هي ليست مقارنة بقدر ما هي استجلاء لخصائص شعر كل من الشاعرين المصريين أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر, وأنا إذ أكتُب عنهما لا أزعم أنني مُلم بكافة جوانب تجربتهما الواسعة وإنما هي تلميحات أو ملاحظات ما سأكتبه حول شعرهما , ففي حين استثمر دنقل الأسطورة واستحضر الشخصيات التاريخية مثل سبارتكوس وزرقاء اليمامة واتخذ منهما ما اتُفِقَ على تسميته في النقد العربي الحديث بالقناع وأسقط أحداثا تاريخية على الراهن الذي كُتِبت فيه القصائد وبدلا من أن يتجه قُدُماً نحو هدفه أو موضوعه ويتناوله بطريقة مباشرة وواضحة رأى أن يتناوله بطريقة غير مباشرة عبر هذه التِقنية , فالشاعر يهمه إلى جانب رسالته التي يبتغي تمريرها للمتلقي أن تكون في أجمل صورة وفي أشكال فنية مبتكرة وغير معهودة تمتثل للشروط الجمالية , وبقدر ما كانت جميلة هذه القصائد ومُستساغة حملت أفكاراً ثورية وعبّرت بسخرية حادة و بوعي تاريخي عن حالة الضعف والهوان العربيين وشخّصت أسباب الهزيمة من ناحية شعرية ولم تخلو إلى ذلك من نبرة تمرد واحتجاج وإدانة للواقع المتردي , ولم تكُن مُهادِنة ومُسالِمة يوماً سواء كان خطابها حاملاً لهموم الفرد أو الجماعة , ذلك أن الشاعر لم يخفي انحيازه للطبقات المسحوقة في المجتمع والتي خرج من صميمها وناصرَ قضاياها وتغنى بشجاعتها وكفاحها ايومي من أجل كسب القوت والعيش بكرامة باتت مُفتقدة , في ذات الوقت كتب محمد عفيفي بشكل مختلف .
وفيما امتدت حياة الشاعر محمد عفيفي لتبلغ السبعين ونيف جرّبَ خلالها العديد من الأساليب وطُرق القول الشعري وتنقل بين أكثر من جهة , كانت تجربة دنقل مُكثفة وعميقة إلى حد بعيد لأن صاحبها لم يُعمر طويلا لينوع في تفاصيلها ويذهب بها في مسارب التجريب , ولهذا كانت التجربة محدودة ويمكن بشيء من الجُهد والبحث تأطيرها وتتبع مساراتها , وتكتسب قصيدة دنقل ومطر إلى جانب إضافتها للشعر المصري وخطابهما التجديدي أهميتها من أنها جاءت بعد سطوع قصيدة التفعيلة في مصر مع روادها الشاعرين أحمد حجازي وصلاح عبد الصبور , ولئِن مضت القصيدة الجديدة في تبني شكل التفعيلة إلا أنها انشقت عما قبلها بمضامينها الثورية وبنبرتها الصادحة .
وتتحكم أحوال الشاعر المادية والنفسية في شعره إذ يكتب تبعا لما يحسه ويعتنقه من أفكار ورؤى , كما أنهُ يكتب تبعاً لحالات قوته وضعفه الجسدي والنفسي , وهذا بالضبط ما فعله دنقل , فقد كتبَ حماسياته وشعره الثوري أبّان صحته وقوته وحين باغتهُ المرض وتمكن منهُ ارتد إلى ذاته وكتب قصائد تأملية فلسفية هادئة تبحث في مسائل الموت والخلود وتطرح العديد من الأسئلة المصيرية وتخوض في المجهول المُنتظر , خاصة تلك القصائد التي كتبها وهو على سرير المرض الذي أودى به وأسلمه للموت في المستشفى .
هذا فيما يخص الشاعر أمل دنقل , أما بشأن محمد عفيفي مطر وبسبب أنُ عاش حتى اشتعل الرأسُ شيبا ووهن قلبه بعكس ابتسامته وحضوره الخفيف اللذين ظلا مشتعلين ومتألقين , فقد ذهب بقصيدته إلى مناطق قصية وأمعن في التجريب حتى أنكر عليه البعض صفة الشاعر وعُدت كتاباته الغامضة والمُبهمة مجرد هلوسات , فيما اعتبرها هو فتوحات شعرية ودفقة حيوية للشعر العربي ككل هو في حاجة إليها على كل حال , ذلك أنَّ قصيدة مطر لم تستأنس بشيء أكثر من استئناسها بكل شيء , فإلى جانب اللعب باللغة وتفجير امكاناتها وتجاوز عجزها أحيانا على حمل الرؤية استثمرت خفايا الظاهرة الصوفية بكل عمقها وأسرارها لاجتراح قصيدة مختلفة حتى اعتُبِرت بعض القصائد التي خلت من الموضوع والمُتعين مجرد شطحات وهلوسات ولو دقّقَ المتلقي الفكر فيها وفي عباراتها المنحوتة بشيء من الأجتهاد وتمعنَ في تراكيبها التي يكون للصدفة دور كبير في تأثيثها أحيانا لوجد فيها عالما يموج بالحركة والتحول ويضج بالتبدل والتغير , عالم هو أبعد ما يكون عن السكون والثبات والركون إلى السائد والمهيمن , قصائد مطر نوع من التحريض على الخلق والإبداع وتفعيل لملكة الخيال وهبة التصور إلى أبعد مدى , هي محاولة لتخطي الحاجز أو المأزق الذي وجد الشعر العربي نفسه في مواجهته , هو الشعر الذي يسبق ما قبله من شعر ويُهيئ لما بعده , هو محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل ان يقع الشعر العربي في مأزق الأجترار والسكون هو سباحة ضد تيار السائد ومحاولة لخلخلة المعتاد وتجربة لاستبطان اللاوعي وسياحة في عوالم الحلم , هو الشعر الذي يأخذ بقدر من السوريالية والتقليدية والمدارس الحديثة ويعجن القديم بالمبتكر , هو اقتران المعقول باللا معقول , والخيال بالمحسوس , هو الرؤية والملموس , الحدس والمتعين , الناجز والمؤجل , المُتحقق والذي لا زال في طور التشكل , هو الشعر وكفى .