حمزاتوف وأيام موسكوفية

*خيري منصور

في نهايات الحرب الباردة وعلى تخوم حقبة حملت أسماء ملتبسة منها، العولمة أو النظام العالمي الجديد، كانت موسكو تعيش ربيعا جغرافيا يتزامن مع خريف سياسي وأيديولوجي، في تلك الأيام كنت أزورها للمرة الثانية بدعوة من اتحاد الكتاب بهدف إصدار أنطولوجيا شعرية، تضم مختارات من الشعر العربي الحديث، وقبل أيام أثار الصديق نبيل عمرو شهيتي، بل أضاء ذاكرتي بما كتبه عن تلك الفترة، استكمالا لكتابه «ألف يوم في موسكو»، وعلى الفور قفزت إلى سطح ذاكرتي أسماء أدباء وشعراء التقيتهم، منهم من كان ذا مكانة عالمية كرسول حمزاتوف وجنكيز أيتماتوف، الذي كان يرأس تحرير مجلة «الآداب» الاجنبية، وكان الصديق نبيل في تلك الأيام سفيرا لفلسطين في موسكو، وما أن التقينا حتى قال لي بأنه أعد لي مفاجأة ، فقلت له مداعبا هل هي موعد مع الكرملين ولقاء بصاحب البيروسترويكا، فقال بل أهم من ذلك، وبالفعل كنت في اليوم التالي أجلس إلى مائدة في أحد مطاعم موسكو، ومن الضيوف شاغال مدير معهد الاستشراق ، الذي يتقن اللغة العربية، وحين صافحته قال مبتسما أنه مضطر لذكر اسمه الثلاثي كي لا يختلط باسم الفنان التشكيلي الشهير شاغال، وكان أيضا من ضيوف ذلك المساء سفير روسي سابق في القاهرة، أهداني مجلدا بعنوان مصر والمصريون، ودار حوار حول الاستشراق، وذكرت له العديد من الكتب التي ألفها مستشرقون غربيون عن مصر، ومنهم شاتوبريان وأدوارد لين وآخرون ، لكن المفاجأة لم تكن هؤلاء، بل وجود رجلين على رأس المائدة، أحدهما شعره الفضي الكثيف وسعة عينيه تلفت الانتباه هو رسول حمزاتوف، صاحب السيرة الذاتية الآسرة «داغستان بلدي»، والآخر أيتماتوف صاحب رواية «جميلة» التي ترجمت إلى العربية، إضافة إلى أعمال أخرى.
كان حمزاتوف منحازا بعقله وعاطفته إلى عدالة القضية الفلسطينية، وحين طلب منه أن يشارك في أمسية شعرية في قاعة القدس في موسكو لم يعتذر، رغم وجوده في المستشفى وشارك في الأمسية، وكان يسكن في شارع اسمه مكسيم جوركي، ويقول إنه سوف يغادره إلى شارع آخر كي يحمل اسمه بعد الموت، لأن اسم جوركي لا أحد يجرؤ على استبداله.
أما جنكيز أيتماتوف فقد أثار غضب العرب في تلك الأيام بسبب إهدائه أحد كتبه لإسحق شامير، واتفقنا على موعد في مكتبه في مجلة «الآداب» وبدأ حديثه بذكريات عن دمشق لأنه زارها، وكان من المحكمين في مهرجان سينمائي، وقال عن إهدائه الكتاب لإسحق شامير إنه لم يقصد ما فهمه العرب، فأحيانا يكون إهداء كتاب بمثابة إدانة، ثم قرر الاعتذار عن ذلك.
وشاءت المصادفة أن نشاهد في اليوم التالي معا المؤتمر الصحافي لصدام حسين، الذي قال فيه أن لديه سلاحا يكفي لإحراق نصف إسرائيل، وأذكر أن شاغال وهو من أصل يهودي ابتسم بخبث وقال لماذا يريد الإبقاء على النصف الآخر؟ وهل النصف الآخر هو النساء؟
كان حمزاتوف ميالا إلى الإصغاء والصمت، وهو الذي قال في كتابه «داغستان بلدي» إنه تعلم الكلام في سنتين، واحتاج إلى ستين عاما كي يتعلم الصمت، لكن كبرياءه الجبلي كان يرشح من صمته، خصوصا حين قال إن جده لم ينحن في حياته إلا مرتين مرة ليسقي جواده من النبع ومرة ليداعب حفيده.
كانت إحدى أشهر الشاعرات الروسيات في تلك الأيام ريما كازاكوفا وهي صديقة حميمة للشاعر الراحل معين بسيسو، وكانت حماستها بلا حدود للقضايا العربية، وذات ظهيرة كنا نتناول الغداء بصحبة إيغور يرماكوف، عندما دخل إلى المكان الشاعر فوزينسكي وكنت قد سمعت عنه لأول مرة من كاتب روسي أورده مثالا في حديث عن الحقبة الستالينية، وعن دور الرقيب جدانوف، الذي قال لفوزينسكي بعد أن قرأ مخطوطة ديوانه، أطبع منه نسختين فقط، واحدة لك والأخرى للمرأة التي تتغزل بها، والمقصود بذلك أن فوزينسكي غرد خارج السرب والحزب معا، ولم يكتب عن الكولوخوز والبروليتاريا.
لكن فوزينسكي تغير كثيرا كما قالت ريما كازاكوفا، وهي تشاهده يدخل المكان، وعلقت ساخرة بقولها إن لديه من الدولارات أكثر مما لديه من القصائد، لأن ثقافة اليانكي الأمريكي اختطفته، تماما كما حدث ليوجين يفتشنكو الذي كتب قصيدته الشهيرة «بابي يار» بانحياز لا يليق بشاعر مثله للصهيونية.
كانت موسكو في ذلك الربيع الجغرافي والخريف الأيديولوجي قد فقدت الكثير من وهجها وبدأ العدو الرأسمالي التقليدي يعيّرها بما انتهت إليه، وللمثال فقط نذكر ما قاله رامسفيلد وهو إن ما تبقى من الاتحاد السوفييتي هو مخزون من الأسلحة التي علاها الصدأ وفقدت صلاحيتها، لكن ما حدث بعد ذلك كان أقرب إلى ما يسميه الفيلسوف هيغل مكر التاريخ، فقد بدأ الدب يتململ بعد سبات طويل،، لكن الأيديولوجيا لم تعد هي البوصلة.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *