خلدون الداوود: مثابر بلا كلل.. يعتصم بالفن في مواجهة الخراب

 خاص- ثقافات

 

يحيى القيسي*

 

في منتصف التسعينات من القرن الماضي قادني الصديق الشاعر والتشكيلي محمد العامري إلى “الفحيص” كي أتعرف على خلدون الداوود. كنت قد عدت للأردن حينها من إقامتي التونسية لنحو أربع سنوات ممتلئاً بخبرات نوعية في الحياة الثقافية الغنية هناك.

وسط الحارة القديمة دخلنا بيتاً تراثياً مبنياً بالطين والحجارة، له ساحة خارجية تطلّ على عدد من الغرف التي تتميز بالأقواس الكبيرة، والنوافذ الصغيرة غير العالية، فيما حرارة الشمس الخارجية في ذلك الصيف القائظ تتبدد لحظة الدخول إلى واحدة من هذه الغرف ذات الجدران السميكة، والتي قيل لي إنها كانت بيتاً لقسيس الكنيسة.

كان خلدون حينها يتمدد على أريكة خشبية بحذائه الرياضي في قيلولة قصيرة كما يبدو باحثاً عن البرودة والراحة بعد تعب عميق، مستشعراً عبق التاريخ في هذا المكان بعد أن أنهى ترميمه.

منذ تلك اللحظة صارت “الفحيص” مكاناً أثيراً أزوره بين الحين والآخر لأتعرف على ما يصنعه خلدون هناك من منجزات في ترميم البيوت القديمة، وممارسة هوايته في التصوير الفوتغرافي، أو إقامة المعارض التشكيلية، واستقبال المثقفين الكبار الذين يؤمّون المكان أو يقيمون فيه أمسيات أدبية، أو يلتقون بشكل عفوي على عشاء أو غداء للنقاش والتعرف في بيت كريم يشعر الزائر إليه أنه قد وصل مكانه الأثير، وأصبح جزءاً من عائلته دون حرج..!

 أستطيع القول الآن بعد هذه العقود الثلاثة من عمل خلدون المتواصل في هذا الحقل الشائك أي الانغماس بالثقافة بكلّ عناصرها بشكل فردي، وليس  تحت مظلة حكومية، أو دعم دائم من جهة ما أن الرجل قد أنجز الكثير مما يمكن أن نفخر به في الأردن، ومما لم يستطع أكثر من عشرين وزيراً للثقافة مروا خلال هذه الحقبة أن ينجزوه، وهذا ليس مبالغة، فقد جربت بنفسي العمل في وزارة الثقافة لعشر سنوات 1996- 2006 مع ثلاثة عشر وزيراً لا يكاد الواحد منهم يتعرف على أبجديات العمل الثقافي حتى يذهب دون رجعة، لكنّ خلدون ظل مثابراً على مشروعه الذي بدأ فردياً ثم أصبح عائلياً مع أبنائه الذين كبروا واختاروا الفن أيضاً للغوص في عوالمه والحرص على وصوله إلى الآخرين عناصر جمال، وواحة سلام، ومنارة محبة، ووسيلة لترقية المجتمع، وحالة تنوير وسط كل التردّد والمخاوف والقلق والدعوات لخراب العالم..!

وهنا أود أن اشير إلى تجارب الفنانين فادي وشادي ولؤي التشكيلية المتميزة، التي تمتلك خصوصيتها، والتي خرجت من عباءة “رواق البلقاء” وتتلمذت على أيدي  كبار الفنانين الزائرين لهذا المكان، وتستحق كلّ تجربة منها قراءتها بشكل منفصل لا يتسع لها المقام هنا.

بدأ خلدون عاشقاً للفن التشكيلي، ومصوراً محترفاً، وجامعاً للوحات، ومرمماً للبيوت القديمة، لكنّ انغماسه الكامل بهذه الحالة قاده إلى أن يمارس التشكيل أيضاً باحثاً بفرشاته عن طريقة ليعبر بها عن انتصاره لثقافة الحياة، موقداً الشمعة تلو الأخرى دون أن يصاب بالاحباط أو يتسرّب إليه الملل..!

أتذكر الآن بعد كلّ هذه السنوات الطويلة أنّ خلدون كان عاشقاً لتصوير الحمير، وتجول كثيراً في أماكن كثيرة داخل الأردن وخارجها للحصول على لقطات خاصة بهذا الكائن المظلوم والذي تتهمه البشرية بالغباء، فيما يعتقد خلدون بأن ذلك غير صحيح، وأن الحمار طيب وذكي ويستحق أن نحتفي به، كما انشغل طويلاً في تصوير مآذن المساجد في مدن وقرى كثيرة إضافة إلى اهتمامه بتصوير الوجوه وتعبيراتها العفوية، عبر ذلك التنوع الخلاق لها في الأردن، وميزة خلدون أنه يحمل كاميراته ويركب سيارته ويمضي إلى الأمكنة النائية والأرياف البعيدة والصحاري دون تردد، لهذا أعتقد أن لديه الآن مخزوناً هائلاً من هذه الصور التي تصلح كي تراها الأجيال الجديدة في معارض أو كتب أو مواقع الكترونية خاصة حتى لا تظل حبيسة الأدراج.

ميزة خلدون أنه يفكر دائما بمشاريع جديدة، وتتحول هذه الأفكار التي تهبط عليه بغتة إلى حقائق بعد أقل من سنة على إطلاقها، فهو لا يعرف الكلل في متابعة أيّ خاطرة تأتيه لكتاب ما أو مشروع فني أو ثقافي حتى لو كان يختص ببلد بعيد، فثمة دائما خيوط يربطها معاً عبر علاقاته المتشعبة، ويمكن الإشارة هنا إلى أن بيت خلدون يتحول مساء إلى جناح للقاء الدبلوماسيين من شتى البلدان على عشاء أو أمسية موسيقة أو معرض، لطرح فكرته، إضافة إلى اصدقائه الأردنيين من فنانين ومسؤولين، وربما بهذه الطريقة استطاع خلدون أن يصدر أكثر من عشرين مجلداً ولا أقول كتاباً في الأمكنة والأنهر والثقافات، حتى الخبز نفسه خصص له كتاباً منفصلاً، وسكة الحديد أيضاً، فهو يلتقط ظاهرة ما سرعان ما يبدأ باختيار من يكتب عنها من الباحثين، ثم يختار الفنانين الذين يعبرون عن ذلك بالتشكيل والرسم إضافة إلى المصورين الذين يسندون هذا البحث بالصورة، بعدها يتم ترجمة هذه المعلومات إلى لغات حية كبرى مثل الإنجليزية والفرنسية والاسبانية وغيرها، وهنا يمكن الإشارة إلى الجهد الهائل الذي تبذله سهى الداوود شقيقة خلدون ومديرة الرواق في تحويل أفكار خلدون الشعثاء إلى فعل حقيقي على أرض الواقع بهدوئها وخبراتها الإدارية.

يمكن الكتابة كثيراً عن خلدون، ويمكن أن تقدم شهادات كثيرة بحقه من أولئك الذين زاروه أو أقاموا في بيته، أو “تورطوا” بمشاريعه من كتب أو معارض، وهي ورطة متعبة لكن ثمارها حلوة كما يبدو، رغم أني شخصياً لم أستطع إلى اليوم الوقوع في شباكها، ولا أدري إن كان ذلك من حسن حظي أم من سوئه، لهذا أكتب عنه بمحبة وتجرد بعيداً عن أي غرض.

يمكن لأدونيس وبهجوري وأمجد ناصر وأحمد الشهاوي وجريس سماوي وفوزي الدليمي وفراس السواح وعشرات الأدباء والفنانين العرب والفنانات أن يشيروا إلى ما فعله خلدون إلى اليوم في الفحيص من حراك ثقافي حقيقي إذ حولها من مدينة تتكأ على خصوصيتها المسيحية، وجيرتها للعاصمة، وجغرافيتها البلقاوية الساحرة، إلى مدينة فاعلة يمكن أن تسمع بها ثقافياً وفنياً في روما ولارنكا وباريس وأبوظبي والبحرين ومدريد..!

وكان من الممكن لأولئك الذين رحلوا أيضاً من الكبار مثل درويش وبيكار وغيرهم من الذين مروا أو زاروا أو اطلعوا على ما فعله خلدون أن يشيروا أيضاً إلى ما فعله قبل رحيلهم، وأعتقد أنّ في أرشيف رواق البلقاء العديد من الأفلام التوثيقية والصور والشهادات والمقالات الصحفية الذي يمكن أن يبرز ما قام به شخص واحد مثل خلدون الداوود وعائلته عبر حلم ما تحول إلى حقيقة، وما يزال “يعضّ عليه بالنواجذ”، رغم تصاريف الحياة، وتقلب المتحمسين، وتبدلات الثقافة الرسمية بلا أي مشروع أو استراتيجية حقيقية، فالرجل يتشبث بحلمه حتى النهاية لأنه ببساطة انغمس فيه حتى الثمالة، وصار الحلم نفسه حقيقة على شكل رجل اسمه “خلدون” بوجه طفولي الملامح، يفيض بالمزيد من الأفكار المتلعثمة، والجمل المبعثرة الفسيفسائية التي سرعان ما تتجمع لتشكل لوحة مدهشة..!

*روائي وباحث أردني

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *