حوار: ساسي جبيل

 

بعد إصدار حوالي 15 كتاباً في النقد والبحث والرواية، ومسيرة حافلة من الإبداع قضاها الكاتب الليبي أحمد الفيتوري منتقلاً بين مختلف الأجناس الأدبية والإعلام الثقافي، منهمكاً في الكتابة والبحث ربما لتعويض سنوات الغياب، وبعد مسيرة حافلة بالعطاء يعود مجدداً إلى ذاته باحثاً عن نفسه من جديد من خلال سيرته وسيرة مدينة بنغازي.
وفي هذا الحوار مع «الاتحاد الثقافي»، يجوب بنا الفيتوري جوانب مختلفة من عوالم الساحة الأدبية الليبية والعربية، وتجربته الإبداعية، في مدونة الرواية والنقد، ومعالم المشهد الإبداعي الليبي بشكل عام.

* في ظل واقع عربي مأزوم وموبوء بالصراعات الاجتماعية والسياسية.. ما هو الدور الذي يتعين أن يضطلع به المبدع للخروج من هذه الدوامة التي ألحقت أبلغ الضرر بالكثير من مقومات الذات العربية؟
** لم تعد الحياة هي الحياة التي كنا نعرف، في هذا العصر السيبراني، تعيش البشرية عصر حواء المحرضة على المعرفة، كأنما البشر يولدون الساعة، أو كأنما القيامة الآن، وربما تحضر هنا في الذاكرة رواية «كرسي الرئاسة» للمكسيكي كارلوس فوينتيس، عام 2020، حيث تتوقف الحياة في المكسيك، لأن هناك قوى عظمى بيدها تعطيل الإنترنت! والشاهد أن الرواية سفر هذا العصر تنبئ بما سيكون، حتى لو لم يكن! 
وإذن البشرية على الحافة، قفزتها القادمة في الهاوية! ومن هذا وغيره طبعاً جاء «الربيع العربي»، وهو حدث لم يقع مثله من قبل في أوطان العرب. كان مثقفون عرب يبشرون بالزوال العربي! فإذا بـ«الربيع العربي» يقلب الطاولة، حيث لم تعد النخبة لسان حال ما يحدث، وحيث لم يعد المثقف النافخ في البوق. وبذا فإن المبدع العربي لم يعد الفرد، المفرد بصيغة الجماعة، فكما أن العلم لم يعد (العالم فلان أو علان)، فكذلك الإبداع غدا أيضاً أفقياً.

  • أحمد الفيتوريأحمد الفيتوري

وفي كتاب «شمس على نوافذ مغلقة»، الذي أشرف على إعداده ونشره الشاعر الليبي الأميركي البارز خالد مطاوع، أصوات لكوكبة من المبدعين الليبيين ما بعد ثورة فبراير 2011، وهم شباب وشابات في أوائل العقد الثالث من العمر.
وقد كتبتُ دراسة احتواها الكتاب، وتبيّـن لي أنه ليس ثمة كاتب في السرد أو الشعر حصراً، فالنوع الأدبي بدأ يضمحل لصالح الإبداع. كما لم يعد هناك أيضاً مبدع مبرّز أو مبدعة مبرّزة، بل هناك حالة إبداعية عامة، كما النهر يشكلها العديد من الروافد أو الشلالات.. وبعبارة أخرى، فقد غدت الكتابة الإبداعية شبكة مبدعين.. كما حدث مع اللغة (منزلة الإبداع)، حيث الشبكة حطمت الحدود، فمثلاً اللهجة والفصحى وهما من أصل واحد، اندغمتا في النصوص، ومن دوافع ذلك «السوشيال ميديا»، كما فككت أيضاً العلاقة بين النص والمبدع الواحد المتوحد المتفرد.
 لقد ظهر مبدع مغيّب هو القارئ/‏‏‏‏‏‏ المتلقي، الذي غدا جزءاً من النص، حيث يُنشر النص من خلال المبدع في حاله الأول، فيتشارك وشبكة متلقيه في تنقيحه ومراجعته، لقد تحطمت الحواجز… ومن هنا فثمة إبداع ليس ما بعد الحداثة فحسب، بل إبداع ما بعد المعرفة، حيث إن المعرفة الناجزة بالضرورة من الماضي، أما المعرفة القادمة فما لم نعرف بعد! 

* بقيت الساحة الأدبية الليبية على تباعد، وربما جفاء مع محيطها الإقليمي، وربما الدولي.. ما هي برأيك الأسباب الكامنة وراء ذلك؟
** سأجيب أولاً بواقعة كاشفة، كان أوباما، الرئيس الأميركي السابق، في زيارة لإلقاء محاضرات في جنوب أفريقيا، وقد ذكر أن كتاب رحلته، كان آخر ما صدر للكاتب الليبي هشام مطر الذي يكتب بالإنجليزية، وهي رواية سيرَوية عن عودة مطر إلى ليبيا، بعد غيابه عنها أغلب العمر، وذلك عقب ثورة فبراير 2011.
أما إبراهيم الكوني، فرواياته ترشحه لنوبل للآداب بجدارة، وهو كاتب غزير الإنتاج ويترجم للغات عدة أيضاً بغزارة. والشاعر خالد مطاوع في أميركا، ينال في الشعر الجائزة تلو الأخرى. وكذلك مفكر كالصادق النيهوم، فهو مبدع مثير للزوابع، حتى أن كتبه منعت في بيروت مدينة حرية الثقافة العربية! وثمة كذلك أدباء وكُتاب ليبيون ينسبون إلى جنسيات أخرى، كالشاعر محمد الفيتوري، والباحث المؤسس عبدالفتاح بومدين مؤسس نادي جدة الأدبي الشهير. 
وفي ليبيا، هناك المفكر نجيب الحصادي، الذي أثرى المكتبة العربية مؤلفاً في الفلسفة ومترجماً مميزاً، وفي الفكر السياسي زاهي المغيربي، وفي القصة القصيرة عمر الككلي، والشعر عاشور الطويبي، وسالم العوكلي، والروائي أحمد إبراهيم الفقيه ومحمد الأصفر، والمبدع المستقبلي يوسف القويري. والروائية الناقدة فاطمة الحاجي، ومرشحة جائزة البوكر في قائمتها القصيرة نجوى بن شتوان، وكوثر الجهمي الحائزة جائزة مي غصوب.  وهذا التميز النوعي غير مبرز إعلامياً، ولكنْ على المستويين الأكاديمي والبحثي معروف، وأما حول دوافع أنه غائب إعلامياً، فقد يكون ذلك لدواعٍ متعددة، ومنها التركيبة الشخصية للمبدع، الذي يرى مهمته أن يبدع، لا أن يُسوِّق ما يبدع. 

* بعد سقوط نظام القذافي في ليبيا لم نقرأ نصوصاً ليبية أكثر حرية مما كان.. أليس كذلك؟
** لم يسقط نظام القذافي بعد، فما سقط هو رأس النظام فحسب، ليبيا كما تنبأ العقيد في كتابه الأخضر، حيث قال: بعد سقوط الجماهيرية تعم الفوضى، الآن بعد خمسين عاماً على انقلابه العسكري، يتحقق ذلك.. وهكذا الفوضى، بل الحرب الأهلية تعم بلاد العرب، وليبيا في القلب.
في هذا الإطار، يمكن أن أعتبر كتاب «شمس على نوافذ مغلقة»، ليس كتابة إبداعية أكثر حرية مما كان فحسب، بل كتابة إبداعية نوعية، لم نلمّ بأبعادها بعد، فالكتابة التي تكتب الآن نوعية غير مسبوقة وموضوعة شائكة، إنها شبكة تحولات ومتغيرات، مربوطة أيضاً بالعصر السيبراني الذي أشرت إليه. 
لو لم ينتهِ نظام القذافي لما تيسر لي، على الأقل نشر عملي «ألف داحس وليلة غبراء»، بل وحتى كتابتها، وثمة نصوص ليبية متعددة حالها حال نصي، ثم إن الكتابة الليبية الآن تزخر بكتابات نسائية، لم تكن تتوفر للكاتبات قبل ثورة فبراير مكنة الإبداع. 

* لماذا انحسر حضور الشعر في أيامنا وغزت الرواية المشهد؟
** في مشهد ما بعد الحداثة تم نثر العالم، كما في عصر الرومانسية، حيث بدأ بزوغ السرد، حتى أن الشعر أمسى قصيدة نثرية، كل هذا حدث مع هيمنة المركز الأوروبي، وسيطرة المطبعة في عالم من ورق، في ذلك العالم دفنت الملحمة والمطولات الشعرية، ووضع المسرح في ركينة السينما والتلفزيون، في عالم من صورة.
والموجة الرقمية الآن تمحو العالم الذي نعرف، وفي الحاسوب ثمة عالم آخر افتراضي كأنه هو العالم الواقعي الحقيقي الذي نرى! لقد أصبحنا نوعاً ما كائنات افتراضية، وفي هكذا لحظة تبرز متناقضات لا نستوعبها، لقد نثر كل ما نشعر به وتعرّى، والغامض فيه والشعري التهمته السيبرانية، نحن نرى ما لم نرَ، لا غامض بعد اليوم!
وفي الشعر شعور ميتافيزيقي، عاشه الناس في الكهوف والمعابد، ولكن لم يعد نفس الشعور، الرواية/‏‏‏‏‏‏ جدتنا الأولى تغذينا بالمعرفة، معرفة ما حدث أو لم يحدث، الرواية تقتلعنا من حالة العجلة الضرورة التي نعيش، وكأنها النص المفتوح الذي ابتلع كل الأنواع، ففي الرواية كل ما نرغب وما لا نتوقع، الرواية نوع من الواقع في عالم افتراضي. وهذه الإجابة عصف ذهني، وتفكير بصوت مسموع. 

* شاركت في لجان تحكيم عدد من الجوائز العربية مثل «البوكر».. هل تنتج المشاركات في الجوائز أعمالاً رائدة أم متراهنين فاشلين في السباق؟
** الجائزة كالامتحان الذي لا يمنح عبقرية، بل قد يخفي طالباً مجداً، وهكذا أي جائزة فمانحوها نفر محدود، منذ سوق عكاظ، وحتى نوبل، التي حجبت عام 2018 بفعل فضيحة ذات بعد أخلاقي! ولكن، عموماً، الجائزة تُبرز النص، ومن حصل عليها، تكون بمثابة إعلام مكثف ومركز، وقد تصيب أو تخيب، وهي طريقة للترويج وللتقدير، ولكنها لا تصنع ولا تخلق ولا تبدع. 
وخلال مشاركتي في لجان التحكيم، كنا نختلف فنرجع للتصويت، نعم كان المشاركون مختصين، ولكن التصويت قد يرجح رأياً بشكل ما اعتباطيٍّ. وكذلك في أحيان كان يفوز الشاطر فينا في طرح دوافعه لترشيح نص ما. وضمن هذه الاعتبارات فالجائزة لا تغني، لكنها قد تسمن من جوع. 

* من خلال تجربتك في مجلة «ميادين».. ما رأيكم في واقع الإعلام الثقافي العربي؟
** ولدت وعشت في كنف عالم يترادف ومفردة أزمة، كل شيء في أزمة، من الفكر حتى زراعة البطاطس، فكل ما هو عربي مجاور للأزمة فما بالك بالإعلام. أما الثقافة كما التعلم، فهما متلازمان كحلّ سحري منذ الشيخ محمد عبده، ولذا حين أصدرت «ميادين» كمجلة وكتجربة نشر وممارسة المناشط الثقافية، عقب ثورة فبراير 2011، وبالتحديد في 1 مايو من ذلك العام نفسه، كنت مغموراً بمظلة الأزمة، ومحمولاً بالحلّ السحري. 
والآن لا أرى إعلاماً ثقافياً بالمرة، وأرى حرب طواحين تقودها السلطات القائمة! لأجل تعميق الأزمة وتحسس مسدسها كلما همست الثقافة، ونشر اللاتعليم، وما أعتقد أنها حرب عبثية من سلطة عمياء! لقد خرجت دول من غبنها محملة بثقل من الأمية كالهند، وبلد مثل رواندا التي تمخضت الثقافة فيها من أتون حرب أهلية، أكلت الأخضر واليابس، ودول البلقان التي انشطرت على نفسها حتى مرت بأصعب ظروف الصراع والنزاع. والخلاصة: عقلنا متشائم، وإرادتنا غير متفائلة. 

* ما الذي شد انتباهكم في المشهد الثقافي الإماراتي خلال زيارتكم الأخيرة للإمارات؟
** زيارتي للإمارات لم تستغرق إلا أياماً قليلة، ولكن لم أحتج لمعرفة كتابها ومبدعيها من خلال زيارة سريعة، فإنني من بلد طبيعة ناسه مفتوحة ومتابعة للحركة الثقافية، ولهذا عرفت شخصيات مبدعة، وطالعت إبداعات لمن لم أعرف، وثمة مبدعون متميزون ومبدعات كذلك في القصة والشعر في الإمارات، وكل دول الخليج العربي. وما أراه أن الأديب الإماراتي، كما أنا وغيرنا من كُتاب العربية، نكتب التجربة والثقافة العربية محمولة باللغة العربية أو بغيرها من لغات، حتى لو كتب أحدنا بلغة أخرى.. وعلى سبيل المثال فالناقد المغربي عبدالفتاح كليطو حين يكتب بالفرنسية، فهو يكتبها بالعربية، ثقافته وتراثه. 

* كلمة أخيرة..
لقد أجهدني الحوار، ولهذا فإنني مقل في إجراء محاورات، حيث أرى أن كتابة مقالة وحتى دراسة أسهل، لأنني حينها أتناول موضوعة، بينما في هكذا حوار جُبنا بحاراً، وغمرتنا أمواج متتالية ومتعددة، وأسئلة تحتاج لمطولات ولوقت وجهد، وقد يكون الاختزال والتبسيط مخلاً في إجابتي، وعلى كل حال لك ولـ«الاتحاد» كل الشكر.

أحمد الفيتوري.. سيرة ومسيرة 
ولد في ليبيا بمدينة بنغازي 21 أغسطس 1955. وعمل بالصحافة منذ عام 1974 بصحيفتي «الجهاد» و«الفجر الجديد»، وكان سكرتير تحرير جريدة «الأسبوع الثقافي» في العام 1978 التي كان يرأس تحريرها عبدالرحمن شلقم.
وقد قضى بين عامي 1978 و1988 في السجن على خلفية قضية رأي. وعقب خروجه من السجن في عام 1989 دعي من قبل معمر القذافي شخصياً للمشاركة في تأسيس مجلة «لا»، ولكنه لم يستمر في العمل بالمجلة غير شهور فقط.
وقد ساهم الفيتوري في تأسيس اتحاد الكتاب بليبيا وفرقة المسرح الحديث بمدينة بنغازي وغيرهما. كما ساهم بالكتابة خاصة في النقد الأدبي بمجلة «الفصول الأربعة» التي يصدرها اتحاد الكتاب الليبيين، ونشر دراسات بعدد من المجلات العربية منها «الحياة الثقافية» التونسية و«الثقافة الجديدة» المصرية، و«الحداثة» اللبنانية و«نزوى» العمانية.
وأسس «ميادين» للصحافة والنشر والتدريب بمدينة بنغازي، وكان رئيس تحرير جريدة «ميادين» الأسبوعية التي أصدرت ملفات في الثقافة والسياسة والاجتماع، والعديد من الكتب. كما كان محكماً في جائزة «البوكر» لعام 2014 و«المورد» لعام 2016م.
صدر له في النقد:
مبتدأ في الفكر والثقافة – الدار العربية للكتاب – تونس – ليبيا. 
قصيدة الجنود – دراسة في الشعر الليبي – الدار الجماهيرية للنشر.
المنسي في الطين – دراسات وبحوث ثقافية – الدار الجماهيرية للنشر.
نهر الليثي – كتابة نقدية ومختارات من الشعر الليبي – المجلس العام للثقافة – بنغازي – ليبيا.

في الرواية:
سيرة بني غازي – رواية – دار ميريت – القاهرة -مصر.
سريب – رواية – دار الحضارة العربية – القاهرة.
بيض النساء – دار ليبيا – بنغازي.
ألف داحس وليلة غبراء – دار ميادين – بنغازي.
في الشعر: 
دعاء الفيتوري – دار عراجين للنشر – بنغازي ليبيا.
قصيدة حب متأبية – دار عراجين للنشر – بنغازي – ليبيا.
الذئبة تعوي في السرير الخاوي – نشر خاص.

في النثر:
بورتريهات – ميادين – 2018.
في السياسة:
ليبيا في مهب الربيع العربي – 2018 – مؤسسة الوسط – القاهرة.

وبالمشاركة:
التطورات السياسية في البلدان العربية منذ 2011 – بيروت. 
مختارات من الشعر الليبي – وزارة الثقافة – الجزائر.
شمس على نوافذ مغلقة – مختارات من إنتاج الشباب الليبي ما بعد ثورة فبراير – ودراسة لمحتوى الكتاب.