رواية «بَابُ الحَيْرَة» ليَحْيَ القَيْسي:
عندما تُصبح قراءَة النَّص مثلَ المَشي على الرَّصيف
* ناجي الخشناوي (*)
“يُخطئ المرء حين يَعتَقد أن المَكان مُحَايدٌ“
(عبد الرحمان منيف)
“المكان أحَالَني دَومًا إلى الصَّمْت“
(جول فاليه)
وصف «تيزفتان تودورف» المكان في أحد كتبه بأنه «فضاء عالم النص، وهو ليس لغويا وان كانت أداته اللغة. انه تقنية، حركة زمن السرد» (1) ولا نبالغ إن قلنا إن المكان هو الأكثر التصاقا بحياة الإنسان، ذلك أن إدراكه له حسّي مباشر وهو يستمر مع الإنسان طوال سنين حياته، بل إننا لا نغالي إن قلنا إن وجود الإنسان لا يتحقق إلا من خلال علاقته بالمكان وانه على قدر إحساسه بأنه مرتبط بالمكان، يكون إحساسه بذاته، وبقدر ما يحتاج إلى رقعة فيزيقية يثبت فيها امتداده الجسماني فانه يميل كذلك إلى البحث لنفسه عن رقعة من الأرض / المكان يضرب فيها بجذوره ليؤصل هويته وكينونته، وما شكل عيشنا في مكان ما او أمكنة متعددة بنظام مخصوص إلا تعبير عن شكل سكننا داخل ذواتنا.
إن المكان هو طوبوغرافية وجودنا الحميم… هو إثراء لخصوبة الحياة… نوع من المناقشة بيننا وبين صنوف الدهشة وأنواع المساءلة… المكان هو بؤرة الحيرة التي تدفعنا من حال إلى آخر… المكان هو الباب المفتوح على اللامتوقع واللامنتظر…
“كلما سألت، تنفتح أمامي الأبواب واحدا واحدا وكل باب يسلمني للآخر” (2) هذا هو المكان الذي سنحاول تقصي أثره والوقوف على ملامحه ودلالاته ودوره في دفع السرد وخيوط حكاية ابن الهزائم والانكسارات «قيس الحوران» و «هاديا الزاهري» وحكايتهما مع المخطوط الغريب في رواية «باب الحيرة» للكاتب الأردني يحي القيسي، ومردّ اشتغالنا على المكان في هذه الرواية هو استئثار هذا المكوّن الفني بنصيب وافر من السرد لدى يحي القيسي من ناحية، وبقدرته الفائقة على تحميل أمكنة روايته شحنة عاطفية وفائضا دلاليا يجعل قارئ هذا النص يؤمن بمقولة غاستون باشلار «إن قراءة المكان في الأدب تجعلنا نعاود تذكّر بيت الطفولة» (3)، فخلافا لما صرح به الكاتب في جزء «مدارات الحيرة» من روايته بقوله «كيف يعوّل المرء على ذاكرة مهترئة لروح هائمة»، خلافا لذلك بدت ذاكرة المؤلف مكتنزة بأدق تفاصيل شوارع تونس وأبوابها وأزقتها وساحاتها العمومية ومقاهيها وقصورها التاريخية ومقامات أوليائها وحاناتها… رغم انه لم يُقم بتونس إلا ثلاث سنوات فقط في بداية التسعينيات من القرن الماضي.
“باب الحيرة”… باب الكتابة
مثلما قدّم لنا يحي القيسي شخصية روايته تدور كالمجذوب وهي تذرع تونس الحاضرة، مدينة الحفصيين «من باب البحر إلى باب الجزيرة ومن باب العسل حتى باب الخضراء ووصلت حتى باب الجديد وباب سويقة… وقد أكملت التسعة والتسعين بابا، وأُعطيت من المعارف ما لم يعط أحد»، مثلما فعل الراوي مع المرويّ عنهم، كان لزاما على الكاتب أن يفعل مع قارئه ما يشاكل خيوط نصه أو ما يجمعها كلها ضمن عتبة الدخول، العنوان الرئيسي للرواية…
“باب الحيرة» هو المكان المجازي، المكان اللفظي المتخيَّل، منه يخترق القارئ المتن السردي، انه الفضاء الروائي الافتراضي… أو هو أبواب الرواية كلها الواقعية منها والخيالية، وإذا كانت أسماء الأمكنة داخل الرواية تحيل على أمكنة بعينها يعرفها كل التونسيين وكل من زار تونس، أمكنة واقعية ذات هندسة ومعمار متعارف عليهما… وقدمها يحي القيسي في أغلبها وفق مبدأي الاستقصاء والانتقاء في نفس الجملة الوصفية، إذ يقول: «كنت أسير في شارع الحبيب بورقيبة باتجاه المدينة العتيقة متجاوزا زحمة المشاة، وأبواق السيارات، ورنين الميترو، وصليل عجلاته على قضبان الحديد، ورفرفة العصافير على الأشجار الكثيفة، التي تتوسط الشارع، وثرثرة الجالسين في المقاهي والحانات، وأدخل في ضيق السوق العربي المظلل بالسقوف… صعودا باتجاه مقام سيدي بن عروس وجامع الزيتونة، تتضوّع قربهما روائح الأكل الشهي من مطعم الزاوية…» (ص 9) ليحقق بذلك سمة الواقعية من خلال الوصف البلزاكي الاستقصائي من جهة، ويغذي سمة التخييل لدى القارئ من خلال الخطوط العريضة للوصف الانتقائي الذي يعوّل عليه ستندال في رواياته.
وإذا كانت أمكنة المتن محيلة على فضاءات امتدادية فيزيقية، فان مكان عتبة الدخول «باب الحيرة» هو فضاء معنوي مجازي اختاره الكاتب من طبيعة العلاقات بين شخصيات حكايته وعلاقتهم بما اتصل بهم من أحداث ومؤثرات واقعية (مثل حكاية حسن بن عثمان في فضاء 20 أوت للإبداع) وخيالية (مثل حكاية قيس حوران مع أبواب الهلوسة والتخيلات) فمكان العنوان اللغوي هو القادح للحركة المادية والنفسية في أمكنة النص بإطلاقيته ورمزيّته، ذلك أن تركيب لفظتي «باب» و «حيرة» من شأنه أن يضمن الغاية التأطيرية أو التوجيهية للكاتب في علاقة بنصه، ذلك أن «إضفاء صفات مكانية على الأفكار المجردة يساعد على تجسيدها، وتستخدم التعبيرات المكانية بالتبادل مع المجرد مما يقربه إلى الإفهام» (4) فالحيرة هي التي انطلقت منها اغلب الأنساق والسياقات والدلائل في الفضاء الروائي، وهو يتنقل من المغلق إلى المفتوح ومن العالي إلى الواطئ ومن المقبب إلى المسطح ومن الواقعي إلى الافتراضي من خلال “الباب”…
وإذا ما حاولنا الإيغال بعيدا في تأويل «الحيرة» فإننا سنذهب إلى تقنية كتابة التجربة الحضرية الحديثة، تلك التي تكون فيها المدينة سلسلة متواصلة من الاحتكاكات مع الناس الذين يعرفون عن بعضهم البعض القليل، حيث يلتقون بالصدفة ويفترقون بسرعة، هذه الكتابة التي برزت خاصة حول باريس في القرن التاسع عشر مع شارل بودلير وإيميل زولا وغوستاف فلوبير، ثم مع مارسيل بروست وجيمس جويس وفيرجينيا وولف، وهي أيضا ما يسمى «بكتابة المتجوّل» حيث «تصبح قراءة النص مثل المشي على الرصيف نفسه… ويتجاوز العمل كونه نصا عن المدينة إلى كونه اندماجا للتجربة الحضرية والنص نفسه، وينتهي كرواية وحيدة ليشمل تعددية التجارب في المدينة» (5) وهذا عين ما نقف عليه في ثنايا نص يحي القيسي وأبواب تونس الحاضرة، فالبطل «قيس حوران» تَعَرَّفَ بمحض الصُّدفة على «سعيدة القابسي» لمّا كان جالسا على «الدكة المرمرية، قاعدة تمثال ابن خلدون المنتصب آخر الشارع»، حيث يكتب «بَدَا أمر تعرّفي عليها وليد الصدفة. صبية حنطية الملامح اقرب إلى السمرة منها إلى البياض» (ص 34 ـ 35) وجرى بينهما حوار عفوي ومستعجل كأغلب حوارات ولقاءات المدن المُزدحمة بالمشي…
في مكان آخر من الرواية يكتب يحي القيسي على لسان قيس الحوران:”… وذات مرة لم يكن مناص غير الولوج في نهج سيدي عبد الله قش من كثرة ما سمعت عنه من الحكايات والتشويق“، فالصدفة أو الفضول أو الإيعاز تتوفر كل مرة لتقوم بتحويل وجهة البطل وبالتالي تحويل وجهة الأحداث، كما أن الأفضية والأطر المكانية لم تُقَدَّم كمعطيات جغرافية معزولة عن خيوط السرد وحبكة الحكايات، فنهج زرقون أفضى إلى الحديث عن الاقتصاد العشوائي ونهج سيدي عبد الله قش كان قادحا للحديث عن تاريخ الجنس، وفي هذا الإطار المكاني قَدَّمَ “يحي القيسي” وجهة نظره التقدمية، ذات البعد المادي الجدلي عندما يصف النساء اللواتي قَادَتْهُنَّ الظروف البائسة إلى مثل هذه المهنة التي تسحق إنسانيتهن، ونفس النهج أحال «قيس حوران» لقراءة مخطوط شهاب الدين التيفاشي القفصي قاضي مصر وتونس، والمقاهي مثلت قادحًا لشرح ذكورية المجتمع التونسي وجَنْسَنَته للمكان مثله مثل أي مجتمع عربي ، فالمقهى حكرٌ على الرجل ومُحَرَّمٌ على النساء، كما أن دكة تمثال ابن خلدون وما حوى الشِّريَان الإسفلتيُّ الأكبر بتونس العاصمة، شارع الحبيب بورقيبة، كانت (دكة التمثال) قادحًا لطرح قضية الغُرْبَة اللُّغوية التي يعيشها التونسي والتونسية، «غربة قسريّة وطوعيّة في ذات الوقت، حتى تَمَشْرَقْنَا من جهة، وتَفَرْنَسْنَا من جهة أخرى، وثمة أيضا من يريد أن يُتَوْنسَنَا تماما والشاطر فينا من يختار وجهته» (ص 37) كما كانت دار الكتب بالمدينة العتيقة مكانا حاضنًا للحبّ والمعرفة، وبالمثل أحالت مقامات الأولياء على أحاديث الشفاعة وحتى حزب النهضة وجماعة الإخوان المسلمين… وأيضا مثلت الأماكن التونسية المُحيلة على الفعل الثقافي مثل فضاء 20 أوت للإبداع قادحا لتشريح واقع الثقافة التونسية في فترة التسعينات من القرن الماضي أورد محتواه يحي القيسي على لسان الروائي حسن بن عثمان بسخريته اللاذعة عندما قال «مُش معقول الواحد يا ربي يتدمّر من أجل كتابة قصة، ويأتي أنصاف القرَّاء والكَتَبَة ليقوده بنقاشهم إلى النَّدم على فعل الكتابة كله… هذه آخر مرة أشارك فيها أمسيات من هذا القبيل…» (ص 62).
عندما تفيض الأمكنة بأرواحها
هكذا يستأثر المكان في رواية باب الحيرة بنصيب وافر من الاشتغال عليه من حيث هو مكوّن فني مستقل بذاته، ومن حيث هو مكوّن فني جزئي ينصهر مع باقي مكونات الكتابة الروائية، وهذا الاهتمام بالمكان وتحديدا بالتجربة الحضرية لم تُسقط الروائي يحي القيسي إلى درجة الجغرافيين ـ على علمهم ـ ولم يكن رحالة، بقدر ما تمكن من مسك «روح المكان» بل إنه وصف النَّبْعَ الصافي في الوادي الراكد (نهج سيدي عبد الله قش) وحرّك الماء الآسن في قلب الحدائق المصطنعة (شارع الحبيب بورقيبة) فأمسك بذلك الروائي ناصية الإبداع ذلك أن «كلٌ من المغزى الأدبي لتجربة المكان والتجربة الأدبية لذلك المغزى المرتبطة بالمكان يشكلان جزءا من عملية فعالة للإبداع والهدم الثقافيين» (6) فالكاتب يستغرق في عناصر الأمكنة وتفاصيلها ويتعاطف معها ويفرّ من أبوابها تماما مثلما يجعل القارئ يستغرق خلف شخوص روايته في الفقرات المنتقاة من تراث السَّرد المغضُوب عليه والمُصَادر… سرد «ذلك المتمرد الأكبر، ربيب إبليس الراوندي، وأستاذه أبي عيسى الوراق المانوي» (ص 30)… سرد السيوطي وابن عبد ربه والاصفهاني والمحاسبي والنفزاوي والتيفاشي والحلاّج وحمدان القرمطي والتيجاني والانطاكي…