إبراهيم نصر الله: الرواية التاريخية يجب أن تزعزع الأضاليل

إبراهيم نصر الله: الرواية التاريخية يجب أن تزعزع الأضاليل

  • سلمان زين الدين

يشغل الروائي الأردني الفلسطيني إبراهيم نصر الله موقعاً مهما على خريطة الرواية العربية، وهو موقع اكتسبه من خلال سلسلتين روائيتين، الأولى سلسلة “الملهاة الفلسطينية” التي يغطي فيها 250 عاماً من التاريخ الفلسطيني في محاولة منه لمقاومة عملية التزوير الكبرى التي تمارسها اسرائيل لهذا التاريخ وإعادة وضع الأمور في نصابها الطبيعي، والثانية سلسلة “الشرفات” التي يرصد فيها تحولات الواقع الاجتماعي العربي بتمظهراته الكثيرة ويفكك منظومة الاستبداد السياسي، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا ما اعتبرنا أن الاستبداد والاحتلال وجهان لحقيقة واحدة تتمثل في امتهان الإنسان العربي وتجريده من حقوقه الطبيعية المشروعة.

ومع صدور روايته الجديدة “طفولتي حتى الآن” عن الدار العربية للعلوم ناشرون، وهي الحلقة الـ 13 في سلسلة الملهاة، كان لـ “اندبندنت عربية” الحوار الآتي معه:

الملهاة الفلسطينية

thumbnail_Tofolati NASRALLAH.jpg
رواية السيرة الذاتية (الدار العربية للعلوم)

روايته الجديدة “طفولتي حتى الآن” هي الـ 13 من سلسلة “الملهاة الفلسطينية” الروائية التي بدأتها زمنياً برواية “قناديل ملك الجليل”، فهل هي الرواية الأخيرة أم أن ثمة حلقات أخرى يزمع نصر الله إضافتها إليها؟ يقول في هذا الصدد: “لا أظن أن الحديث عن رواية أخيرة مسألة ممكنة في أي موضوع كبير، بخاصة أن القضية الفلسطينية تشهد من التحولات اليوم ما لا يقل تأثيراً عن أحداث كبرى عاشتها، إذ تبدو تراجيدية الحال الفلسطينية في صعود غير عادي، ولذا لا يستطيع المرء أن يتوقف هنا ما دام هناك حياة وموت وصعود وصراع. التوقف سيكون أشبه بنهاية عمل روائي أو سينمائي في منتصفه، وكل ما عشناه معلق بما سيأتي، وهذه هي المعضلة الكبرى التي لا تستطيع إدارة الظهر لها، أو أن تعود من منتصف الدرب. الحكاية الفلسطينية حياة وأريد لها بداية خارج كل ما عشناه، لذا وما دمنا نتحدث عن الحياة وقوتها سأشير هنا إلى أنني بينما كنت أكتب هذه الرواية كانت الأم في أحد فصولها تسرد قصة لأطفالها، وحين بدأت بكتابة القصة، وهي قصة سمعتها من أمي، بدأت القصة تطول وتطول إلى أن أصبحت رواية خيالية قصيرة لكل الأعمار، استناداً إلى حكاية أمي التي أظن أنها من بنات خيالها، لأنني لم أقرأها أو أسمعها من قبل، وهكذا ولدت الرواية من رواية، كما تولد الحياة من الحياة”.

بببب.jpg
عندما فاز بجائزة البوكر العربية (موقع الجائزة)

يتحدث نصر الله عن روايته الجديدة “طفولتي حتى الآن” وعن ظروف انطلاقه في كتابتها وعن بعد السيرة الذاتية الذي تتضمنه قائلاً: “هي رواية تستند إلى كثير مما في سيرتي الذاتية، فهي عن الخيال الذي عشته والحقيقة التي عاشتني كما كتبت في تقديمها، ويمكنني القول إنها رحلة كبيرة في داخلي أتاحت لي أن أعرف كم عشت، وما هو منسوب الحياة في روحي. هذا الاكتشاف هو أجمل ما حدث في كتابتها، إنها تغطي 60 عاماً تقريباً من أعوام ما بعد النكبة، وتدور بشكل أساس في “مخيم الوحدات” للاجئين قرب عمّان، وهي رواية حب بالدرجة الأولى، وهذا ما اكتشفته بعد أن أنهيتها. طالما تمنيت أن أكتب رواية حب عابر للحروب وتقلبات الأزمنة، وإذا بي أكتبها قبل أن أنتبه! من الرائع أن تحلم بشيء طوال حياتك، ثم تكتشف فجأة أنك عشته. هذا ما حدث معي هنا، وهي بالمناسبة رواية فلسطينية غير متجهمة وفيها كثير من السخرية، ويمكن القول إنها رواية حياة لا موت”.

مخاوف تاريخية

في “الملهاة الفلسطينية” قام نصر الله بكتابة 250 عاماً من التاريخ الفلسطيني روائياً، مما يطرح جدلية العلاقة بين المؤرخ والروائي. ألا يخشى أن تقوم الرواية بتحريف الحقيقة التاريخية؟ وبالتالي أين ينتهي المؤرخ ويبدأ الروائي في هذه الملهاة؟ يجيب: “هذه المخاوف راودتني في البداية والآن لم تعد موجودة، لأن الكتابة نفسها تجاوزتها كعمل منجز. لكنني منذ البداية أيضاً كنت حذراً من هذا، فالسؤال الذي شغلني أكثر هو ما الذي يمكن أن تقدمه ككاتب يكتب الرواية التاريخية في ظل ما أنجز وينجز من روايات تاريخية؟ أي ما هي إضافتك لهذا النوع؟ أنت تذهب للتاريخ لا لتعيد كتابته بل لتقدم أطروحتك فيه فناً ورؤية، ولذا اصطدمت رواياتي بحقائق كان المؤرخون والناس أيضاً متفقين عليها، وجادلت الروايةُ هذه الآراء الثابتة والقارة مثلما حدث مثلاً في إعادة قراتي لشخصية فوزي القاوقجي في رواية “زمن الخيول البيضاء”، وهي قراءة صادمة للرأي التاريخي العام، لكن ما حدث أنه بعد 10 سنوات من صدور الرواية بدأ مؤرخون مهمون يتبنون هذا الرأي، وهذا في ظني هو جدوى كتابة الرواية التاريخية، أن تزعزع الثوابت المضللة باعتبارها حقيقة وتثبت أنها غير ذلك إن كانت ملفقة، لكن ذلك كله جزء من جوهر الكتابة سواء كانت تتحدث عن الماضي أم الحاضر أم المستقبل الباهت الذي يخدعوننا وهم يؤملوننا به”.

من خلال عمل إبراهيم نصر الله في هذه السلسلة، ما الدور الذي يمكن أن تلعبه الرواية في خدمة القضية الفلسطينية؟ وهل بوسع الوقائع الروائية أن تغير الوقائع الميدانية القاتمة؟ يقول: “الرواية جزء من جمال العالم أولاً، إنها فن وهي كما أشرت رؤيا ورؤية، وهي في عراك مع الثابت المستقر والثابت المتوحش. إنها حراك جمالي وفكري في كل ما يتعلق بشأن الحياة خارجها مثل أي حراك واقعي، ولا أشك في قدرة الرواية على بلورة مناطق كثيرة في الوعي وبعث الحياة في البشر وما يؤرقهم من قضايا وأسئلة، ويمكن أن أعبر عن فرحي الحقيقي هنا أن النسبة الأعلى من قراء أعمالي هم من الشباب الذين قيل عنهم دائماً إنهم لا يقرؤون. هؤلاء الذين يتأثرون بالكتب هم ما كنا عليه أنفسنا أمس، فلولا الكتب التي قرأناها وعشناها والافلام والأغنيات لما كنا ما نحن عليه اليوم. قوة الكتابة بالنسبة إلي ليست موضع شك لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي، لأن من يغيرون التاريخ هم أولئك الذين يقرؤون”.

نصوص “الشرفات”

بالتوازي والتقاطع مع مشروع “الملهاة الفلسطينية” الذي يشكل نوعاً من التاريخ الروائي لفلسطين ثمة مشروع “الشرفات” الذي يرصد تحولات الواقع العربي وآثارها المدمرة على الفرد والمجتمع. ما الفرق بين المشروعين؟ هل يريد نصر الله القول من خلال التوازي والتقاطع بينهما، إن الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي وجهان لعملة واحدة؟ فيجيب: “ربما يكون الفرق بين المشروعين هو ما عبرت عنه قارئة رائعة حين كتبت لي قائلة إن الملهاة هي الجد و”الشرفات” هي العبث، وفي ظني أن هذا أفضل ما يعبر عن المشروعين، وهذا ليس على المستوى العام الذي انشغل به المشروعان وحسب، بل على المستوى الفني وإن كانا يتقاطعان أحياناً على مستوى التجريب، وربما أضيف هنا بأن الملهاة عن معاناة الفقد فلسطينياً، بينما الشرفات عن فداحة الموجود عربياً، وعن ركاكة الواقع الإنساني في مواجهة صرامة السلطوي، بل إن الشرفات تبدو لي معنية بالمستقبل المسروق منا تماماً كما هي معنية بالحاضر الذي يحرم علينا أن نكون فيه أحياء وبشراً أحراراً. مفزع كم توحش النظام العربي، وموحش أكثر أننا لم نستطع ردعه بعد”.

