(ثقافات)
-
ميسّر السرديَّة
عندما قرأ الشاعر صلاح عبدالصبور رواية ” كانت السماء زرقاء” لإسماعيل فهد إسماعيل ,قال” أدهشتني الرواية بمقدار اللوعة والحب والعنف والقسوة والفكر المتغلغل كله في ثناياها” كذلك أنا .. أدهشتني رواية دفاتر الوراق لمبدعها الروائي جلال برجس , سمعت موسيقى يحبها الأبطال, بحثت عن شجرة صفصاف, أكلت تمرا حتى تحمر وجنتاي .
ليس من باب النقد , إنما استجابة مني كقارئة لنص أدبي مفزع, ظفّره الراوي كجديلة طفلة في صباح العيد , بين ماضي وحاضر مجموعة من المهمشين, الذين راودهم بعض الأمل مرات , وجدتني بينهم بالصدفة ,وكما يقول مظفر النواب” ففي القلب حزنٌ جبان، وحزنٌ جريء”.
حدقة الرواية
تزخر دفاتر الوراق بالحقل الدلالي من خلال الصور الغيبية والذهنية , تشابك الأحداث في تقاطع الأمكنة والأزمنة ,الأبعاد الشخصية الرئيسية والثانوية , المعيقة أو المعينة, تصادم الأبطال و أزماتهم النفسية في بؤر توترهم, نضج خطوط الشخصيات من خلال نمو حركتها في دوامة قبول و رفض المجتمع لها كأعضاء يستحقون الحياة.
يدور الإطار العام حول صراعات البطل إبراهيم جادالله , من خلال عدة أصوات روائية,أنثوية وذكورية, تغلب عليها ثنائية اللقاءات في أغلب مشاهد الأبطال, خاصة في المرحلة العمانية, في تغير نمط الحياة الاجتماعية, وذلك ما يظهر جليا من تراجع المعنى الأُسروي إلى المقاعد الخلفية , بعكس زمن الجد الشموسي والأب الثائر جادالله في منتصف القرن الماضي , ويظل الصراع مفتوحا على الخوف و التردد والجبن البؤس بانتظار النقطة الأخيرة .
الخطوط الأولى بقلم الفحم
يبدأ ضجيج معظم الشخصيات الموجوعة من جبل الجوفة, عمان الشرقية , المكان الذي استقر فيه جاد الله معلم المدرسة مع زوجته وأطفاله, هربا مما عاناه في قريته جراء نشاطه السياسي ,و تبرز دلالة مكانية “الجوفة” الجبل الذي اكتسب تسميته من التجاويف الكثيرة فيه ,وما بين طبيعة تضاريس البيئة القديمة , وطريقة معيشة الأجداد في مغاور قرى مادبا لاتقاء عواصف الشتاء في حقبة زمنية ماضية .
تبرز النساء كبطلات رئيسيات في دفاتر الوراق , ناردا المضطهدة عائليا, جراء جريمة شرف وقعت لفتاة في الجوفة, لا علاقة لها بها, حيث غيرت اسمها لاحقا ,وعملت نادلة ثم صحفية بعد موت عائلتها .
ليلى فتاة الملجأ الموسومة ب”اللقيطة” والتي تعاني من ذاكرة تحرش المشرفة في دار الرعاية, وما تشكله من دلالة تلازمية جنينية , تربط بين الكهف والملجأ والخوف من خوض غمار الحياة المجهولة.
أم إبراهيم بائعة الحشائش التي تموت لعدم القدرة على العلاج , و الفقيرة أنيسة التي تنبش في القمامة بحثا عن فتات الخبز , وهناك إميلي طالبة الطب في فيينا سابقا ,ضحية خداع المشاعر التي حولتها لإنسانة عاجزة نهاية المطاف تحدق من نافذتها على شجرة الصفصاف.
يراوح أبطال الإكتئاب في عوالم القنوط , بين الرغبة بالانتحار ووضع حد لاضطرابهم النفسي , والتوق للتغير الميؤوس منه, إنها بؤر التوتر التي تنضج فيها شخصيات مأزومة في ذاكرتها وواقعها في ماضيها وحاضرها, تتشابك في لحظات الذروة والحبك الروائي المحكم, للأحداث والمصائر , حتى يظهر صوت “الحمل” في تجاويف بطن إبراهيم ,عقب كل وكسة يتعرض لها, ليكون ذلك الصوت ,أشبه بالأنا الكامنة والوسواس الذي يسكن معظمنا في حالات القنوط النفسي, محرضا على الصدام والتغيير والإنتقام .
تبدلات الموت في النهايات
يتبادل السرد الروائي في دفاتر الوراق صوت ناردا التي تمتلك مذكرات جادالله ,وصوت إبراهيم الذي عثر على دفتر مذكرات ناردا , هذه الثنائية المولودة على شاطئ العقبة , والتي ترافق القارئ حتى مشفى المجانين , يتم من خلال تواتر أحداثها تصوير تغير نمط الحياة والمعيشة , البدوية في بيئة مأدبا قديما , ومدينة العاصمة وصخبها وسرعة إيقاعها وهلامية علاقات سكانها, حيث تحول -المهاجر من أطراف الوطن -إلى مجرد رقم , ك” كمجهول نسب”في البيت المهجور .
فالموت في القرية قديما كان مختلفا عن رغبة الانتحار في المدينة رغم سنوات القحط وشظف الحياة, فأبناء الشموسي يموتون دفاعا عن وطن , خازر شهيد 48 و سليم شهيد 67 والثالث غرقا في الطريق إلى المدرسة , بينما يموت جاد الله الحزبي الثائر على جشع الإقطاع, خريج الفلسفة من موسكو ,محرض الرعاة , انتحارا بمنزله في جبل الجوفة.
ما بعد هجرة القرية التي تحولت عن الزراعة إلى الوظائف الحكومية المتواضعة تغير شكل الموت, إبراهيم يخطط للانتحار وكذلك ناردا, ابن انيسة ينتحر بعد أن أثقلته ديون البنوك, فتاة تقتل ذبا عن شرف العائلة, وزمرة الفساد تموت في ظروف غامضة , الفاسد عادل الأحمر موظف التنمية ومشرفة الملجأ ,وإياد نبيل المشتبك سياسيا واقتصاديا المستولي على مكان كشك الوراق ليحوله عن طريق علاقاته المشبوهة لمحل بيع تلفونات ثم مركزا لترويج المخدرات .
دلالات الأسماء واللون
تحمل عائلة البطل لقب الشموسي , و يعتمد ابراهيم و ناردا إشراقة الشمس في العقبة للانتحار وبعد النكوص عن الغرق يومها, يعود الراوي نهاية المطاف ليُقرر القفز من أعلى جسر عبدون مع بدايات الصباح , الجسر الذي التقى تحته ليلى , حيث قضى معها ليلة عاصفة على مشارف الفصل الطبقي بين جغرافيا المال والفقر ,مراجعة الطبيب النفسي في منطقة الشميساني, والتي دخلها إبراهيم بعد مٌضي أكثر من أربعين عاما, قد تكون كل هذه الشموس أملا للمستقبل, ترد في الرواية جملة “الفقد لا يجابه بالموت بل بالحياة”.
يبرز اللون الأحمر في وصف أهل القرية للمُحتلين لفلسطين ” الحمر” , كما يصف وجه الإقطاعي مشربا بالحمرة , كذلك تورد وجوه الاخوة بعد أن عثروا على قرش وأكلوا تمرا حد الشبع, فيما يكنى المسؤول الفاسد سارق قوت العواجيز بعماد الأحمر , يظل تصاعد اللون إلى مرحلة استخدم القناع الأحمر وسيلة للتخفي في عمليات سطو البطل على البنوك ودو الأثرياء , وبذلك يكون لون الممنوعات -الخطوط الحمراء ,لوحات السيارات – دالة من بداية الرواية إلى نهايتها للصورة الذهنية “المدلول” في خلفيات الإشارات والرموز القروية .
التقمص , الشخصيات الملهمة , الموسيقى
يتقمص إبراهيم عدة شخصيات في عمليات السطو على البنوك وبيوت الأثرياء.
1- شخصية أحدب نوتردام – المنبوذ المأسور لقرع الأجراس-في رائعة فيكتور هوغو , وجلال برجس أيضا يعلق الجرس في ربق الحياة , فبؤساء الوراق لا تقل ألما عن بؤساء هوغو .
2-سعيد مهران بطل رواية اللص والكلاب , حيث البحث عن العدل الضائع وأفكار العبث والموت والوجود وسرقة الأثرياء.
3- مصطفى سعيد , محرك رائعة الطيب صالح , موسم الهجرة إلى الشمال , وإسقاط الشخصية يحقق النتيجة في حياة جاد الله العائد من الإغتراب, وما تحمله الهجرة من مادبا إلى زقاقات عمان.
4-أحمد عبد الجواد” سي السيد” في ثلاثية محفوظ , الشخصية الملتبسة المتناقضة بين حياة الفضيلة في البيت و الإنحلال خارجه, وذلك ما جسده إبراهيم في صورته الأبويه أمام ليلى .
5-الدكتور جيفاغو بطل الروائي الروسي بوريس باسترناك,التي بدت كسيرة ذاتية في جزء و ملحمة روائية في جزئها الآخر, ذلك ما قد يعتقده قارئ دفاتر الوراق أيضا , إضافة لتشابه المصير في موت الأم وانتحار الوالد.
6-الشاعر أتيلا يوجف, أخر التقمصات في الرواية , حيث تلاحق قسوة القدر والحرمان إبراهيم كما لاحقت الشاعر المجري الذي مات منتحرا بصورة مفجعة تحت عجلات القطار.
ظهرت شخصيات ملهمة على وقع موسيقى الشجن في الدودوك ومقطوعة الدانوب الأزرق لشتراوس , وما تبعثه هذه الإيقاعات من إيقاظ لذاكرة الأبطال المجروحة بأصناف العذاب.
حيث يظل كونفوشيوس فيلسوف القيم الأخلاقية والسلوك الاجتماعي , فالراعي الأول جادالله درس الفلسفة ولُقب في قريته بالحكيم قبيل الهجرة إلى خانة الأرقام, كما يظهر ديوجين صاحب مصباح البحث عن الحقيقة الضالة, وفيلسوف التقشف ونقد مفاسد المجتمع ,مرافقا لإبراهيم في أكثر من مطرح في تقليب صفحات الوراق .
لا أجد جلال برجس إطلاقا من خلال تلك التقمصات و الإلهامات يحاول الاستعراض الثقافي لمخزونه الاطلاعي إطلاقا , بل كل ما سبق جاء في سياق طبيعة تكوين شخصية إبراهيم الذي قضى جل عمره يقرأ في “كشك الوراق” حتى إلتبست الحياة بين الواقع المر والتوق إلى حرية مطلقة.
الأبوة والأبطال الجديد
من بداية الرواية حتى نهايتها يظل الأب حالة جدلية , إيجابية في القليل ” الشموسي الأول” وسلبية في الأوراق اللاحقة, حيث يُسطير الخوف والسلبية و رغبة الإنسحاب من الاشتباك مع مفاصل الحياة كي تنمو شخصيات الجيل الثاني.
جادالله المثقف وبناء على تجربته الفاشلة- تمرد على والده في شبابه- لكنه صار يضع محددات في طريق إبراهيم , يحذره من التحدث بالسياسية مع سائقي التكسي الذين يتخذون دور البطولة الخلفي في الرواية, كلهم وشاة, كما يمنعه من قراءة بعض الكتب خشية تكرار ما حدث له سابقا.
عاهد الشقيق الأصغر يحتج على صعوبة الظروف, ويهرب خارج الوطن, في حين يقف إبراهيم واجما سلبيا أمام مشهد انتحار والده جادالله .
أما الطبيب يوسف الذي تبادل الدور الفاعل مع مريضه إبراهيم , تراوده كوابيس قتل والده “إياد نبيل”الرافض لبنوته, في حين تظل ليلى مسكونة بهاجس البحث عن وجه والدها المجهول, بذات الوقت تعاني ناردا الظلم الأبوي تخوفا من أوهام لم تحدث بالأصل. وهنا تظهر رغبة الأبطال في قتل سلبية وانهزامية الآباء في مواجهات الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا, الرؤوس لا تكف عن الطأطأة والعاصفة مستقرة في الأجواء.
عرض جلال برجس في دفاتر الوراق حالات لصور جديدة تؤشر على تغيرات طرأت على حواف المنظومة القيمية والاخلاقية للمجتمع . فهاهي السوشيال ميديا وتعقيداتها ,الرأي العام قصير النفس محدود الذاكرة, العوالم الخفية لزُمرة الفساد-الهكر- وطريقة تصدُرهم لصفحات الفيسبوك كتُقاة بثياب الحملان, إضافة لتمجيد وتعاطف شريحة واسعة من الناس لشخصية اللص الُمقنع , احتجاجا على غياب العدالة وعدم المساواة الاجتماعية مما يؤشر على حالة الاحتقان و الاعتمال في دواخل الناس.
جلال برجس يقرع الجرس …. فالعصفور الذي فك أسره جادالله قبل نصف قرن في مأدبا , قصقصت أجنحته الحياة ونتف الفساد والجور آخر ريشاته , فراح بالكاد يرفرف حول رمزية القفز الحر من فوق جسر عبدون ,حيث فاصلة أفرقاء الشبع والجوع ” نحن وهم” .
مع كل ما ورد من مفارقات مؤلمة , ترد في دفاتر الوراق جملة غاية في الأهمية
” الأوطان لا يهدمها المحتلون فقط, إنما يحدث أن يهدمها محبوها أيضا ……!!!
- كاتبة وإعلامية أردنية