جورجي آمادو.. بيليه الأدب البرازيلي

القاهرة- في سيرته الذاتية يكتب الروائي البرازيلي جورجي آمادو (10 أغسطس 1912 – 6 أغسطس 2001): «الوحدة ليست مناخي الخاص، فأنا رجل دنيوي، أحب أن أعيش، وأن أكون مع الناس، أضحك وأثرثر، وأكون في أحسن حالاتي وأنا في حالة اتصال بهم». وفي الكتاب ذاته علقت زوجته الكاتبة زيليا جاتاي قائلة: «لا يشعر جورجي بأنه على أحسن حال، إلا عندما ينشغل بالعمل، وهو في الصالة الرئيسية، فهو هناك أفضل حالا، يجلس في قاعة الطعام (ولم لا؟) كي يشغل المائدة، ويضع عليها آلته الكاتبة وأوراقه، ويبدأ في الكتابة».
كان هذا الكاتب الكبير يرى أن كثيرين، من كتاب عصره المتميزين، قد انفصلوا عن العالم، وكتبوا من وراء الجدران، ويضرب مثلا لذلك بكافكا ومارسيل بروست، أما هو شخصيا فقد آثر أن يشارك في الحياة نفسها، ويرتبط أكثر بالناس العاديين، لذا فإن أبطال رواياته هم أولئك الأشخاص الذين عاش بينهم، ولم يكن منتميا إلى كتاب البرج العاجي، ويعترف بأن الشخصيات التي عرفها القراء، من خلال رواياته، وجدت أساساً في الواقع.

هنا يقول آمادو إنه سار على نهج الكاتب الروسي مكسيم جوركي، فبالسذاجة كان يواجه تعقيدات الآخرين، وبالعدالة يتصدى للظلم، لكن السؤال هو: هل يمكن للآخرين أن يتفهموا معنى الصفاء الذي يتمتع به الكاتب؟ في كل الأحوال ظلت شخصية الثوري تتماوج بداخل آمادو وتدفعه للكتابة عن المقهورين من أبناء «باهيا» مسقط رأسه، والمكان الذي صار مسرحاً لأغلب رواياته، والقهر هنا ليس قهرا سياسيا، لكنه حياتي، فهؤلاء البسطاء يطلبون القليل من الدنيا، ويرتضون بما قسم لهم، ولذا فإنهم لا يحلمون بالخروج من دائرة المقاطعة، لأن العالم في منظورهم يقف هناك، وقد يأتي آخرون من عوالم أخرى إلى «باهيا» للإقامة بها، باعتبارها منطقة جذب، مثلما حدث للعربي في روايته «بحر ميت».
في سيرته الذاتية «طفل من حقول الكاكاو» يعترف آمادو بتأثير كتاب بأعينهم عليه، ويرفض كتاباً آخرين، فإذا كان قد سخر من الحياة التي عاشها كافكا وبروست، فإنه معجب بالكاتب البرازيلي جيلبرتو فريير صاحب رواية «سادة وعبيد» وتعليقاً على هذه السيرة كتب أحد النقاد الفرنسيين مقالا في «نوفيل أوبزرفاتور» في 11 يوليو سنة 1996 يقول فيه: «إن جورجي لم يكتب سيرته الذاتية، بقدر ما سرد سيرة بلاده السياسية، وكشف الأوجه الحسية والألوان المتباينة للناس والطبيعة في البرازيل، خاصة باهيا التي تنام في أحضان البحر، إنها أرض الكاكاو».
جورجي آمادو ينتمي إلى سلالة الكتاب الذين لهم نفس قامة بلزاك وديكنز، وهؤلاء عاشوا مع أبطالهم في أماكن ضيقة، ولم يمنعهم هذا من الرحيل، عبر شخصيات أعمالهم، إلى أطراف العالم، وفي سيرته يقف آمادو عند أولئك الذين بادروا بخصومة معه، يقول: «أما هؤلاء الذين لم تفتهم أية فرصة لمهاجمتي، والذين جهلوا قيمة كتبي، فإنني أقول لهم لا أحد منهم استطاع الوصول إلى المعنى الحقيقي لحدود كتاباتي، فأنا كاتب مملوء بالوعي، ولم أترك الشهرة تفسدني، وأحس بأن الشخصيات التي ابتدعتها هي أيضا مثل نغمة في حياة الشعب البرازيلي، قد تطير مع الريح، فأنا لست مغرورا ولا مدعيا، لكنني مملوء بالكبرياء».
في سيرته الذاتية يتناول آمادو جوانب كثيرة من علاقته بزوجته الكاتبة زيليا جاتاي فيشعر القارئ بأن كلا منهما يكتب للآخر، وكأن لا حدود تفصل بين أفكارهما، فهي تكتب عنه قائلة: «بعد سنوات عديدة من التواصل، عاد جورجي إلى الكتابة مع «جابرييلا» (الرواية) التي سببت له المزيد من البهجة، وترجمت فور صدورها إلى اللغة الإنجليزية، وكانت في قائمة الأكثر مبيعاً، في الولايات المتحدة الأمريكية، وتجولت الرواية في شوارع باريس، وهي تتكلم الفرنسية، لقد منحته هذه الرواية منزلا في «باهيا» ثم جاءت بعد ذلك روايته «البحار العجوز» التي أكدت على ما يملكه المبدع من حق الحلم، لقد ترك آمادو نفسه دوما لنوم عميق كي يمنح نفسه أكبر قدر من الأحلام».
تتحول «باهيا» مسقط رأس آمادو إلى عبارات تلغرافية مدونة في موسوعة جغرافية، تتضمن بعض البيانات السكانية، لكنها بالنسبة له شيء آخر، إنها المكان الذي ولد وسوف يموت فيه: «عندما عدت إليها من سفر طويل، وجدت نفسي لأول مرة أتحسس سرج جواد أبي، وفراش أخوتي، وبقايا أواني أمي، كان منزلنا منعزلا عن بقية الديار، وبعد وقت قليل اكتشفت أنه لم تعد هناك شوارع ولا حواري، فقد تلاحقت المنازل مثلما يفعل البشر، وتقارب الناس، وانتشرت روائح الكاكاو عبر النوافذ، ورحنا نسمع ما يدور في غرفهم المجاورة. كانت الشوارع تزيد الناس اقترابا، كلما ارتفعت حدة الفقر فيما بينهم».
آمادو من الكتاب الذين ارتبطوا بالمكان دائما، وقد ظلت مياه بحر باهيا ورمالها بمثابة النبع الذي ينهل منه، وراح يعبر عن الحياة والناس هناك منذ روايته الأولى «بلاد الكرنفال» التي نشرها عام 1932 حتى كتابه الأخير، ففي عام 1935 نشر أول رواية من سلسلة أعماله عن باهيا بعنوان «جوبيابا» وذلك تحت اسم «باهيا كل القديسين» وكانت روايته «بحر ميت» التي ترجمها إلى العربية شحات صادق بمثابة العمل الثاني في هذه السلسلة التي كتبها أثناء منفاه في بيونس آيرس، ورغم أنه كتبها سنة 1936 فإنه لم ينشرها إلا مع بداية الأربعينيات من القرن الماضي، وفي هذا العام أيضا كتب «فرسان الرمل» حول الصبية الضائعين في «باهيا» ثم قدم «لويز كارلوس فارس الأمل» أما روايته «جابرييلا قرنفل وقرفة» التي نشرها عام 1958 فقد منحته التقدير العالمي اللائق به، وجعلته يتمتع بشعبية جارفة لم ينافسه فيها سوى اللاعب الكبير بيليه وتتابعت أعماله المكتوبة للأطفال، إضافة إلى المجموعات القصصية والروايات، ومنها «دونا فلور وزوجاها – دروب الجوع – طفل الكاكاو – توكايا الكبير – تيريزا باتيستا التي أرهقتها الحرب» وللعرب والأتراك مكان بارز في رواياته وهذا ما يتضح في الفصول الأخيرة من روايته «بحر ميت».
كان آمادو قد أسس مع أصدقائه «جماعة الحداثة» وأنهى دراسته في كلية الحقوق، ويكمن السر في نجاح آمادو وفق البعض في تمسكه ببعض الأشكال الاتباعية، ممزوجة بالصعلكة، وطعم التقاليد العريقة، في مسقط رأسه، مقاطعة باهيا، التي كانت بحواضرها وريفها مسرح كل رواياته، وكان آمادو قد انغمس في النشاط السياسي مبكرا، وانضم إلى الحزب الشيوعي البرازيلي، وتعرض للسجن، لكنه لم يكتب أدباً إيديولوجياًٍ أو عقائدياً، إلا باستثناءات قليلة جدا، وفي عام 1946 انتخب عضواً بالبرلمان لكن الحكم العسكري حظر نشاط الحزب الذي ينتمي إليه، وأمر بإحراق ست روايات له في الساحة العامة بالعاصمة، فاضطر إلى العيش في المنفى ما بين فرنسا وإيطاليا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي، ولم يتمكن من العودة إلى بلاده إلا في عام 1952 وحصل على عدة جوائز عالمية، وكان المرشح الدائم لجائزة نوبل التي قال عنها: «لن أكون سعيدا إذا فزت بها». وفي عام 1987 تأسس متحف آمادو على يد مجموعة من الفنانين والكتاب، الذين رأوا ضرورة الحفاظ على تراث هذا الكاتب الكبير، الذي ترجمت أعماله إلى حوالي 50 لغة عالمية، وعرضت عبر السينما والدراما التلفزيونية. وفي مصر تم إنتاج فيلم مأخوذة قصته عن روايته «الرجل الذي مات مرتين» بطولة محمود حميدة ولبلبة وعنوان الفيلم «جنة الشياطين».
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *