بيرغر: هل استطعنا فهم أسباب التطرف فعلاً؟

*سعود الشرفات

التطرّف مفهومٌ إشكاليّ ومُلتبس، بكلّ أنواعه، ولكنّ التطرّف الديني العنيف بشكل خاص ظاهرة اجتماعية متخطية للزمان والمكان، بل والأديان والمجتمعات.

أصبحت دراسة ظاهرة التطرّف والتطرّف العنيف وعلاقته بالإرهاب العالمي “موضة” العلوم الإنسانية اليوم، حتى أنّه يمكن القول إنّه لم تحظَ ظاهرة اجتماعية معاصرة في حقول الدراسات الإنسانية، وما تزال، بالاهتمام والدراسة في مختلف فروع العلوم الإنسانية مثل ظاهرة التطرّف الديني، خاصة بعد أن اقترنت بالإرهاب العالمي المعاصر، وأخذت تُراقصه رقصة الفالس.

فورة الاهتمام بالتطرف

جاءت فورة الاهتمام بمسألة التطرّف الديني العنيف المعاصر، وعلاقته المتبادلة بالإرهاب العالمي، عقب الهجمات الإرهابية ضدّ أمريكا، في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، هذه العلاقة التي فتحت الباب على ساحة واسعة من الاهتمامات والتنظيرات حول مسألة التطرّف بشكلٍ عام، والتطرّف الديني العنيف بشكلٍ خاص.

وبحسب المعلومات المتوافرة؛ ليس ثمة دراسات علميّة (إمبريقية) تثبت أنّ هناك ارتباطاً إيجابياً، وعلاقات رياضية إحصائية معتبرة بين التطرّف الديني العنيف والإرهاب، وذلك عائدٌ، ربما، إلى صعوبة “تكمّية” الظواهر الإنسانية كالإرهاب والتطرّف الديني.

ولذلك؛ ليس من المستغرب تركيز خبراء ومنظّري العلوم الإنسانية وعلم النفس، وخبراء الأمن والاستخبار ومكافحة الإرهاب، على دراسة هذه الظاهرة بتوسّع وعمق وغزارة، وبشتى اللغات.

آخر وأحدث الإصدارات حول ظاهرة التطرّف؛ كان كتاب المحلّل والمستشار الأمريكي، غزير الإنتاج، (جي. إم. بيرغر) تحت عنوان “التطرّف”؛ الذي صدر بتاريخ 3 آب (أغسطس) 2018.

الكتاب باللغة الإنجليزية، ولم يترجَم بعد إلى العربية، وتنفرد “حفريات” بأول مراجعة له، سواء بالعربية أو لغته الأم.

يطرح بيرغر، الخبير في مسألة التطرّف واليمين المتطرف في أمريكا واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي في نشر المحتوى المتطرف، السؤال الأوّل والمحيّر في المسألة، ألا وهو: ما التطرّف؟ ثم يشرع بالتساؤل كيف يتمّ بناء وتشييد الأيديولوجيا المتطرفة؟ ولماذا يمكن أن يتسارع التطرّف نحو العنف بمحتواه الأشمل؟

هنا؛ بيرغر لا يختلف عن مئات الباحثين الذين عجزوا عن إعطاء وصفة علاج شافية لهذا السؤال، لكنّه يمتاز بحسن عرض الأسئلة في مسألة التطرّف، ليترك المجال للتفكير والإبداع في اجتراح الأجوبة؛ فالذكاء في طرح الأسئلة وتحريك المسكوت عنه وليس في الأجوبة فقط.

ويقرّ بأنّ التعريف “المعجمي” للمفهوم لا يقدم شيئاً لفهم الظاهرة، خاصة عندما يكون تعريف التطرّف هو: الحالة أو الوضعية التي تكون فيها متطرفاً.

ويطرح بيرغر هذا السؤال تحت وطأة الشعور بالرعب والخوف الذي يجتاح نصف الكرة الغربي من بروز موجات جديدة وعنيفة من الحركات المتطرفة، التي تهدّد بزعزعة المجتمعات المدنية حول العالم.

ويقول بيرغر: إنّه رغم التباين والاختلافات في المحتوى الأيديولوجي للحركات المتطرفة بشكل كبير؛ إلا أنّ هناك مصادر هيكلية مشتركة بين هذه الأيديولوجيات.

المصادر المشتركة للتطرّف

كمتخصصٍ في التطرّف العنيف والإرهاب والجماعات الإرهابية؛ يؤكد بيرغر أنّ المصدر الرئيس للتطرف يبرز من رؤيتنا الخاصة لــ(نحن/ الآخر/ هم)، التي تُترجَم إلى قناعة بأنّ نجاحنا (نحن) يتلازم، ولا يمكن أن ينفصل عن أفعال عدائية ضدّ هذا (الآخر).

وهذا ما يشبه اللعبة الصفرية (خاسر/ رابح)؛ بمعنى أنّ أحد الأطراف لا يمكن أن يربح إلا بخسارة الآخر، وهذا إبستمولوجياً أحد الافتراضات الرئيسة المُضمرة في لبّ “النظرية الواقعية”، في السياسية والعلاقات الدولية ومعادلات تحليل المخاطر، وذلك على عكس النظرية “الليبيرالية الجديدة”؛ التي تقول: إنه يمكن للمجتمع الدولي والأفراد الوصول إلى وضع يربح فيه الكلّ دون أن يخسر أحد ويشعر بالغبن والقهر.

ويؤكد بيرغر؛ أنّ التطرّف يختلف عن الكراهية، التي تحرضها العنصرية والبغضاء، من حيث تبريره الشامل والجارف للإصرار عل العنف أو عقلنة استخدام العنف.

ومن أجل توضيح مقاربته للتطرف؛ قام “بيرغر” باستخدام العديد من الأمثلة والتجارب والاستشهادات من التاريخ حول العالم، التي تؤشّر على حالات التطرّف بأشكاله المختلفة، وعلى رأسها التطرّف الديني.

والمثال الأول الذي استخدمه بيرغر، مدعياً أنه يعدّ أول مثال على “الإبادة الجماعّية” في التاريخ: تدمير الرومان لمدينة قرطاج الفينيقية (مدينة أثرية بالقرب من العاصمة تونس اليوم)، وتذكر كتب التاريخ أنّ المدينة، التي أسستها الأميرة الفينيقية عليسة (أليسا أو أليسار)، العام 814 ق م، تعرّضت لعدة هجمات من الرومان خلال ما يسمى بالحرب البونّية، وفي الحرب البونّية الثالثة، العام 146 ق م، دُمّرت قرطاج كلياً من قبل سيبيون الأميلي.

ثم يصل بيرغر إلى التطرّف الديني الذي أفضى إلى الإرهاب الجهادي (الأبوكلبسي) القيامي المرعب لتنظيم القاعدة، وتطرّف جماعات اليمين المتطرف في أمريكا اليوم، ومعاداة السامية المرتبطة بمؤامرة برتوكولات حكماء صهيون.

ومن خلال هذه الأمثلة، وغيرها، حاول بيرغر تتبع كيف ولد ونشأ التطرّف، وكيف نشأت حركات البحث عن “الهوية” من خلال تتبع جينولوجيّ البحث عن الهوية للأفراد والمجتمعات المتطرفة.

وفي النهاية؛ يقول بيرغر: “إذا استطعنا فهم أسباب التطرّف، والعناصر المشتركة في الحركات المتطرفة، ربما استطعنا أن نكون أكثر فعالية في مواجهة التطرّف”.
________
*المصدر: موقع حفريات

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *