“الفردوس المحرم” لـيحيى القيسي.. كتابة جديدة

“الفردوس المحرم” لـيحيى القيسي.. كتابة جديدة

*إبراهيم عبد المجيد

أخذتني رواية ” الفردوس المحرم ” للروائي والقاص الأردني يحيي القيسي بسرعة لم أتعودها في القراءة. فهي رحلة بحث في عالم موازي تحكمه علوم تناثرت حكايات أغفلها الزمن، لكنها تستيقظ بقوة في هذه الرواية. علوم وأسماء علماء متخيلة أو حقيقية تتفق على أن ما نعيشه ليس هو الحقيقة، وأبسطه أن هذه الكرة الأرضة لا تملأ النيران مركزها بل هي دائرة من الصخور والوديان حول مركز من الفراغ يمكن الوصول إليه ! السينما حاولت ذلك في أفلامها وذكر ذلك الكاتب في محاولة منه أن يؤكد حقيقة الخيال. لماذا لا والصوفيون والشيوخ يلوذون بعالم آخر.

عالم “الخطوة” الذي يكسر حاجز الزمان والمكان. هم صورة أخرى لحقيقة الخيال. لماذا لا والبحث عن الآثار وقبور الأنبياء في صحراء الأردن وآثارها لا ينتهي على أمل حقيقي في العثور على كنوزهم. لماذا لا وشخصيات الكاتب الروائية في روايته السابقة ” أبناء السماء” يتجلون ويظهرون لشخصيات فنية في روايته هذه. ليس لدينا هنا بطل تدور حوله الرواية إلا راويها الذي يتنقل في البلاد حاملا همومه الشخصية وهمومه الروحية عن هذا العالم المعرض للضياع، فكل من يقابلهم يختفون ويظهرون غير متوقفين عن البحث عن عالم آخر طوته السنون والحروب والحضارات ويمكن أن يستيقظ فينتهي بالعالم إلى خراب.

الآثام القديمة لن تموت وستكون سببا في خراب العالم. بعضها يكاد يكون حقيقة مثل العلماء الألمان الذين اختفوا بعد الحرب العالمية الثانية وأقاموا في المجرة الواسعة عالما آخر وسيعودون بما أنجزوه ورفضته البشرية، فكل ما تحقق من تقدم علمي زائل لأن هناك ماهو أجمل وأقوى منه داست عليه الحضارات. نبوءة الخراب وإقامة عالم أكثر عدلا فيما بعد تحرك كل الشخوص بطرق مختلفة.

وتصل الفصول إلى ثلاثين فصلا يختلف مذاقها وتتكرر الشخوص أكثر من مرة في رحلتها ومن يظهر أول مرة لا يخفى عنه ما فعل الآخر ويختفي. وهكذا فالجميع غير متوافقين مع هذا العالم. بناء الرواية يشهد للكاتب بالبراعة الشديدة وخياله العلمي والفني وحصيلته من اللغة الاستشرافية و”الإشراقية” أمر نادر بين الكتاب يجعل الرواية محفلا للأساطير التي تستبد بالسرد من ناحية ومحفلا للأرواح في تجلياتها الصوفية وتشوقاتها للفردوس المحرم الذي لم تصل إليه البشرية رغم كل تقدمها وسيظل هدفا للعناء الروحي الذي هو فقط دليل الوجود للفردوس.الحكايات هنا كأنها حقائق وتشعر معها بلذة الرحلة في البحث عن فردوس حقيقي. ولا يبتعد الكاتب عن المعاصرة رغم أن الجميع هربوا منها فرسائل تصله على الفيس بوك والإيميلات وكأن كل التطور في علوم الميديا لا يوقف الخيال الرافض لهذا العالم الذي امتلأ بالحروب والقتل بلا مبرر غير أفكار صدئة عن الدين والدنيا.

الرواية احتجاج فني رفيع ممتع على ما حولنا من واقع رديء قاسٍ. وفي الوقت الذي يبني فيه العلماء الغربيون أفكارا عن عوالم أجمل بالأساطير التي تصل إلى الروح وتمتع العقل حتى لو حركها الانتقام يوما لم يأتِ ولن يأتِ؛ لأن القارئ لها يعرف أنها أساطير، والمشاهد لها حين تتجسد في السينما يعرف أنها لن تغادر مكانها. في هذا الوقت، يبني المسلمون عالما من الخرافات لا يسامحون أبدا من يروه كذلك حتى ولو من باب المتعة فهو حقيقة عندهم تبرر لهم قتل الآخر والعودة إلى عصور الظلام. ويكون الصوفيون من بينهم هم الأكثر إشراقا دائما رغم أنهم لا يحكمون العالم ولن يحكموه.

رواية الفردوس المحرم ليحي القيسي كتابة جديدة ورؤية طموحة وحافلة بالصور الفنية الخيالية والشخصيات السحرية والمسحورة أيضا التي تمنحك متعة كبيرة. حيث نجح الكاتب في تجسيد شخصياته كأنها حقيقة تراها بالفعل حتى وهو يذكر على لسان بعضها أسماء لشخصيات من روايته السابقة ليكسر الحاجز بين الوهم والحقيقة فهو لا يؤلف رواية لكنه يعيش عالمه الذي يصبح عالمنا نحن القراء.

كم تحتاج هذه الرواية الممتعة إلى دراسات متأنية من قبل النقاد والمفكرين. وكما تغري بالقراءة والمتعة تغري بالدراسات العميقة.

_______

* بالتعاون مع بتانة نيوز

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *