“الدوق”.. قصة سارق لوحة غويا الذي أراد إصلاح المجتمع بثمنها

سائق سيارة أجرة يتحول إلى روبن هود

“الدوق”.. قصة سارق لوحة غويا الذي أراد إصلاح المجتمع بثمنها.

* طاهر علوان

 

سينما المحاكم والمرافعات لوحدها تحمل في ثناياها قصصا عن جرائم وتفضح قضايا غامضة، وهنا تجد ما يشبه الكورال التقليدي والجمهور الذي كان سائدا في المسرح منذ بداياته وحيث الحوار هو سيد الموقف والمرافعات والمجادلات الكلامية والصراخ والانفعال والمحلّفين والزجر والإسكات والقضاة الذين يلبسون الشعر المستعار، كل ذلك يرسم ذلك المشهد المعتاد.

يفتتح المخرج البريطاني روجر ميشيل فيلمه “الدوق” بمشهد المحكمة بكل تفاصيلها، حيث  الشخصية الرئيسية، الرجل المسن كيمبتون بونتون (الممثل جيم برودبينت) يعلن في قاعة المحكمة أنه بريء وأنه لم يسرق، لنعود إلى بريطانيا وشوارع لندن في الستينات.

في البدء لا بد من القول إن هذا الفيلم بريطاني إلى آخر لقطة ومفعم بالروح البريطانية والعادات والطباع والشخصيات، وإن المخرج قد أبدع في منحنا صورة حيّة وتفاعلية مع الحياة الإنجليزية في الستينيات حيث تقع الأحداث، كل شيء تمت العناية به، الأزياء، الشوارع ، ديكورات البيوت، الأكسسوارات، وسائل النقل، ملابس عمال النظافة، سيارات التاكسي وغير ذلك كثير.

مفارقة إنجليزية

الحاصل إننا أمام شخصية ذلك الرجل المسن المتقاعد كيمبتون المحمّل بالطرافة واللا مبالاة وهو ممن يؤمنون بشعار “قل كلمتك وامش”، وهو كثير العناية بالناس ومحمّل بفلسفة خلاصتها ما لم تكن أنت بجانبي فإنني لا شيء، ولهذا تكبر عنياته بالآخر على الرغم من تقدمه في السن إلى درجة أنه يفقد وظيفته كسائق سيارة أجرة لأنه تعاطف مع فقير لم يستطع دفع الأجرة كاملة، ويفقد وظيفته في مصنع المعجنات لأنه دافع عن باكستاني ظل يتعرض للعنصرية وهكذا.

بريطانيا وفي مجتمعها المخملي وفيما الرجل المسن كيمبتون يعيش التحوّلات، تحتفي بلوحة لا تقدر بثمن للرسام الإسباني غويا وتعرضها في المتحف الوطني فيما الطوابير تنتظر فرصتها لمشاهدتها، بينما هو يشاهد عبر التلفاز الأبيض والأسود كل ذلك عندما يباغته مفتشو هيئة الإذاعة البريطانية لأنه يشاهد برامجها من دون أن يدفع رسم الاشتراك، وهنا يبدأ احتجاجه في عدم منح كبار السن الذين لا سلوى لهم سوى التلفاز رخصة مجانية في تلفزيون الكابل.

في وسط هذا سوف تختفي لوحة غويا بطريقة عجيبة، يتمكن ذلك العجوز من سرقتها ولا يعلم بذلك سوى ابنه، ويقرر ذلك بعدما يكون قاصدا بي.بي.سي ليقدم لهم مسرحية سرعان ما رفضوها تروي قصة مؤثرة بالنسبة إليه ألا وهي وفاة ابنته ذات الثمانية عشر عاما في حادث، مما أبقى ذلك الجرج مفتوحا، وشعوره بالذنب أنه هو الذي اشترى لها تلك الدراجة الهوائية التي قتلت وهي تركبها.

لا يستخدم كيمبتون في سرقته واختراقه المتحف المحصن مافيا ولا عصابة متخصصة ولم يشهر سلاحا، بل إنها كوميديا سوداء ومفارقة ذات نكهة إنجليزية خالصة، إننا أمام روبن هود مخلّص كان يشاهده بالأبيض والأسود وها هو يريد تكريس صورة بريطانية له، أن يتمكن من بيع اللوحة بمبلغ كبير لكي يصلح بذلك المال ما اعوج في المجتمع.

قصة حقيقية

Thumbnail

يؤسس المخرج وكاتب السيناريو نسيجا اجتماعيا ملفتا للنظر وخاصة لجهة علاقة كيمبتون بزوجته وولديه، اللذين يعيشان ويتفاعلان ويشربان معه بسلام ومحبة، فهو مثل ظل
عابر لا يريد أن يؤذي أحدا ولا يكدّر صفو أحد، وهو يبتلع سخرية زوجته من تكريس محاولاته الفاشلة لكتابة مسرحية مهداة لروح ابنته التي لا يفارق زيارة قبرها.

وإذا كنا في عموم التجارب السينمائية نحاول النأي عن كثرة الحوارات فإن هذا الفيلم يتحفنا بحوارات نتعطش لها، لاسيما تلك التي يطلقها كيمبتون، الخيط الممتع من السخرية واللا مبالاة ورفض النظام التعسفي الذي لا يكترث بالفئات الأكثر ضعفا وحاجة، وهو ما يتجلى في الرأسمالية البريطانية وحياة الترف التي تعيشها طبقة مخملية تتجلى عندما يذهب كيمبتون لزيارة لندن، بل ها هو يدخل مبنى ويسمنيتسر حيث مقر البرلمان وهناك يهتف ويصرخ مطالبا مثلا بحق المتقاعدين في مشاهدة التلفاز مجانا، لكن لا يوجد سياسي يصغي إليه فيرميه حراس البرلمان خارجا.

وأما قصة إخفاء لوحة غويا في دولاب الملابس والتغطية عليها بشتى الوسائل فهي لوحدها تستحق وقفة، لاسيما بعد اكتشافها من طرف صديقة ابنه التي تساومه إما أن تفضحه وإما أن تتقاسم معه قيمتها، وهو خلال ذلك يشاهد كيف انقلب الرأي العام وأجهزة الشرطة رأسا على عقب وهم يتخيلون تلك العصابة الدولية الخطيرة العابرة للقارات التي سرقت اللوحة، بينما اللوحة مخبأة في دولاب ملابس كيمبتون.

يقود هذا الممثل المشاهد ببراعة واتقان ملفتين للنظر، عزز ذلك تكريس المخرج مجمل الأجواء والأحداث ليشبعها بروح إنجليزية خالصة، وليقدم قصة حقيقية كان بطلها سائق سيارة الأجرة كيمبتون الذي يبدو ببدلته الأنيقة في مشاهد البداية والختام وهو يترافع بسخريته المثيرة للضحك دون أن يقصد السخرية بالطبع، بل هي فطرته وسجيّته وهو في وسط عالم متكلف وجامد بينما هو يريد حياة بسيطة لا يتأذى فيها الناس ولا يعانون، ولهذا ستكون مشاهد المرافعة في المحكمة باتجاه الحكم عليه عن سرقة تلك اللوحة الثمينة هي محاكمة لوجدان شعبي ومزاج يتجه للتسامح مع كيمبتون، وقبول كل ما فعله على أنه نيّة طيبة وليست مؤذية.

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *