استنساخ الروايات الكلاسيكية

إنتصار بوراوى

كتابة أجزاء تالية لكل ما ينجح في جانب الإبداع الإنساني  من فنون  مختلفة سواء كانت أفلام  سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية  ، هي موضة رائجة في سوق الشركات العالمية التي تستثمر النجاح والرواج  للجزء الأول من  أي  عمل فنى بالاستمرار لإنتاج أجزاء  تالية منه  ،ولكن  هل من المجدي  ان  تطال هذه اللعبة الانتاجية  أيضا  الروايات  الكلاسيكية القديمة ،التي  كتبت في فترات تاريخية سابقة لم تكن فيها الشركات الكبرى،ن قد استحوذت على أسواق العالم عبر العولمة الاقتصادية من شبكات تلفزيون وسينما ، وأنترنت وغيرها من شبكات الاعلام المختلفة فى العالم

انتصار بوراوي

الا يساهم ذلك في إزالة ذلك السحر الجميل لتلك الروايات الخالدة التي تركت أثر   إبداعي على مر الزمن بروح مؤلفها وكاتبها الأصلي وبروح الزمن الذي كتبت ضمن سياقه النفسي والتاريخي .

 مثلا هل نستطيع ان نزيح من الذاكرة صورة سكارليت الشقية المتمردة  بطلة رواية  ” ذهب مع الريح ”  للكاتبة الأمريكية مارغريت ميتشل،  بنهايتها المفاجئة والمعلقة على عتبة الزمن كسؤال يتيم ومفجوع  دون اجابة، وهى النهاية التي جعلت الرواية تكتسب قوتها وبريقها وشغف ،عشاق الفن الروائي العالمي بها لأنها نهاية ربما اكثر غنى ومعنى دلالي جمالي و تأثيري، من النهايات التقليدية لكثير من الروايات العالمية ولأنها اقترنت بقصة حب مشاغبة جميلة ،كانت هي مصدر التشويق والجمال بالرواية وما كان لها سوى  أن تشبه سوى ابطالها فقط.

وهل حصد الجزء الثاني من الرواية نفس النجاح للرواية الأم المكتوبة بقلم وروح وفكر كاتبتها؟

لا طبعا لم يحصد الجزء الثاني من الرواية، الذى كتبته  الكاتبة الأميركية الكسندرا ريبلينفس عام 1991م نفس نجاح الجزء الأول، الذى كتبته مؤلفته الأصلية لأن بصمة  فكر وخيال الكاتب الحقيقي للعمل الأصلي، مثل بصمة الأصبع لكل انسان على هذه الارض مستحيل  وجود  نسخة أخرى تطابقها عند أي انسان اخر  كذلك فأن الرواية التي يكتبها الروائي  ، لن  تتكرر مرة اخرى مهما استجلبت   دور النشر الكبيرة احدث الورش الفنية  من كتاب مهرة لاستنساخ، أجزاء أخرى مكملة للنص الأصلي لأن النكهة الحقيقية للرواية، بكل عناصرها الفنية التي  كتبت ضمن سياقها التاريخي والنفسي  ،مستحيل ان تتكرر مرة اخرى مهما جند الكاتب الثاني للرواية خياله وفنه وقدرته الابتكارية  لإضفاء بهارات المتعة والجذب للجزء الثاني منها.

حين قرات منذ أيام بأن ثمة تخطيط حالي لإصدار جزء ثاني من رواية” ربيكا”   للكاتبة الانجليزية “دافن دى موريه “، ستكتبها كاتبة انجليزية منتقاة سرح بي خيالي لذكرى وطعم تلك الرواية المرهفة المشاعر العابقة بالجمال الصافي الخلاب لروح بطلتها البسيطة الشفافة التي وهبت الحب المطلق للزوج الغامض الذي أبدع في نسج صورته كرجل محب يحيا على ذكرى زوجته السابقة، لتصدم البطلة في نهاية الرواية باكتشاف جثة الزوجة التي قام الزوج بقتلها.

 طبيعة السرد الروائي للرواية الرائعة  ” ربيكا”  وضع القارئ في جو من جمالية المكان الريفي الذي ابدعت الكاتبة في رسمه، لينطبع في ذهن قارئها وكأنه يتأمل لوحة للفنان الفرنسي “مونيه”، حيث  الوصف البارع  للطبيعة الخلابة والاشجار المتهادية بحفيفها المتأرجح على عتبة الزمن، بلغة  سردية  شفافة ندية .

 كاتبة الرواية هي الانجليزية دافن دو مورييه التي ولدت عام 1907 وهي ابنة الممثل المسرحي الانكليزي الشهير جيرالد دو مورييه

 كان أول كتاب لها عن والدها بعنوان: صورة قلمية”، ولكن روايتها ربيكا نالت النجاح لأنه ثمة روح جمالية شفافة لبطلة الرواية تعبق من كلماتها المتسللة عبر أحداث الرواية كما في هذا المقطع من الرواية : لقد تأكدت الان ان السعادة ليست شيئا يباع او يشترى او يمنح وليست هي المال او القصور بل هي نوعية التفكير وراحة البال.

جمالية الرواية الكلاسيكية تكمن في إنها كانت أمينة لروح عصرها، ومعبرة عن روح الزمن الذى كتبت فيه،  ذلك الزمن  الذى لم يكن قد  شهد تشظى الانا الانسانية في عالم اليوم  المتصارع والمتسارع ، والذى  تحللت فيه القيم  الإنسانية  وغدت  القيم الاستهلاكية واللهاث خلف الماديات ، هي  سمته  البارزة والذى رصدته الرواية الحديثة   عبر   صياغتها لأشكال جديدة ،عبر ثيمات أسلوبية متجددة من المونولوج الداخلي الى الرموز والاستعارات ،ومن خلال بنية سرد حداثية تعتمد على التشظي واللعب بالزمن والشخصيات أيضا، بخلاف أمهات  كلاسيكيات الروايات العالمية الواقعية التي تعتمد على حدث واحد تدور حوله الرواية بكل شخصياتها القليلة وهو الأسلوب الذي تجاوزته كل أنواع الروايات الحداثية.

ربما لهذا لازالت مثل هذه الروايات تجد النجاح بين القراء الجدد عند كل طبعة جديدة لها باعتبارها صدى لروح أزمنة كانت تحتفى بروح الانسان قبل أي شيء و غدا البحث عن هذا الصدى الغابر ، كالبحث عن زمن بروستى ضائع لن  يعود وكل محاولة لاستنساخ مثل هذه الروايات  العالمية، بكتابة  اجزاء جديدة منها غبر مؤلفين أخرين لن يبعث روح الحياة بشخصياتها التي  بقيت حية بذاكرة قرائها بقوة وتأثير أسلوب وفكر ووهج خيال روح كاتبها الأصلي.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *