د. عامر الحافي
ثار في النفس سؤال حينما كنتُ أقرأ قوله تعالى في سورة الأنبياء: {ولقَد كتَبنَا في الزَّبورِ مِن بَعدِ الذِّكرِ أَنَّ الأَرضَ يرثُهَا عبَاديَ الصَّالحُونَ} [الأنبياء: 105]. والسؤال هو: لو أني بحثتُ عن هذه الآية في سِفر المزامير في الكتاب المقدس، فهل أعثر عليها؟
قمتُ بالمحاولة حتى وقفتُ عند المزمور 37، والذي جاء فيه: «أمَّا الوُدَعاءُ فيَرِثُون الأرض» (37: 11)، «لِأَنَّ الْمُبَارَكِينَ مِنْهُ يَرِثُون الأرض» (37: 22)، «الصِدِّيقُونَ يرثُونَ الأَرضَ وَيَسكنُونهَا إِلَى الأَبَدِ» (37: 29). لقد أكَّدَت هذه الآيات النبوية الداوديّة ربَّانيةَ ما جاء في القرآن، الذي صدَّق ما صدَعَت (نطَقَت جهرًا) به المزامير قبل أكثر من ألفَي عام. فتلاقت أنوار القرآن والمزامير، وتجلَّت في مشهد بديع مهيب. لقد فتحت آيات المزامير أمام المفسِّر أُفقًا تفسيريًّا جديدًا. فالعِباد الصالحون الذين يَرِثُون الأرض هم الوُدَعاء، المبارَكُون، الصِّدّيقون. كذلك أكَّد وحسَم هذا التطابقَ بين آية سورة الأنبياء ونصوصِ المزامير، أنَّ الزَّبُور هو اسم الكتاب الذي آتاه الله لنبيِّه داود عليه السلام، كما جاء ذلك صريحًا في قوله تعالى: {وآتينا داود زبُورًا} [النساء: 163].
لقد استعمل القرآن تسمية الزبور، ومعناها في اللغة هو القطع. ويمكن الاستنتاج هنا أن الزبور هو الكتاب، الذي يحوي فقرات مقطَّعة تنطوي معانيها على القوة. ولكن، لماذا أطلق القرآن اسم الزبور على كتاب داود؟ لا بد أن نعرف بدايةً أن تسمية المزامير ليست هي التسمية الأصلية لكتاب داود، وإنما هي ترجمة للتسمية التي استُعملت في الترجمة اليونانية السبعينية. وأمّا التسمية العبرية الأصلية، فهي «تهيليم»، والتي تعني تهاليل أو تسابيح.
لعلَّ الإشارة القرآنية البليغة التي دلَّت على جمال صوت داود، هي قوله تعالى: {ولقد آتينَا داوُدَ منَّا فضلًا يا جبَالُ أَوِبِي معهُ والطَّير وألَنَّا لهُ الحديدَ} [سبأ: 10]. فتسبيح الجبال والطيور مع داود، هو كناية عن جمال صوته وروعة تسبيحه التي توشك أن تُنْطق الجماد، وتَفُوق تغريد الطيور حُسنًا وجمالًا. لقد كان صوت داود جميلًا جدًّا. فما سُمِّيت المزاميرُ بهذه التسمية، إلّا لأنها جمعت بين جمال الصوت البشري وجمال صوت المزمار. فتسمية المزامير لم تكن غريبة عن المعرفة النبوية، حيث استعمل النبي تسمية «المزامير»، عندما سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ القرآن ويتغنَّى به، فقال له النبي: «لقد أوتِيتَ مزمارًا من مزامير آل داود» (رواه البخاري).
إذا كانت المزامير تصف داود بأنه «إمام المغنِّين»، فقد حثّ الرسول على التغنّي بقراءة القرآن الكريم: «ليس مِنّا مَن لم يتغَنَّ بالقرآن» (رواه البخاري). فتجميل الصوت وتحسينه في قراءة القرآن، هو سُنّة نبوية يقتدي بها العاشقون لجمال البيان الإلهي.
تحوي المزامير أعمق تعابير الإيمان وأكثرها تأثيرًا في النفس. فهي تُجسّد تنوّعًا واسعًا من الانفعالات والمشاعر، التي تعتلج في خَلَد الانسان، كالفرح والتسبيح والشكر والحزن والأسف والتوبة. وفي المزامير تَظهر معاني البحث عن الحكمة، ممتزجة بمخافة الله: «رأسُ الحكمة مَخافةُ الرَّبِّ» (مزمور 111: 10)، وصِدقِ التوكل على الخالق: «عليك يا ربُّ توَكَّلْتُ. لا تَدَعْنِي أَخْزَى مَدَى الدَّهْر» (مزمور 31: 1)، والرحمةِ الإلهية بأرقِّ معانيها «الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ» (مزمور 103:. وممّا يزيد جمال المزامير روعةً، أن اسم داود عليه السلام في اللغة العبرية هو «المحبوب»، وفي اللغة العربية تدلُّ تسمية الودّ أو الوداد على المحبة.
ليس مستغرَبًا أن يكون سِفر المزامير هو أكثر كتب العهد القديم، التي يُستشهد بها في العهد الجديد، ومنها قول المسيح: «طُوبَى لِلوُدَعاء، لأنهم يَرِثُون الأرض» (متى 5: 5). وفي المزامير: «أمَّا الوُدَعاء فيَرثون الأرض» (37: 11). فالإنجيل كما القرآن، استشهد بهذه الآية الجامعة.
إن في عدم الْتِفات كتب التفسير القديمة إلى نص الزبور، الذي جاء في آية الأنبياء، دلالة على أن أبواب المعرفة التفسيرية ما تزال في بداياتها، وهو ما يجعلنا أكثر تفاؤلًا، في اكتشاف عمق العلاقة بين كتب الأنبياء عليهم السلام.