إبراهيم نصر الله روائي وشاعر في آن، والملاحظ أن الصراع بينهما إذا جاز لي استخدام هذا التوصيف، ينجلي عن انتصار الأول على الثاني. فهل انتهت تجربة نصر الله الشعرية؟ وهل ازدهار نوع أدبي معين محكوم بانحسار نوع آخر؟ أليس ثمة تعايش بين الأنواع المختلفة؟ يرد على هذه الاسئلة قائلاً: “لا معركة بين الشعر والرواية ليكون هناك هازم ومهزوم. إنهما شكلان أدبيان فنيان إنسانيان يقدم كل منهما ما لديه بطريقته الخاصة للدفاع عن هذا العالم، وحبنا لهذا العالم وأرقى ما فينا من قيم كبرى، بدءاً من تفاصيل ودقائق حياتنا اليومية. آخر أعمالي الشعرية صدر عام 2017 وهو تجربة مختلفة، إنه ديوان حب، علاقة تربط بين ذئب وذئبة، إنه حكايتهما، وحكاية حلم راودني في كتابة أوبرا شعرية ما كان يمكن أن تنجز لو لم أكن روائياً، كما حدث معي في أعمال شعرية سابقة، ولا أقول مجموعات شعرية، وأعني مثل “نعمان يسترد لونه”، “مرايا الملائكة” وغيرها. كما أن روايات كثيرة لي وأجزاء كبيرة منها ما كان يمكن أن تكتب بالطريقة التي كتبت بها لو لم أكن شاعراً، ولا أتحدث هنا عن اللغة من دون أن أنسى أثر السينما فيها. أكتب الشعر حين يكون لدي مشروع شعري جديد ملحّ يستحق الصدور في كتاب مستقل، وخارج هذا سأكتب قصائد متفرقة ولكني أشك في أنني سأجمعها في كتاب، والأمر نفسه في الرواية إذا كان هناك مشروع يستحق الكتابة فسأكتبه، فالكتابة بحد ذاتها ليست عادة، بل إنها حاجة وشغف وتمرد ورؤية”.

تهميش الشعر

وعن قضية انحسار الشعر اليوم بحيث يكثر الشعراء ويقل قراؤه وتشيح دور النشر بوجهها عنه، وعن أسباب هذه الظاهرة وهل نحن إزاء حال مؤقتة أم دائمة، لا سيما أنه كان ديوان العرب في غير عصر يقول: “أعتقد أن عناصر كثيرة أسهمت في هذه الظاهرة، وأولها الفيضان الكبير منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وشهوة كتابة الشعر، أو الاعتقاد الذي أربك القارئ بكتابته، واليوم فثلاثة أرباع من يملكون صفحات تواصل اجتماعي ينشرون ما يعتقدون أنه شعر، وهناك مسألة أخرى أيضاً لها علاقة بالشعر الجيد وعلاقته بالبشر والنشر وطريقة عرض الكتب الشعرية، وكل هذا يسهم في تهمش الشعر، ثم هناك ما يسمى شعراً ولكنه لا ينتمى إلى أرواحنا بعد تحوله إلى صناعة. ونحن الشعراء أنفسنا ابتعدنا من قراءة هذا الشعر فما بالك بالقراء؟ وما أصاب الشعر هدد الرواية أيضاً وما زال يهددها، فهناك الشهوة لكتابة الرواية مثلما كانت الشهوة لكتابة الشعر، وتصل أحياناً رسائل من قراء تتضمن أسئلة من مثل أريد أن أكتب رواية، وما هي المواضيع التي تعتقد أن الناس معنيون بها؟ ثم أين أنشر روايتي بعد كتابتها؟ هذا أمر ما فوق العبث، من دون أن ننسى أن البشر يحسون بما يحدث لهم لكنهم بحاجة إلى أن يفهوا ما الذي حدث ويحدث، وهذا ما تجيب عنه الرواية، وهناك بالتأكيد أسباب كثيرة يمكن أن تضاف”.

ترجم عدد من روايات نصر الله وأعماله الشعرية إلى لغات أجنبية مختلفة. ما الذي يمكن أن تضيفه الترجمة إلى كل من الروائي والشاعر؟ يجيب: “دائما أسأل ما الذي أضافته ترجمة الأعمال الأدبية الأجنبية لنا في عالمنا العربي؟ وأجيب لقد أضافت كثيراً، ويكفي أننا حين نريد أن نلوم أنفسنا نحملها عار قلة عدد الكتب المترجمة إلى العربية من لغات العالم مقارنة باللغات الأخرى. في ترجمة نصوصنا إلى لغات أخرى هناك أبعاد غير تلك التي تحملها الكتب نفسها، ومنها أننا جزء من جمال العالم بعيداً من الصورة النمطية التي تمهد لذبحنا والتهامنا، وكما لا نستطيع القول “كاتب” ونصمت، لا نستطيع أن نقول “مترجم” ونصمت، فالمترجمون مثل الكُتاب مختلفون ولكل منهم رؤياه في العمل، لكننا نعرف أن هناك مترجمين عرباً أبدعوا في العربية وقدموا نصوصاً مترجمة مذهلة في مستواها، وهؤلاء موجودون في اللغات الأخرى بالتأكيد بعيداً من رذيلة الوفاء وعذرية الخيانة”

  • عن اندبندنت عربية

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *