رحيل الفنان سمير سلامة .. صفحات من تاريخ الفن الفلسطيني والنضال الوطني

*يوسف الشايب:

في نهاية شهر حزيران الماضي، ومن سريره في مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني، وعبر سيارة إسعاف، توجه الفنان سمير سلامة، أحد مؤسسي الفن التشكيلي المعاصر، إلى حيث أقيم معرضه الاستعادي الأول في مقر “جاليري ون” بمدينة رام الله، بينما كان جهاز التنفس المتنقل مربوطاً بأنفيه على الدوام، هو الذي لم تسعفه حالته الصحية حينها في إتمام مراسم افتتاح هذا المعرض وقوفاً، وكان الأول من بين عدة معارض في عدة محافظات بادر إليها مجموعة فنانين فلسطينيين.

فجر اليوم، رحل سلامة في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس، إثر مرض عضال .. غاب جسداً، لكنه كان وسيبقى بما أبدعه من لوحات على مدار عقود، وبما أنتجه بمفرده ورفقة آخرين من فنانين بعضهم شهداء من ملصقات ذات بعد نضالي .. رحل هو الذي أطلقها مدوية مع أن حنجرته لم تكن تسعفه حين افتتاح معرضه الأول من ضمن سلسلة معارضه الاستعادية، وكان في قاعة “جاليري ون” بمدينة رام الله، بأن “يا موت هزمتك الفنون جميعاً”.

قبل أقل من شهرين كان سلامة قد قال وهو يلهث: ردت لي الحياة حين وجدت نفسي في فلسطين .. أيها الموت هزمتك الفنون كلها .. لم أخضع لمرض السرطان ولم اعطه أي اهتمام، ورفضته باستمرار، لكن القدر أقوى منا جميعاً، وبالنسبة لي فإن وجودي سيتواصل عبر أعمالي، وهذا ما يهمني.

ونعت وزارة الثقافة الفنان سلامة، مشيرة في بيان لها، اليوم، إلى أن :الحركة الثقافية الفلسطينية عامة، والتشكيلية منها على وجه الخصوص، خسرت برحيل سلامة واحداً من أبرز روادها ورموزها ممن ساهموا في التأسيس لحركة فنية أصيلة ومتجددة انعكست على شكل ملصقات ولوحات كان آخرها تلك التي أعدها هذا العام، ووقعها وهو في المستشفى بمدينة رام الله، قبيل أن يشارك في افتتاح المعرض الأول من سلسلة المعارض التي أقيمت قبل أقل من شهرين بدعم من وزارة الثقافة، وتم استعادة بمبادرة من فنانين فلسطينيين نخبة من أعماله في محافظات عدة جمعت الجغرافيا الفلسطينية، هو الفنان الذي حمل رسالة فلسطين عبر لوحاته إلى العالم، عبر المنافي المتعددة التي حط فيها، وكان آخرها باريس، وقبلها درعا في سوريا، وبيروت، وغيرها”.

ووصف وزير الثقافة د. إيهاب بسيسو رحيل الفنان القدير سمير سلامة بالخسارة الكبيرة، لافتاً إلى أنه واحداً من قامات ومؤسسي الفن الفلسطيني المعاصر، وعلى أنه، وطوال مسيرته الفنية، قدم عديد الأعمال الفنية المميزة، التي وثقت فلسطين وباتت وثيقة تعكس الحالة الإبداعية الفلسطينية، بل وشكلت مصدر إلهام للفن والفنانين في فلسطين وحول العالم.

وأضاف بسيسو: كان سلامة باقتدار، وسيبقى، واحداً من أعمدة الفن الفلسطيني على المستوى العالمي، وما دعم الوزارة لسلسلة معارضه قبل أقل من شهرين في عديد محافظات الوطن، إلا ورسالة بالغة الأهمية على صعيد الوفاء اولتقدير لأحد فناني فلسطين الكبار، وهو الدور الحقيقي لوزارة الثقافة.

وسمير سلامة من مواليد مدينة صفد في العام 1944، واضطر إثر النكبة إلى الانتقال رفقة أسرته نجو بلدة مجد الكروم في الجليل حيث كانت تسكن عمته ، ومنها إلى بنت جبيل اللبنانية، والتي بحث فيها والده عن معارفه الذين كان يعمل معهم في نقش الحجارة .. مكث معهم فترة قصيرة، لكنه تابع مشواره إلى بيروت ثم إلى دمشق التي غادرها جنوبا نحو درعا، وبعد أشهر على الترحيل القسري أقام سمير سلامة في دير مسيحي بدرعا قبل أن تستأجر العائلة بيتاً في جواره.

بدأ الرسم مبكراً في المدرسة، ونال التشجيع فيما بعد من مدرس الفن، وكان للفنان السوري أدهم إسماعيل فضلاً في وضعه على طريق الفنون، وهو ما دفع لدراسة الفنون الجميلة في جامعة دمشق، قبل أن يقيم أول معرض له في العام 1963 في المركز الثقافي بدرعا .. وبعد أن أنهى دراسته الجامعية العام 1972 انتقل إلى بيروت، حيث التحق بدائرة الإعلام الموحد التتابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأسهم في صياغة الملصق السياسي (البوستر) استجابة لمتطلبات المرحلة، وكجزء من توظيف الفنون في خدمة الثورة وأهدافها، وكان هو من أسس قسم الفنون التشكيلية في دائرة الإعلام، قبل الانتقال العام 1975 لمتابعة دراساته العليا في كلية الفنون الجميلة (بوزار) في العاصمة الفرنسية باريس.

وكان من بين محطات مشواره الحافل عمل في “اليونسكو”، والعودة بصيغة جديدة رفقة الشهيد عز الدين قلق، على إنتاج المزيد من الملصقات، هو الذي عرف بانحيازه للجمال كما انحيازه لقضية وطنه وشعبه، وبعمله الدؤوب على التجديد، حتى شكل مدرسة بحد ذاته، هو الذي منحه الرئيس محمود عباس، العام الماضي، وسام الثقافة والفنون والعلوم (مستوى التألق)، تقديرا لسيرته ومسيرته الثقافية والفنية، ودوره في تأسيس قسم الفنون التشكيلية والإعلام الموحد في منظمة التحرير.

وكشف سلامة في أحد الحوارات المستعادة عن أن زيارته الأولى بعد نكبة فلسطين، لم تكن في تسعينيات القرن الماضي كما يعتقد كثيرون، بل ما بين العامين 1960 و1961 “عندما تقمصنا هوية طلاب سوريين، ودخلنا إلى البلاد برحلة مدرسية وزرنا القدس، وأريحا، ورام الله، وبيت لحم، ونابلس .. كانت أول زيارة عبارة عن تهريب في تهريب”، هو الذي قال وهو يتأفف من جهاز التنفس ولا يستطيع الاستغناء عنه، من رام الله وخلال مشاركته في معرضه الأخير “برغم كل آلامنا كشعب علينا أن نفتخر بأننا فلسطينيون”.
________
*الأيام الفلسطينية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *