حارب الظاهري، سارد الألوان في “عين الحسناء”..

( ثقافات )

د. المعزّ الوهايبي

 قد تكون رواية “عين الحسناء” لحارب الظاهري متينة الأواصر بالرّواية الإماراتيّة انتسابا إلى خصوصيّة ثقافيّة مشتركة وتقاسما  لبعض “التّيمات” المطروقة؛ لكن ثمّة ما يدفع إلى مقاربة هذه الرّواية التي تستأنف، بطريقتها، التّقليد الرّومنطيقيّ في الأدب السّرديّ، مقاربة إنشائيّة poïétique من شأنها أن تُبين عن كيفيّة تشكّل القول السّرديّ فيها. فإذا كان السّؤال الذي يُطرح عادة هو “لماذا نكتب؟”، فإنّه قلّما يُطرح السّؤال “بماذا نكتب؟”. هذا السّؤال الأخير هو الذي يمكن اتّخاذه مفتاحا لقراءة “عين لحسناء”. فحارب الظاهري واحد من الأدباء الذين يكتبون بالرّسم. يتعلّق الأمر، إذنن بضرب من اللّقاء بين الأدب والفنّ، وبتخصيص أكثر بين السّرد والتّشكيل. فهو يستعير من الرّسم ما تقوم به الفرشاة من تسطير وتلوين. وأكثر من ذلك يمكن القول بأنّ الأمر يتجاوز الاستعارة نحو بعث حياة جديدة للرّسم من خلال السّرد بحيث يلوح واضحا تماما التّصادي المتبادل بين الكتابة والرّسم.

الرّجل الذي يسير في الألوان

نستعير هذا العنوان الذي يستخدمه الفرنسي جروج ديدي-هبيرمان في سياق آخر؛ لكن نراه أنسب ما يكون للشّخصية المركزيّة الحاضرة بضمير الغائب في “عين الحسناء”. فمنذ طفولته وهو يلامس بلدته عبر ألوانها بفرشاته أو بآلة التّصوير؛ يعتزل منفردا “بجبل “الهملة”، ليرى واحة النّخيل من أعلى، يرسمها ويصوّر معالمها كأنّها كُتبت بحروف عربيّة ونُقِشت اخضرارا..” (ص. 93/94). فما يقدّمه السّارد، أو الرّاوي، من وصف للرّسّام (الشّخصيّة المركزيّة أو البطل في الرّواية) ينمّ عن انتباه هذا الأخير إلى الألوان والظلال والأضواء وهي تخترق مسامّ الجلد لدى بعض الشّخصيّات وقد “رسمتهم اللّوحة بألوان الزّمن” (ص. 174)، ثمّ وهي تعتري الجدران والنّخيل. فاللّون هو ما يوقظ الذاكرة لدى الرّاوي: ” يجالسها عند العصر تحت ظلال شجرة السّدرة، يرمي بهدوئه الجميل، ووسط تساقط النبج الأحمر المائل قليلا إلى الأخضر، كأنّ الظلال ترسم لوحة تحت أقدامها (…) حتّى بدأ نهداها الصّغيران يتدليان كأنّهما في  لمعان الذهب” (ص. 119/120). ولنا أن نلاحظ أنّ هذه الوساطة اللّونيّة لا تقتصر  على حارتِه ومدينته فحسب، بل هي التي تصله بذاته وبالفنّ في مزج أيروتيكيّ حيّي بين الحبّ والصّورة.

النّسخة العربيّة لجالاتيْ

أمّا التّقليد الرّومنطيقيّ الذي يستأنفه حارب الظّاهري، فهو الذي انطلق في أواخر القرن الثامن عشر في أوربا؛ ونعني بذلك إعادة الاشتغال على أسطورة “بيجماليون وغالاتي”، لا في الفنون التّشكيليّة فحسب، وإنّما في الأدب أيضا. ويمكن أن نستحضر، على سبيل المثال، رواية (أرنست هوفمان) “رجل الرّمال”، ورواية (بلزاك) “صاحب الأثر المجهول”، فضلا الإسهام العربيّ بمسرحيّة “بيجماليون” لتوفيق الحكيم. ولنا، طبعا، أن نستحضر التّنويع التّشكيليّ على أسطورة بيجماليون وغالاتي، نظير اللّوحة الشّهيرة لليون جيروم؛ ما دامت هذه الرّواية نفسها طافحة بالحديث عن الرّسم وفنونه.

 لكن إعادة بعث “عين الحسناء”، النّسخة العربيّة لـ”غالاتيْ”، إنّما هو بعث يجري طِبْقا لخصوصيّة ثقافيّة مغايرة مشدودة إلى مكان مغاير (وهو ما نفرد له فقرة في هذه الورقة).. وما يعزّز هذا التّناصّ السّرديّ مع غالاتي التي بعثها بيجماليون حيّة من تمثال شكّله بيديه هو أسلوب الكتابة الحُلميّة في هذه الرّواية،”عين الحسناء”، التي يرسمها السّارد كما يرسم الرّسّام، أو ينحت النّحّات، امرأة جميلة ثمّ يحبّها (ص. 120). فهكذا يحدّثنا الرّاوي عن شخصيّته المحوريّة التي نرجّح كونها قناعا له “… بعد سنّ العشرينيّات، ها هو يرى جمال عين الحسناء نحتا من الأسطورة” (ص. 35). ولكونه يستخدم ذاكرة مستقبليّة، أي ذاكرة تخييل أكثر منها ذاكرة استرجاع، فإنّه يجعل منها، أي هذه الذاكرة، مرسما تَمْثُلُ فيه الموديل/عين الحسناء؛ فهي تجيء من الخيال حتّى وإن أصبح جمالها حديث الحارة، فهو  يشعر بأنّ خياله أتى بها، لتحيي فصول حارة تشعره بالسّراب…” (ص. 38).

 بيد أنّه ينبغي أن ننتبه، أيضا، إلى أنّ الرّاوي وهو يقدّم لنا الطّريقة التي يتمثّل بها البطل المحوريّ في الرّواية حبيبته إنّما يقوم هو نفسه برسم بورتريه سرديّ لبطله “فُتِن بجمالها حتّى شاغبه العشق في نفسه، فقرّر أن يتهيّأ لقادم الأيّام، لعلّ ريشته فقدت خاصّية الألوان، وبعد عناء من الذكريات الملهمة، سيرسم لوحة تجسّد ما قبل رحيله عن الحارة، حين كان صغيرا، سيرسم لها لوحة فاتنة. لن تكون كسائر اللّوحات المطليّة بألوان عشوائيّة، بل سيبعث في كلّ لمسة من أسرار تفيض في روحه، فهي…. أيقونة زمنيّة جميلة..” (ص. 35/36). ولذلك ستكون “عين الحسناء” عين الحسناء هي العين التي يطلّ من خلالها على بلدته وعلى الحياة.

ولمّا كان موضوع الحبّ أي المحبوب مخلوقا سرديّا، فإنّ من شأن أن ذلك أن ينجم عنه تداخل بين الفنّ والحياة حيث تكون هناك خاصّية مضاعفة للمُحِبّ (كاتب/فنّان، وإنسان) وخاصّية مضاعفة للمحبوب (امرأة وصورة فنّية مخيَّلة، أي جمال مثالي معقود على موديل سرديّ). فالإنشاء بواسطة الكتابة يحّول الصّورة إلى كائن حيّ حتّى يعتري هذه الصّورة دفء العاطفة المشبوبة.

صحيح أنّ الأيروتيكا في هذه الرّواية حَيِيّة؛ لكنّها هي مدار الزّمنيّة التي تقيس خروج “الحميراء” من رحم الصّحراء بأعرافها ونواميسها إلى المدينة الحديثة بمتطلّباتها، فحتّى وهو يمتطي الدّراجة الهوائيّة، حيث العجلة ساعة أخرى لاحتساب الزّمن الجديد في الواحات، أو يمتطي السيّارة باتّجاه العين أو أبو ظبي حيث الزّمن غير زمن الحارة، فإنّ “عين الحسناء” تتلألأ في مخيّلته نجمة دالّة إلى أن تكتسح كلّ المكان في آخر الرّواية أرضا، وقمرا متسلّلا إلى حجرة الحبّ. إلاّ أنّه ينبغي أن نستحضر أنّ هذا الشّغف الغرامي ليس وليد اللّقاء العابر، كما في قصص الحبّ المعهودة، وإنّما اللّقاء مناسبات تخترق مجيء “عين الحسناء” (غالاتيْ بطل حارب الظاهري) من أصقاع الحلم والخيال.

المكان

أن نفرد المكان بفقرة على حدة في هذه القراءة المختصرة لـ”عين الحسناء”، فذاك إجراء منهجيّ ليس إلاّ؛ أمّا على مستوى سرديّة الحارة والمدينة فهو متداخل مع الزّمان على نحو يذكّر بمعادلة ابن عربيّ “المكان زمان متخثّر والزّمان مكان سائل”. الطّريف هو أنّه يجعل “عين الحسناء” أمارة على فرادة المدينة وجغرافيّتها إلى درجة المماثلة بينهما، ويجعلها في الوقت نفسه شاهدة على ولادتها من رحم الصّحراء تلك الولادة التي يتكفّل  الفصلان التّاسع والعاشر من الرّواية  بتشخيص مسار تشكّلها. فكأنّ حضور “عين الحسناء” تلطيف من حدّة الشّعور باليتم الذي قالت عنه جدّته “إنّ الأرض تشعر باليتم حين يرحل أصحابها…” (ص. 47). ولئن كانت الأسماء الأعلام لشخصيات الرّواية مغيّبة عن قصد، فإنّ الاسم العلم الوحيد الحاضر هو “عين الحسناء”، بالإضافة طبعا إلى أسماء بعض البلدات والمدن ممّا يشي بأنّ المحبوبة “عين الحسناء” تضاهي في قيمتها ودلالتها أمكنة أحداث الرّواية؛ بل ممّا يجعل هذه الأمكنة نفسها من بين شخصيّات الرّواية. وبالفعل، فإنّها ليست فقط أمكنة لحركة النّاس، وإنّما هي مساحات من الألوان تتحرّك فيها فرشاته وأقلامه التي تستنطق الطّرقات والممرّات الضيّقة.. حتّى أنّها تلاحق ملامسة الأرجل للطّرقات والممرّات الضيّقة، وتصغي إلى وقعها على الأرض (ص. 56). ولذلك لا يكفّ عن لتّعاطي مع الصّحراء باعتبارها قماشة يخطّ عليها الزّمن ألوانه وأشكاله: “نظرا إلى لوحة الصّحراء بالطّريق” (ص. 113). بهذا المعنى نستحضر الفكرة القائلة بأنّ الفنّ هو الذي يبتدع المساحة حتّى يتمكّن من تحويلها إلى مكان (يقول صموئيل بيكيت: “ما هي بالفعل هذه المساحة الملوّنة التي لم تكن موجودة من قبل؟). لا مراء في أنّ الصّحراء طافحة بالألوان بحسب تعاقب المواقيت، لكن حارب الظّاهري يعيد “رسمها بالكلمات”. أو لنقل إنّه يكتبها بقلم/فرشاة؛ فإذا بالسّرد الرّوائيّ كأنّه خروج باللّوحة التّشكيليّة من عالم الخرس إلى عالم النّطق. وذلك في تجاوب مع قول دافنشي “الرّسم شعرٌ يُرى بدل أن يُحسّ والشّعر رسم يُحسّ بدل أن يُرى”.

ودائما يكون القران بين الفنّ والحبّ هو ما يفكّ مغالق جغرافيّة المكان: “في زاوية صغيرة من الحارة يجلس في انتظار تطواف الحسناء، يشرف نظره على الصّحراء، يتخيّل لها شعرها الطّويل، وللصّحراء ترابها الزّعفراني المنتشي بالرّوح”، ( ص. 55). فإذا كان هذا المشّاء في الخلاء يهتدي إلى دروبه بحسب ما تقذفه في مخيّلته عين الحسناء من ضوء (“عين الحسناء التي تحضر وتغيب، هذه الحارة أصبحت تطلّ من عينيها”/ص. 56)؛ فإنّه يمشي، في واقع الأمر، بين تدرّجات من الألوان والأصباغ تتراوح بين الأحمر، والأصفر، والأخضر، والأزرق.. تلك هي عناوين الدّروب والواحات من “الحميراء” عبر العين نحو أبو ظبي أو دبيْ.. هكذا يجعله الحبّ محبّا للمكان كأنّما في الأمر استلهام سرديّ لقول ابن عربي عن  تأنيث المكان “المكان الذي لا يُؤنّث لا خير فيه”. وأمارات هذا التّأنيث الجدّة، الأمّ ، الأخت، والحبيبة طبعا. فمن فرط الحبّ يشفّ الشّعور حتّى تجاه الآخرين بشرا، وحيوانات وأغراضا بسيطة.. “تحطّ رأسها الجميل على وسادة حمراء ريشها المخمليّ، ينفث في الهواء ألوانها السّرمديّة” (ص. 10). وفي الأحمر جناس مع اسم الحارة “الحميراء” حيث ظلّ اللّون الأحمر يأسره (ص. 160).

ولكونه يكتب من خلال ذاكرة طافحة بالتّفاصيل، فإنّه لا يكتفي فقط، في احتفائه بالمكان، باستحضار البشر، وإنّما يتلفّت بسخاء  سرديّ إلى الحيوان. ففضلا عن وصفه البارع للنّاقة (ص. 64)، وإن كان غير مستغرب لاعتبارات حضاريّة عريقة في الصّحراء، فإنّ اللاّفت هو الطّريقة التي شخّص بها وصفه للحملة التي حصلت في بلدته من أجل القضاء على الكلاب السّائبة، فهو يدقّق في الحركة التي يتمّ بها اقتناص هذه الكلاب كما لو أنّه مصوّر سينمائيّ ينتقل من مشهد إلى مشهد. ولكن الأكثر تأثيرا هو ذهاب بعض الكلاب الأهليّة ضحيّة هذه الحملة. ويمكن للقارئ أن يتفطّن هاهنا إلى أنّ الرّاوي لا يبخل على التّذكير ببعض الأسماء الأعلام لهذه الحيوانات في إحالة تعزّز مزاجه كفنّان حسّاس. وبالفعل، فإنّه يلوذ مباشرة بمِلْوَنِه palette السّرديّ ليصف لنا جثث الكلاب وقد “بدأت دماؤها تسيل، ترسم جداول صغيرة بين فجوات التّراب، بدأ الظلّ ينسج سماته على أجساد الكلاب الميّتة..” (ص. 274).

**

يمكن القول بأنّ دلالة الأنثى/اللّوحة كما تتشكّل في مختلف فصول الرّواية تقريبا تنحصر في إطار من الزّمنيّة، زمنيّة ولادة المدينة الحديثة (لم يشعر الزّمن، وهو الذي يرسم لوحة المدينة/ص. 304). ولكنّها أيضا زمنيّة التباس العلاقة بين الفنّ والحياة؛ فنحن إزاء  شخصيّة مسكونة بفنّها حتّى أنّ المرايا تغدو في داخلها لا خارجة عنها (ص.14) إلى درجة أنّ السّرد في هذه الرّواية يضاهي الخطاب الذي نلفيه لدى نقّاد الفنون التّشكيليّة. فهي رواية تتحوّل إلى نقد فنّي بأسلوب القصّ والحكي: “وهكذا هي اللّوحات الفنّية لها أسرارها المتحصّنة بداخلها، وقد تظلّ سنوات لا تُفهَم، وقد لا تبوح بأفكارها مهما امتدّت الأيّام، هي تحتفظ بملامح الزّمن، وتظلّ رائحة الأماكن بعضها قابعة إلى ما بعد الهدم والتّغيير”(ص. 184). ولا يذهبنّ في الظّنّ أنّ هناك تكلّفا؛ فالشّخصيّة المركزيّة في الرّواية شخصيّة فنّان واعٍ بمقتضيات الفنّ وتطويره.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *