموا بزيارتنا في إربد.

جيل التسعينات في القصَّة الأردنية

في العام 1990 قُبلت عضواً في رابطة الكتاب الأردنيين، وكان القبول مسألة تستحق العناء، والمباركة أيضاً، وأذكر أنَّ بعض الأصدقاء اقترحوا عليّ أن يكون “الحلوان” منسفاً في بيتنا بالقرية، ولم يكن عدد المدعوين المُقترحين حينها يزيد عن الخمسة، لكنّي فوجئت لاحقاً بأنَّ خبر العزومة قد انتشر في الوسط الثقافي في إربد، والكلّ يُعاتبني، فأضطرُّ إلى دعوته بالطبع، حتى أصبح العدد كبيراً، هذا إضافة إلى دعوتي بعض أبناء القرية لاستقبالهم، وأذكر أنَّ أمُّي رحمها الله قالت حينها: يا ميمتي هاي مش عزومة..هاي إقرى..(أي وليمة عرس).

أقول ذلك بمناسبة ما وصل إليه الحال في رابطة الكتاب من قُبولات جماعية على أسسٍ حِزبية أو إقليمية أو مصالحية دون تمحيص، تتحمّل مسؤوليتها الإدارات المتعاقبة، حتى ذهب ريحها، وفقدت بريقها، ولم تعد لعضويتها أهمية تستحق الفرح بها عبر وليمة أو حتى صحن كنافة.

مع بداية التسعينيات ظهر جيل من القصَّاصين الجُدد، مثل مفلح العدوان، ورفقة دودين، وسامية عطعوط، وبسمة النسور، ومحمد سناجلة، وجميلة عمايرة، أميمة الناصر وغيرهم، وسيطلق على جيلنا هذا “جيل التسعينيات في القصَّة القصيرة”، وسيذهب كلُّ واحد منَّا في اتجاه أدبيّ وفكريّ مختلف، غير أن تلك التسمية ستظل تجمعنا، وسيكون بعضنا على تواصل مع بعض الأدباء الذين سبقونا بشكل أكثر من غيره.

 

التجربة التونسية: خبرات صحفية وثقافية

 مع نهاية العام 1992م ولأسبابٍ لا مجال لذكرها في هذه الشهادة يمَّمتُ صوب تونس لدراسة اللغات، وسأترك الدراسة مرغماً بعد نحو سنتين بسبب عدم وجود أي تمويل لدراستي، وانشغالي بالعمل الصحافي كسباً للعيش وللخبرات الثقافية والحياتيّة، وستشكّلُ هذه التجربة الغنيّة لنحو ثلاث سنوات ونصف خبراتي في العمل الصحفي الثقافي بشكل خاص، والعمل الصحفي بشكلٍ شامل أيضاً، فقد أصبحت مراسلاً لجريدة “الرأي” أرسل لها “رسالة تونس” ذات المواد السياسية والاقتصادية وغيرها ضمن صفحة المراسلين والتي كان يشرف عليها الكاتب الراحل حازم مبيضين، وبعض المجلات التي تُصدرها وزارة الثقافة مثل أفكار وصوت الجيل، إضافة إلى التعاون مع جريدة “الصباح” التونسيّة لإنجاز حوارات أدبية، و”الرأي العام”، والمشاركة في تغطية بعض المهرجانات الثقافية التونسية، وهكذا يمكن القول إنَّ خبراتي الصحفية تشكّلت هناك، لا سيَّما مع وجود مجتمعين مُختلفين يمتازان بالغنى الثقافي والحراك المتواصل، أي المجتمع التونسي بكلّ ما يعجّ به من مهرجانات، وفعاليات محلية ودوليّة على مدار العام، وعشرات الأدباء والفنانين الذين كنت أتواصل معهم، والمجتمع الثقافي الفلسطيني بسبب وجود العديد من الأدباء الفلسطينيين المعروفين والفنانين هناك ممن جاءوا بعد حصار بيروت، والذين

مع الشاعر أحمد دحبور في مكتبه بتونس 1993

تواصلت معهم مباشرة والتقيتهم في حوارات صحفيّة، وأشكر هنا الأديب الصديق يحيى يخلف الذي ساعدني في غربتي التونسية واحتضنني وعائلته، وقد تعرّفت في تونس مباشرة على عدد منهم وتوثقت علاقتي بهم مثل: الروائي رشاد أبو شاور، الشاعر أحمد دحبور، الشاعر غسان زقطان، الروائية ليانا بدر، التشكيلي جمال الأفغاني، التشكيلية لطيفة يوسف، السينمائي يحيى بركات، السينمائي نصر حجّاج، الروائي توفيق فياض، القاص طلال حمّاد..وغيرهم.

سأظلُّ أدين للتجربة التونسية في تأسيس خبراتي الصحافية، وتعميق معارفي الثقافية، وانفتاح رؤيتي على العالم بطريقة غير تقليدية، إضافة بالطبع إلى تعرُّفي على عشرات الأدباء والمبدعين العرب والأجانب من زوّار تونس، فهناك سألتقي لأول مرة بالصديق الراحل أمجد ناصر أو “يحيى عوض النعيمي”، ومحمود درويش، والفنان العالمي نصرت علي خان، ونبيل سليمان، وواسيني الأعرج، وغيرهم كثيرٌ مما لا يتسع المجال لذكرهم.

مع الشاعرين التونسيين كمال بوعجيلة ومحمد الهادي الجزيري في مهرجان دوز الصحراوي 1993

وهناك سأتعرف لأول مرَّة على أفضل الأفلام العالمية مثل نتاجات بازوليني وفيلليني  إضافة إلى متابعة عشرات المهرجانات المتخصّصة في الأدب والنقد والشعر والمسرح، والكثير من المعارض التشكيلية الدولية وغيرها، وسأقدم مداخلة في مهرجان مدنين الدولي للشعر يناير 1993 حول “الحريَّة والتمرّد في شعر عرار”، وسيشهد كثير من أدباء تونس ومثقفوها أنّهم قد سمعوا بالشاعر عرار هناك لأوّل مرّة، وهذا ما شجعهم لاحقاً على البحث عن تجربته الشعرية وقراءتها.

بعد تلك التجربة بعشر سنوات أي عام 2006 أصدرت روايتي الأولى من وحيها وهي “باب الحيرة” لتضيف باباً جديداً إلى أبواب تونس العتيقة كما كتب عن ذلك بعض الأدباء، وبعد انتهاء هذه التجربة بنحو عشرين سنة أي عام 2016 زرت تونس وحاولت أن استذكر بعض معالمها لا بل سرت في الشوارع التي كنت أذرعها من قبل، وتشرّبتُ عوالمها الجديدة، وحين سألني بعض الأصدقاء هناك عن رأيي بتونس بعد كلّ هذه السنوات قلت لهم بصراحة: تونس هرمت عشرين سنة ولم تتقدم خلال هذه الفترة، ويبدو أنَّ هذا الرأي لم يعجبهم فالشواهد التي خبرتها عام 1996 ثم رأيتها نفسها عام 2016 أوضحت لي خلاصة هذا الرأي الدقيق والمؤلم معاً، لأنَّ تونس تستحق كلَّ ما هو أفضل، فهي تمتلك رصيداً حضارياً ومعرفياً يؤهلها لأن تكون في مقدمة الدول العربية، لكن ذلك لم يحدث لأسباب لا موضع لها في هذه الشهادة.

العمل في وزارة الثقافة لعشر سنوات

يجب أن أشير هنا قبل الانتهاء من هذه المرحلة إلى أنّني قمت بالتدريس في 11 مدرسة مختلفة خلال الفترة من 1984 – 1996 من شمال الأردن إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه إضافة إلى تخلل التجربة التونسية لتلك الفترة بالطبع، وفترة التدريس ممَّا لا أرغب بالتعمق بها فقد كنت فيها مُجبراً على العمل في وظيفة التعليم، وظللت قلقاً أبحث عن تركها للدراسة أو البحث عن عمل أو السفر حتَّى العام 1996 حيث عدت إلى الأردن، وتمّ انتدابي للعمل في وزارة الثقافة، وسأدين بهذا الأمر للصديق الأديب فايز محمود، وأذكر أنّني قابلت الأمين العام د. قاسم أبو عين برفقته، وكادَ يرفض انتدابي بحجّة أنّ شهادتي في الهندسة وليسَ في اللغة العربية، والوزارة لا تحتاج لهذا التخصُّص، فأخبره فايز أنّني قاص وصحفي، ومن الممكن الاستفادة من خبراتي، وضرب مثلاً على أنَّ الشهادة غير مُهمَّة للأديب بقوله له “عباس محمود العقاد يا عزيزي كان معه سادس ابتدائي”. المهم أنّ هذا الأمين العام التقليدي القادم من وزارة التربية قبلني على مَضض، ووضعني تحت التجربة لثلاثة أشهر، وخلالها أثبتُّ وجودي وتم قبولي منتدباً لسنة قابلة للتمديد، حيث عملتُ مديراً لتحرير مجلة “الفنون” التي كانت ترأسها الشاعرة زليخة أبو ريشة، ثم لاحقاً سكرتيراً لتحرير مجلة “صوت الجيل”، وعضواً في هيئة تحرير مجلة “أفكار” التي كان يرأسها الأديب مؤنس الرزّاز، إضافة إلى وظائف أخرى حيث استمرت هذه التجربة حتى العام 2006 أي لمدة عشر سنوات عايشت فيها 13 وزيراً ووزيرة من خلفياتٍ وميولٍ وأمزجةٍ وخبرات مختلفة، أغلبهم من الأشخاص غير المناسبين للعمل الثقافي أصلاً وجاءوا بسبب توازنات عشائرية أو جهويّة أو علاقات مصلحيّة مع بعض رجال الدولة أو أجهزتها، فتمّ منحهم بالتالي هذا المنصب، ولقب “معالي” وراتباً تقاعديّاً مرتفعاً، ويمكن القول إنَّ تجربة العمل في الوزارة أفادتني في ترسيخ خبراتي في الصحافة الثقافية، وتعميق تجربتي في العمل الإداري الثقافي، وتعرّفي اليومي والمباشر على عشرات الأدباء والمثقفين،ومن المحطّات في هذه التجربة، أنَّني أسّست أوَّل موقع انترنت لوزارة الثقافة في العام 1999، وهو يعدُّ أول موقع لوزارة ثقافة عربية على الانترنت، كما عملت لفترة محدودة مديراً للدراسات والنشر، وآخر ما عملته مديراً للتبادل الثقافي، وهذه التجربة لوحدها تحتاج ربَّما إلى تفاصيل مُتشعّبة لا أوان لها في شهادة محدودة هنا إذ فيها الكثير من الإحباطات والقليل من الإشراقات.

 

سيرة مبدع: الغوص في العمل التلفزي التوثيقي

في العام 2002م تمّ اختيار عمَّان عاصمة للثقافة العربية، وقد قمت بتقديم فكرة إعداد وكتابة سيناريو لسلسلة وثائقية تلفزيونية بعنوان “سيرة مبدع” حيث تناولت فيها أبرز عشرين شخصية في الآداب والفنون والفكر في الأردن في ذلك الوقت، وذلك بالتعاون مع التلفزيون الأردني واللجنة العليا لعمّان عاصمة للثقافة العربية، وبما أنّي صاحب الفكرة والذي قام باختيار الشخصيات المرشّحة، والبحث عنها وكتابة النص المصاحب للفيلم فقد قمت أيضاً باختيار المخرج فيصل الزعبي، وعرضت الأمرَ على اللجنة حيث تمّت الموافقة عليه، واعطائه دور المنتج المنفذ لهذا العمل.

اثناء تصويرنا سيرة مبدع للأديب مؤنس الرزاز

كلّ شخصية من الشخصيات العشرين كانت تقدم عنها شخصيات أخرى من النقَّاد أو بعض أفراد العائلة شهادة أي بمعدل خمس شخصيات لكلّ فيلم، وبالتالي فإنَّ ما قمت به في الحقيقة هو توثيق لنحو 120 شخصية أدبية وفنية معروفة فارق الحياة منهم الكثيرون إلى يومنا هذا، وربَّما كان التوثيق التلفزي الذي أنجزته لهم هو آخر حضور لهم بالصوت والصورة، وأذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر من الراحلين: د. إحسان عباس، مؤنس الرزّاز، محمود طه، د. ناصرالدين الأسد، مهنّا الدرة، توفيق النمري، أمجد ناصر، روكس بن زائد العزيزي، طارق مصاروة، نبيل المشيني، رفيق اللحام، ومن الأحياء: حيدر محمود، د. كرام النمري، د. خالد الكركي، راسم بدران، وجدان العلي، هاشم غرايبة.

أما من الذين ظهروا في تقديم شهادات عن المبدعين فأذكر أيضاً على سبيل المثال وليس الحصر: عبدالله رضوان، أحمد المصلح، عبدالرزاق بدران،…وغيرهم.

لقد كانت هذه التجربة غنية جداً إذ ساهمت في تعميق جهودي البحثية عن شخصيات بارزة في المسيرة الثقافية في الأردن، وأنضجت خبراتي الخاصة في التعامل مع مثل هذه الشخصيات بالقراءة المعمّقة لنتاجهم، أو البحث المُستفيض حول إبداعاتهم، وبالتالي توجيه الأسئلة الملائمة لهم، وللأسف فإنَّ القائمين على التلفزيون الأردني لم يقوموا ببثّ أغلب هذه الأفلام إلا مرّة واحدة فقط عند رحيل أحد هؤلاء المبدعين، وقد يأتي يوم وأتحدّثُ عن هذه التجربة ومفاصلها بكلّ التفاصيل، ففيها أشياء كثيرة تستحق أن تُروى.

  

معاناة المبدع أكاديمياً

 يجب الإشارة إلى أنّني خلال هذا الفترة قمتُ بالدراسة الجامعيَّة المسائيَّة في “جامعة فيلادلفيا”، أي ما بين 1996-2000 م في تخصّص اللغة الإنجليزية وحصلت على شهادة البكالوريوس، وأذكر أنَّني خلال السنة الأولى سجَّلت مادة “عربي 1” ولم يكن الدكتور يعرف أنَّني كاتب وصحفي، ولم أعلن ذلك لأحد، ونادراً ما أشارك في النقاشات لفارق العمر والتجربة مع بقية الطلبة فقد كان هدفي الحصول على الشهادة “الكرتونة” كما يقال عندنا، بعد معاناتي في الوزارة مع تخصّصي الهندسي. كان حديث الدكتور في محاضرته عن قصيدة للشاعرعبدالوهاب البياتي التي أهداها إلى إبنه علي، وقال الدكتور إنَّ البياتي يصف في القصيدة ثلوج موسكو حيث يعيش حاليّاً، ومعاناته في الغربة هناك، وهنا كان لا بدّ لي من التدخل، فغالباً ما كنت ألتقي البياتي في عمَّان في تلك الأيام، وسبق أن أجريت معه حواراً مُطولاً نشرته في “القدس العربي”، و”الصباح” التونسية، هذا عدا عن أنَّ البياتي كان مُستشاراً فخرياً لوزارة الثقافة وله راتبٌ شهري، المهم في الحكاية أن الدكتور سخر من رأيي عن أنّ البياتي يعيش في عمَّان، وأنَّني أعرفه بشكل شخصي، وهنا قمت بزيارة الصديق د. محمد عبيدالله في مكتبه بالقسم نفسه وشرحت له معاناتي مع ذلك الدكتور وطريقة ردّه، فكان أن قام بإخباره أنَّني أديب وصحفي معروف، وانتهت الحكاية بحيث أصبح الدكتور الجامعي التقليدي صديقاً لي ويحترم رأيي فيما يطرحه من مسائل أدبية وثقافية في المحاضرات، وقد أوردتُ هذه الحكاية ليس على سبيل الطرفة، بل على سبيل الوضع المأساوي للأكاديميين المُتخصّصين باللغة العربية الذين انتهت معارفهم عند حدود تخرجّهم، ولا يقرأون في الأدب الحديث، ولا يُطوّرون تجاربهم، وبالتالي فإنَّ كلَّ ذلك ينعكس على الطلبة.

بعدها بسنوات ستمرُّ عليَّ حادثة أخرى شبيهة وأنا في مرحلة دراسة الماجستير في “الجامعة الأردنية” الأم، إذ كان لا بدّ لطلبة الترجمة من دراسة مادة بالعربية يحاضر فيها دكتور تقليدي في النحو أيضاً، وقد طلب منَّا في أحد الأيام كتابة موضوع إنشاء وقراءته أمام الطلبة في المحاضرة، كان الأمرُ يبدو لي إهانةً حقيقية وعودة إلى مرحلة الدراسة الإبتدائية، وما كان منّي إلا أن قُمت بقراءة أحد نصوصي القصصيّة، وفي منتصف القراءة أوقفني الدكتور قائلاً: من كتب لك هذا النص؟ فأخبرته بأنَّه أحد نصوصي القصصية، وبالطبع لم يظهر عليه الاقتناع، وقال: أنا طلبت منكم موضوع إنشاء، قلت له: بصراحة لم أعد أعرف كيف أكتب موضوع إنشاء؟

سأكتفي هنا بهذين المثالين للمعاناة التي يمكن أن يعيشها أديب في حضرة المؤسَّسات الأكاديميَّة التقليديَّة، وبالطبع لن أشير إلى معاناتي الخاصّة أيضاً مع بعض الزملاء في حرفة الأدب والكتابة الذي تورّطت بالدراسة معهم في بعض المواد، فتلك حوادث أحتفظ بها لنفسي في الوقت الحالي.

“القدس العربي” اللندنية محطة مفصليّة

 خلال الفترة ما بين (1999 – 2009) عملت مُراسلاً ثقافياً لصحيفة “القدس العربي” اللندنية من عمّان، وذلك أمر أدين به للصديق الراحل الشاعر أمجد ناصر، وكنت في بداية الأمر أراسلهُ بالبريد العادي مع الصور، ثم تطوَّرَ الأمرُ لاحقاً إلى الفاكس ثم الكتابة باستخدام الكمبيوتر وارسال المواد والصور بالبريد الالكتروني مقابل دولارات معدودة شهرياً، فثمّة شكوى دائمة في الصحيفة ومالكها عبدالباري عطوان من الوضع المالي، على أنّي خلال هذه السنوات العشر نشرت ربَّما آلاف المواد في الفن التشكيلي والحوارات الأدبيّة والفنيّة، وتغطية الإصدارات، والفعاليات الكبرى في الأردن من مهرجانات وملتقيات وغيرها، كانت فترة “حراثة” حقيقية في العمل الصحفي، قادت إلى تعميق خبراتي في تحرير المواد، والكتابة الصحفية، وهذا ما ساهم بالتأثير في كتابتي الأدبية التي أصبحت أكثر تكثيفاً واختزالاً دون زوائد، فالتحرير الصحفي كما أراه “فن الحذف”، والقدرة على إيصال الأفكار والأخبار بمهارة وأقل عدد ممكن من الكلمات دون حشو أو إسهاب، ومع كلّ هذه الفوائد جوزي المرء بأربعة ديسكات “انزلاق غضروفي” في الرقبة، وركض يومي مُتواصل من أجل لقمة العيش، لا بل جربت أحياناً العمل لثلاثة أو أربعة أعمال في الوقت نفسه، الوزارة في الصباح، والقدس العربي في المساء، وأحياناً الكتابة لمجلة “عمّان” بل والعمل عضواً في هيئة تحريرها برفقة الكاتب الراحل الصديق عبدالله حمدان، وأحياناً التعاون مع  الرأي الثقافي، أو العمل الفعلي محرّراً في ملحق “شرفات” الثقافي لجريدة “الغد” مع الصديق موفق ملكاوي، وسنقوم بإصدار الكثير من الأعداد الأسبوعية لهذا الملحق المُتميّز قبل أن يقوم رئيس التحرير أيمن الصفدي آنذاك بإيقافه بحجّة أن لا فائدة من الثقافة وأنّها مصاريف زائدة.

هكذا كان الأمر في رحلة حياتيَّة تبدو لي جنونيَّة اليوم، وبالطبع لم أكن كذلك لوحدي بل هناك الكثير من الزملاء المُبدعين الذي يضطرون إلى العمل من الصباح حتى الليل لمطاردة اشتراطات الحياة، ويُعجبني ما قاله لي الشاعر التونسي منصف المزغني يوماً في أحد الحوارات معه: يظنون أنَّ الشاعر كائنٌ هلامي هابط من الفضاء ليس لديه متطلبات عيش يومية وفواتير وطلبات من أطفاله وغير ذلك..!

 

باب الحيرة: روايتي الأولى

في العام 2006 أصدرت روايتي الأولى “باب الحيرة” عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وفي هذا العام أيضاً سأطلب إحالتي على الاستيداع من وزارة الثقافة لحصولي على عرض عمل أفضل محرراً ومعدّاً في محطة “إيه تي في” التلفزيونية الأردنية الواعدة التي كانت مجاورة وتوأماً لجريدة الغد، وعلى مدى ثلاث سنوات متواصلة قمنا فيها بالاستعداد لانطلاق هذه الفضائية عبر التجهيز للمواد، والتدريب، والبحث، لكن شاءت الظروف أن تذهب هذه التجربة المهمة أدراج الرياح والغبار أيضاً دون أي تبرير مقنع، فقد تمَّ إلغاء المحطة قبل انطلاقها وإنهاء خدمات الموظفين عام 2008 وكنت محظوظاً للبقاء سنة أخرى حينما أشرف عليها “المركز العربي للإنتاج الإعلامي” لكنّي مع ربيع العام 2009 حصلت على عقد عمل في “هيئة أبوظبي للسياحة” مُحرراً وإعلامياً، وبالتالي بدأ فصل جديد من حياتي.

روايتي الأولى “باب الحيرة” ربّما تكون رواية تونسية الأجواء ، فهي ترصد حالة شاب ثلاثيني جاء إلى تونس وانغمس في تفاصيلها حتى اختلط عليه الأمر، وهي أيضاً رواية معرفية تقدم الكثير من التكثيف للقراءات والمشاهدات والثقافات والخبرات التي اطلعت عليها أو تورطتُ عِرفانياً وجسدياً فيها، وهي ترصد حالة الاضطراب ما بين الإيمان التقليدي والشكّ التي كنت أعيش فيها، وتطرح الأسئلة الوجودية الحرجة، وهي صوت الاغتراب النفسي الممزوج بالغربة عن الوطن حينما يتكاثفان معاً ويهاجمان كل طمأنينة لي.

للأسف لم تُقرأ هذه الرواية لي في تونس كما ينبغي لأنّها لم تصل هناك، كما أنّها ظُلمت كثيراً في الأردن من النقاد والأكاديميين مثل باقي الروايات من حيث تجاهلها سواء بالنقد أو حتى الإشارة إليها ضمن تاريخ الأدب الأردني المعاصر، ما عدا بعض المقالات هنا وهناك.

كثيرون كتبوا روايات عن تجاربهم في بلدان عاشوا فيها وبعضهم كتب عن ذلك أثناء وجوده هناك كرد فعل، وبعضهم بعد سنوات قليلة، لكنّي انتظرت عشر سنوات كي أكتب عن تجربتي التونسية بعد أن اختمرت الفكرة ونضجت وابتعدت عن تلك الفضاءات نفسيَّاً وجسديَّاً لهذا جاءت روايتي مُحايدة تقريباً دون التورط في الحنين أو المدح أو عكس ذلك.

ولعل هناك ظاهرة في الروايات الأردنية تستحق الدراسة والتأمل وهي الكتابة عن مدن أخرى من قبل الكتاب الأردنيين مثل غالب هلسا في ثلاثة وجوه لبغداد أو كتابته عن القاهرة، وتيسير سبول في كتابته عن بيروت، ومؤنس الرزاز والياس فركوح وحضور بيروت في رواياتهم وسليمان القوابعة في كتابته عن المغرب، وسميحة خريس عن السودان، وكأن قدر الرواية الأردنية أن تكون عروبية وتتجاوز الجغرافيا الضيقة مثلما هي الأردن نفسها في تكوينها في بدايات الدولة وإلى يومنا هذا حيث احتضنت ملايين القادمين من شتى أنحاء الوطن العربي ومثلما جيشها الذي ما يزال يحتفظ باسمه “العربي” إلى اليوم.

أبناء السماء: الغوص في الماورائيات

في العام 2010 جاءت روايتي الثانية “أبناء السماء” وصدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت وعمّان، وقد انشغلتُ فيها برصد الظواهر الخارقة في حياتنا، وتأثير الماورئيات في وجداننا وكيفية تسرّبها إلى تفاصيلنا اليومية، وارتباط ذلك بالتصوف والروحانيات والعلوم الحديثة مثل فيزياء الكم وغيرها. لقد خاضت شخصيات روايتي طريقها في البحث عن الحقيقة أو ما يمكن أن يُطمئن نفوسهم القلقة حتى لو كان خادغاً أو غير منطقي، وبما أنّني أؤمن بالرواية المعرفية التي تقوم على البحث والتقصّي كما فعل دان براون في بعض أعماله، فقد أضفتُ إلى ذلك خبراتي الخاصة وقراءاتي ومقابلاتي مع أشخاص روحانيين أو مُهتمين بالتصوّف وعلوم الميتافيزيقا إضافة بالطبع إلى مشاهدة الأفلام الوثائقية حول تلك الموضوعات الخاصة، وبالتالي فقد عجنتُ كلّ تلك المعارف عبر السرد وتقنياته للخروج بأبناء السماء إلى الواقع، والجدير ذكره أنَّ كلّ رواية من رواياتي تعكس مرحلة معيّنة من نُضجي المعرفي والروحي وتحليقاتي الخاصة، وفانتازيا رؤاي، وتوظيفي للتخييل، وبالتالي فإنَّ هذه الروايات تُشكّل مع بعضها حلقات معرفيّة متواصلة للخروج بتصوّر ما عن العالم بعيداً عن ما هو متعارف عليه فيما وصلنا من النقل التقليدي، لا سيّما أنَّ انشغالاتي في هذه العوالم قد بدأت تتعمَّق منذ العام 2005 وخوضي غمار التصوّف الفكري لا الطُقوسي، والتخفف نهائيّاً من مرحلة الشَّك السابقة، فقد حاولت أن لا أعود إلى الإيمان التقليدي القائم على ما وجدت عليه آبائي وأجدادي وما وصل من النقل، بل عبر القناعة التامَّة القائمة على البحث والعلم والتأمّل في الوجود، واستشراف الله في الأعماق.

وبالطبع أكتب ما أكتب من روايات دون أن أطالب القارىء بتصديق ما فيها أو قبولها ككتابٍ علميّ أو جغرافي بل بالتعامل معها كعملٍ أدبيّ سرديّ يطرح الأسئلة ويثير السواكن، ويحاول تغيير النظرة المتعارف عليها تجاه الكون والإنسان.

الِفردوس المُحرّم: حضور العرفان  

في روايتي الثالثة “الفِردوس المُحرّم” التي صدرت في العام 2015 عن “المؤسسة العربية للدراسات والنشر” استكملت ما بدأته في “أبناء السماء”، وبالتالي يمكن القول إنّ هاتين الروايتين يتحدّان معاً لتشكيل ثنائية يمكن أن تُقرأ منفصلة عن بعضها أو من الأفضل أن تكونا معا لتكوين رؤية أكثر شمولاً وتفصيلاً، ولعلي أعترف هنا بأنّ المعارف الموجودة في الفردوس تعكسُ أيضاً مرحلة ما من حياتي ورؤيتي للكون من حولي وبحثي عن الفردوس المفقود في داخل كلّ واحدٍ منِا وأيضاً خارجه، كما أنني في النهاية ابن بيئة تفيض بالواقعية السحرية، وقد نهلت منها الكثير، لكنّي ربما أكون قد أثقلتُ الرواية بالكثير من المعارف والرؤى والتصوّرات بحيث فاضت عن حدّها، وبالتالي تجاوزت حُدود العمل السردي كرواية إلى التورط في السرد المثقل بالمعرفة، وهذا أمر على النقاد والمُتخصّصين سبره والتفصيل فيه، فثمة الكثير من المتلقين الذين يبحثون عن مثل هذا النوع من الأعمال الأدبيّة التي يمكن أن تقدم لهم شيئاً جديداً ومغايراً لما اعتادوا عليه غير الحكاية التقليدية وعناصرها..!

على الصعيد المعرفي انشغلت برصد كمية التضليل التي تعرض لها البشر عبر عصورهم المختلفة في مجالات عديدة تبدأ من الدين وتنتهي بالجغرافيا والعلوم، وقد أردت رواياتي صيحةً لإيقاظ الهمم والانتباه إلى ما جرى، ومحاولة العودة بالإنسان إلى العصر الذهبي الذي عاشه قبل أن يقع في درك “أسفل سافلين” وذلك اعتماداً على التأمل في مسيرته وما طالها، وقد خالفتُ داروين في نظريّته بأن أصل الإنسان قرد تطوّر حتى وصل إلى ما هو عليه الآن إلى عكس ذلك أي أنه وجد أو خلق في أحسن تقويم، كتحفة فنية إلهية سامية، وكان يعيش فيما يشبه الجنّة الأرضية وليس السماويّة بعمرٍ طويلٍ وشبابٍ دائم ودون مرض ثم تعرّض في مرحلة ما إلى إغلاق طاقاته العليا، وانحداره إلى المرحلة الدنيا التي يعيش فيها الآن، وهذا أمر يمكن تناوله بالبحث لمن يرغب، أو الاكتفاء بالرواية كعمل سرديّ ضمن العناصر المألوفة من حكاية وشخصيات وتقنيات وما إلى ذلك، وأخذ ما فيها على سبيل التخييل لا غير.

 

بعد الحياة بخطوة: مقاربة للغز الموت وما وراءه

في العام 2018 أصدرت روايتي الرابعة “بعد الحياة بخطوة” عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، وهي رواية معرفيّة أيضاً تُحاول الإجابة عن سؤال الموت وما بعده بشكل غير تقليدي أو نقلي كما ورد في الموروث الديني، بل من التأمل الطويل لهذه القضية المصيرية التي تقلق كلّ بشري، إضافة بالطبع إلى القراءات فيما يُسمى “تجربة الاقتراب من الموت” التي وصل إلى تخومها الملايين من الناس ثم عادوا ليرووا ما جرى لهم أثناء الغيبوبة خصوصاً أثناء العمليات الجراحية والتخدير الكامل أو في حالة الحوادث والصدمات التي يفقد فيها المرء وعيه، كما أنّني قرأت الكثير من الكتب التي يدَّعي أصحابها بأنَّها أُمليتْ عليهم من أرواح سابقين عاشوا في الأرض من قبل، ومسألة “الإملاء” عرفها المتصوّفة واعترف بها ابن عربي في فتوحاته المكية أي التلقي للمعارف من عالم الغيب أو من “الله” كما يقول ويطلقون عليها أيضا “الفيوضات” أو “التنزّلات”.

حضرتْ القريةُ في هذه الرواية بكلّ تجلياتها وخصوصاً في فترة الطفولة على شكل انثيالات لمفردات وعبارات قصيرة مكثفة، كلّ واحدة منها تحيل إلى صور وروائح وأمكنة وتفاصيل اجتماعية وسياسية وغيرها مما يستدعي من النقاد والباحثين تفكيك شيفرتها للأجيال الجديدة من القُرآء الذين لم يختبروا تلك الحياة ولم يسمعوا بتلك المفردات، كما أنّ التجليات الروحية في الرواية عالية، وشديدة التكثيف للمعارف التي فيها، والتي تجمع كما بين المعلومة والتخييل السردي، وآمل بعد كلّ ذلك أن أكون قد قدمتُ فيها شيئاً مغايراً للسائد، ويبعث على الغبطة لقراءة النص والتفاعل معه، وفي كلّ الأحوال فهي تساهم مع الروايات التي سبقتها في تشكيل أعمدة مشروعي الروائي المعرفي، والذي اختتمته بعد ذلك بسنتين أي عام 2020 بإصدار روايتي “حيوات سحيقة” عن دار خطوط وظلال في عمّان.

 

حيوات سحيقة: بحثاً عمّا مضى

 تنشغلُ هذه الرواية بمقاربة إمكانيّة وجود حيواتٍ سابقةٍ لأرواحنا في أجساد أخرى، وإذا كان بعض الأمم يؤمنون بذلك ويعتقدون بأنَّ الجسد المادي هو قميص للروح تخلعه حين الموت، ولا يوجد ما يمنع أن تكون الروح قد عاشت تجسّدات أرضيّة من قبل، فإنّ تناولي للأمر كان فنيّاً أي توظيف هذه الثيمة لجعل الشخصية الرئيسية في الرواية صالح متعدّداً وعابراً للأزمنة والأمكنة، مما يتيح للرواية تقديم خبرات مختلفة ومكثفة للمتلقي، ومرّة أخرى أقول إنَّ العمل الروائي في النهاية عمل فنّي ومعرفي يمكن للقارىء أن يأخذ منه – بحسب ثقافته – جمالياً ومعرفياً ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، كما أنّ العمل السردي الإبداعي برأيي يحتمل الكثير من الطبقات المعرفية والجمالية التي تحتاج إلى متلق مبدع يُساهم مجدداً عبر كلّ قراءة في فتح الإمكانيات على آفاق جديدة لا منتهية.

ينبغي الإشارة أيضاً إلى أنني رصدت جزءاً من رحلة السويسري بيركهارت إلى الأردن عام 1812 م وإعادة اكتشافه لموقع البتراء، وما جرى معه، لهذا كانت هذه المدينة الأثرية التي ما تزال غامضة في الكثير من تاريخها وتفاصيل حضارتها فضاءً للرواية إضافة إلى مدينة الزرقاء والعاصمة عمّان، وقد حاولتُ في الرواية أيضاً التقاط تاريخ العنف عند العرب، والفهم الخاطىء لتوظيف الدّين، وكيف ساهم ذلك في صياغة بعض تفاصيل الحاضر حيث المعاناة من الإرهاب تحت ذريعة الدين.

وفي النهاية فإنّ “حيوات سحيقة” مثل سابقاتها من رواياتي مفخّخة بالدلالات، ومزدحمة بالإشارات والمعارف في شتَّى الموضوعات، وتحتاج إلى تفكيكٍ ورصدٍ دقيقٍ من قبل القرّاء والنقاد.

 

خلوة طوعيّة مع فكر “إبن عربي”

خلال الفترة من أكتوبر 2016 وحتى 2018 كنت في الأردن بلا عمل، وانشغلت حينها بقراءةٍ عميقةٍ ومتدبّرةٍ للفُتوحات المكيّة للشيخ الأكبر ابن عربي، وكنت من قبل قد قرأت له بعض الرسائل القصيرة والشذرات والعبارات والقصائد التي نالت إعجابي وخصوصاً رؤيته لدين الحب الذي يجمعُ البشريَّة معاً بغضّ النظر عن الدين التقليدي أو حتى اللادين، كما أنَّ التصوّف الفكري الذي بدأتهُ في العام 2005 تقريباً قد آتى أكله في هذه القراءات، إذ انشغلت بفكّ مغاليق النصوص الصعبة، وفهم مصطلحات “القوم” والإطلالة على المرجعيات التي شكلت تجربة ابن عربي الأندلسي في رحلته المغربية والمشرقية ورؤاه الفلسفية، وحتى فقهه التقليدي الظاهري أحياناً المتشابك مع باطنية رؤاه وتأويلاته الخاصّة للقرآن وتنزّلاته التي صبّها في كتبه.

لم أكتفِ بالفتوحات المكية في مجلداتها الضخمة الكثيرة وطبعاتها المتعددة بل قادني الجوع المعرفي إلى قراءة كلّ ما وجدته له من فصوص الحكم والرسائل وديوان الشعر وأيضاً ما كتبه عنه تلاميذه أو المستشرقون، ووجدت لديَّ في النهاية مادة كبيرة تتعلق برؤى الرجل الإشكالية والمثيرة للجدل في مواضيع شتّى، وكيف وقع في التناقضات ما بين النقل التقليدي من كتب الحديث الشهيرة مثل “البخاري ومسلم” وما بين الفُيوضات أو التنزّلات الخاصّة به في مسائل عديدة كالحقيقة المُحمديّة، والفاضل والمفضول وصاحب الزمان وغيرها، وفي النهاية وجدتني كباحثٍ متجرّد أُنجزَ عنه كتابي الأول “ابن عربي الحائر بين الفتوحات والمنقولات” الذي صدر في جزئه الأول عن مؤسسة أونيكس للتواصل الفكري البريطانية والمؤسسة العربية للدراسات والنشر 2019.

ثمّة كتب يقول إبن عربي إنّه ألفها في 11 يوماً أو أُمليت عليه من الله مباشرة أو من النبيّ دون واسطة، لكنّي خصّصتُ سنتين متواصلتين لإنجاز كتابي البحثي عنه في خلوة حقيقية دون أي إملاء من أيّة جهة بل هو نتيجة العمل الدؤوب والرصد الدقيق والتحليل العميق، وعسى أن أكون قد قدمت فيه شيئاً جديداً بكل حيادية بعيداً عن تقديس الرجل أو تدنيسه.

ثمّة محطات أخرى لا مجال لذكرها في هذه الشهادة التي حاولت اختصارها كثيراً دون جدوى مثل تجربتي الثقافية والعمليّة في الإمارات (2009 – 2016 ) وفي بريطانيا ( 2018 – إلى الآن) ، فهذه في النهاية شهادة أولى ترصد حياةً تمتد لستين سنة والعديد من الإصدارات، والكثير من المحطات المفصلية، وربّما أستكملها بعد سنوات، إن أمدّ الله في عمري، لتكون شهادة شاملة على الحياة والإبداع بحثاً عن الفردوس المفقود الذي خرجنا منه، ونظل نحلم بالعودة إليه من جديد مهما طال الزمن.

https://www.youtube.com/watch?v=AMcVp0a2ixQ&t=5s

 

انتهت

نيوبورت – بريطانيا

 أكتوبر 2022

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *