*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
يُعدّ الدالاي لاما إحدى أكثر الشخصيات أهمية في عالما المعاصر ، وتأتي أهميته من كونه يطرح مفهوماً للدين هو أقرب إلى النسق المجتمعي – السايكولوجي – الثقافي المغاير للمنظومة اللاهوتية الفقهية المتداولة ؛ وعليه سيكون أمراً مثمراً الإستماع إلى آرائه التي يطرحها في شتى الموضوعات المهمة على الصعيدين الفردي والعالمي .
أقدّم في هذا القسم ( وأقسام أخرى لاحقة ) ترجمة لأجزاء منتخبة من بعض فصول الكتاب المسمّى ( طريق الحكمة ، طريق السلام ) الذي أوشك على إتمام ترجمته .
إعتمدتُ في ترجمة هذا الكتاب على النسخة الإنكليزية التي نشرتها دار نشر ( Crossroads Publishing Company ) عام 2004 .
المترجمة
الحوار مع الدالاي لاما
عن شخص الدالاي لاما
ليس شخصاً مؤلّهاً ؛ بل هو كائن إنساني مثل كلّ البشر
فيليزيتاس فون شونبورن : حتى هؤلاء الذين بالكاد علموا شيئاً ضئيلاً بشأن البوذية أو التبت يعيرون إنتباهة لايمكن إغفالها متى ماسمعوا الكلمتين الأثيرتين ( دالاي لاما ) . تبدو تلكما الكلمتان بالنسبة للكثير من الناس مقترنتين بمعنى غامض لاينفكّ يُذكّرهم بجبال التبت المغطّاة بالثلج طوال السنة والتي يستوطنها أفراد من عرق ( التانكا * ) الذين يُعرَف عنهم مواهبهم الفنية الرفيعة . ماالذي تعنيه مرتبة ( الدالاي لاما ) لك على الصعيد الشخصي ؟
قداسة الدالاي لاما : ثمة الكثير من التكهّنات – على النحو الذي يمكنك تخيّله – بشأن الدالاي لاما في كلّ مكان في العالم ، والكثير من الناس يكنّون لي الإحترام والتقدير ؛ لكنني في نهاية الأمر لستُ سوى كائن بشري مثل سواي من البشر : أنا راهبٌ يتوجّب عليه أن يهتمّ بشؤون الآخرين بأكثر ممّا يفعل مع شؤونه الخاصة ، وأحاول كلّ يوم بكل ماأوتيت من قوّة وقدرة على طلب الكمال لنفسي وتنقيتها ممّا يكون علق بها من شوائب . نحن نسمّي هذه الفعالية Bodhicitta – عقل الإستنارة – والتي تستبطن الرغبة المخلصة في بلوغ الإستنارة من خلال النزوعات الإيثارية الطامحة لتحرير كلّ الكائنات البشرية الحسّاسة والواعية من معاناتها . ثمّة صلاة تعود جذورها للقرن الثامن نشهد فيها هذا الرغبة الإيثارية مسبوكة في هذه الكلمات : ” طالما وجِد المكان والزمان ، طالما هناك كائنات يتوجّب عليها التجوال في دورة لانهائية من إعادة الولادة مرة بعد الأخرى ، فلأكن أنا أيضاً معهم في دورة الولادة هذه ، ولأحمل عبء المعاناة عنهم ….. ” .
نحن نؤمن في البوذية التبتية بأنّ الدالاي لاما هو إعادة انبعاث لِـ ( Avalokiteshvara ) ، وهو مايدعى Chenresig في التبتية المحلية . الدالاي لاما هو Bodhisattva : منبع الرحمة والشفقة وحامي كلّ الكائنات الحية ، وأنا إعادة الإنبعاث الرابعة والسبعون التي يمكن إقتفاء أثرها منذ البدء في صبي البراهمان Brahman أيام بوذا . نحن نؤمن بالكائنات ( الحية ) ، الأرواح العظيمة أو ماندعوه tulkus ( على النحو الذي تسمّى به في التبتية المحلية ) ، وتلك الأرواح مقدّر لها إمتلاك القدرة على إعادة الإنبعاث بقدراتها الخاصة ، ويشمل هذا الأمر أيضاً الدالاي لاما الذي يعود تأريخ باكورة إعادة إنبعاثه إلى عام 1351 . تحصل إعادة الإنبعاثات هذه على شاكلة يُراد منها ضمان إستمرارية المهام العظيمة الموكولة لها والخليقة بإنجازها ، وهذا هو العنصر الأكثر جوهرية في البحث عن الدالاي لاما التالي ، وطبقاً لمفاهيمنا التبتية ثمة رابطة روحية وقوة كارمية ** تمنحني القدرة على معرفة الدور الذي ينبغي ان ينهض به الدالاي لاما .
محيط من الحكمة
* ماالذي تعنيه عبارة ” الدالاي لاما ” في دلالتها الواقعية ؟
– لاما تعني ” السيّد الذي لايمكن تجاوز قدراته ” ، أما دالاي فهي مفردة منغولية تعني شيئاً نظيراً لكلمة ” محيط ” ؛ وعلى هذا الأساس يمكن بمعنى حسي تصويري ترجمة الدالاي لاما لتكون عبارة تعني ( محيط الحكمة ) . على كلّ حال أرى من جانبي أنّ هذه العبارة ترتبط بالدالاي لاما الثالث ، سونام غياتسو ، الذي يعدُّ – بحسب التقاليد المتوارثة – الشخص الأول الذي خلِعت عليه مفردة ” دالاي ” من طرف رئيس قبيلة منغولية ، وربما لايعدو الأمر كله أنّ كلمة ” غياتسو ” التي تعني ( المحيط ) باللغة التبتية المحلية قد جرى ترجمتها إلى اللغة المنغولية . كان الدالاي لامات حتى إعادة الإنبعاث الخامسة يكتفون بوظائف دينية خالصة ، ثمّ حصل أن جاء الدالاي لاما الخامس الذي جمع إلى جانب زعامته الدينية مهمّة قيادة الدولة ؛ وهو أمر نجم عنه جمع الزعامتين السياسية والدينية في هيكل شخص واحد بذاته .
مساعدة الآخرين هي معنى وجودي
* يبدو أمراً واضحاً في أوربا أنّ السلطات الدينية والعالمية لم تنجح يوماً ما في العمل بتناغم وسلاسة معاً . كيف أمكن للتبتيين الجمع بين طريقتين متعاكستين في الوجود – البساطة والزهد من جهة ، وإمساك زمام المبادرة السياسية من قبل رأس الدولة من جهة أخرى – في شخص واحد ؟
– لايختلف الأمر لديّ سواءٌ أكنتُ راهباً أو رئيساً للدولة ؛ لأنّ معنى الحياة بالنسبة لي ينطوي على مساعدة الآخرين وبخاصة الستة ملايين من التبتيين الذين يضعون كلّ تطلعاتهم وآمالهم فيّ ، وبالنتيجة صار يترتّب على هذا الأمر مسؤولية عظمى أحملها دوماً على أكتافي . بالطبع أرى أن مهمّتي في الحياة تكمن في مساعدة شعبي وخدمتهم بكلّ تكريس ومحبة ، وعندما نخدم الآخرين بإخلاص فإننا نحقق فائدة مضاعفة لنا لأننا نجعل أنفسنا في الوقت ذاته سعداء إلى حدود غير مختبرة من قبلُ .
إنّ الكيفية التي أنهض من خلالها بمهماتي تعتمد عليّ إلى حدّ كبير ، وعندما أنجح في أداء رسالتي بإخلاص فحينها فقط تكون مكانة الدالاي لاما شيئاً ذا فائدة تستحقّ التنويه ؛ لكن بقدر مايختصّ الأمر بي فإنّ نزاهتي الشخصية وأصالة دوافعي هما بالتأكيد الموضوعتان الأكثر أهمية بصرف النظر عن قدرتي – كرجل سياسة – على تحقيق أهداف شعبي .
من جانب آخر فإنّ الأمر يكون خطيراً أيضاً وبشكل جليّ للعيان إذا ماتوقّع الشعب التبتيّ أنّ الظروف القمعية السائدة في بلدنا يمكن تغييرها بجهود شخصٍ بمفرده حتى لو كان ذلك الشخص هو الدالاي لاما ذاته ، ولايختصّ الأمر بيومنا هذا فحسب بل يشمل كلّ التأريخ التبتي الذي انقضى والذي سيأتي في قابل الأيام . ينبغي علينا أيضاً أن نبتكر حلولاً مبدعة تكفل رفاهية واستمرارية أمتنا مع الأجيال المستقبلية القادمة ، وهذا هو بكلّ تأكيد إهتمامي الجوهري في المقام الأوّل .
لم أكن في بادئ الأمر مُعدّاً بأي شكل من الأشكال للتعامل مع أية مهمّة على صعيد السياسة العالمية ، وعندما أخذتُ على عاتقي مسؤولية حكومة التبت عام 1950 وأنا بعمر الخامسة عشرة فحسب كنت أفتقد بشكل كامل لأيّ نوع من الخبرة السياسية ، وكنت بالكاد أستطيع إجادة التعامل مع الممارسات الدبلوماسية ؛ غير أنّ كلّ هذا شهد تغيّراً عظيماً مع الزمن ، وقد أفدتُ فائدة كبرى من تجاربي المتنوّعة في العقود الأخيرة وكذلك من إتّصالاتي العديدة مع رجالات الدولة وغيرهم من الشخصيات المؤثّرة .
مدرستي العظيمة كانت الحياة ذاتها
* قلتَ ، قداستك ، أنّك كنتَ معدّاً بطريقة غير مناسبة ولاخليقة بالدور المفصليّ العظيم الذي تلعبه في السياسة العالمية في أيامنا هذه . هل ثمّة تعليم خاص يختصّ به الدالاي لاما ؟
– لم أنل أي نوعٍ خاص من التدريب يختلف عن ذلك الذي إعتاد الرهبان التبتيون على تلقيه بصورة تقليدية : في عمر الثالثة عشرة بدأت بدراسة الفلسفة ، والتعريف الملائم للعبارات والمفردات ، وكذلك فنّ المجادلة والمناظرة ، ثمّ أضيف لاحقاً لجدول دروسي فنّ تجويد الخطّ اليدوي ، وكان التقليد السائد بعد الفراغ من أداء واجباتي الدراسية هو أن انخرط في حفظ النصوص التبتية . إشتمل منهاجي الدراسي على خمس مواد دراسية رئيسية Major وخمس أخرى ثانوية Minor ، وقد ضمّت المواد الرئيسية : الديالكتيك ، الفن التبتي والثقافة التبتية ، القواعد النحوية ، اللغويات ، الطب ، الفلسفة البوذية ؛ أما المواد الدراسية الثانية فضمّت الشعر ، الموسيقى ، الدراما ، علم التنجيم ، الأعراف ، التعبير بالإضافة إلى المعجم اللغوي . بالنسبة إلى دراسة الدكتوراه كانت الفلسفة التبتية ، والمنطق والدالكتيك ، وكذلك الإبستمولوجيا ( مبحث المعرفة ، المترجمة ) كافية ، وقد أكملتُ دراساتي عام 1959 وأنا لم أزل في التبت وقبل وقت قصير من مغادرتي إلى المنفى الهندي . خُلِع عليّ لقب Geshe*** ( وهو أعلى درجة فلسفية ) عقب إمتحان ودفاع عن أطروحتي أمام الآلاف من الناس .
ثمّ حصلتُ على الكثير من الإستبصارات الملهِمة من خلال ممارسة التأمّل لعدّة مرّات في اليوم على نحوٍ منتظم . لدينا – التبتيين – نوعان من التأمّل بصورة أساسية : نوع يتوجّه بالإهتمام نحو التركيز والحصول على السلام الجوّاني ( الداخلي ) ؛ أما النوع الثاني فيختصّ بالتحليل والإستبصار الأعمق في جوهر الأشياء . من جانبي أراني مهتماً بصورة جوهرية في ممارساتي التأملية بالتعاطف مع الآخرين ، والتمييز بين الذات والآخرين ، وبالإعتماد البينيّ المشترك والمتبادل بين كلّ الأشياء والكائنات الحية مع بعضها بعضاً وبخاصة فيما يختصّ بالكائنات البشرية . أنا أصلي ، وأتأمّل ، وأدرس كل يوم لخمس ساعات ونصف وربّما أكثر أحياناً ؛ لكنني أصلّي أيضاً خلال بقية اليوم متى ماسنحت لي الفرصة . ثمة صلوات مناسبة لكلّ أمرٍ ننوي فعله ؛ إذ بقدر مايتعلّق الأمر بالبوذيين فإنّ من الصعب ملاحظة أي اختلاف أو تمايز بين الدين والحياة اليومية .
غير أنّ مدرستي الأعظم والأكثر أهمية من سواها كانت الحياة ذاتها بكلّ تحدّياتها الكبرى والمشقات العديدة التي توجّب على شعبي مكابدتها وإتقان التعامل معها . لطالما قادني قدري كلاجئ مرّات عديدة إلى مواقف يائسة ينقطع فيها الرجاء والأمل إلى حدّ بعيد ، وهذا أمرٌ أرغمني على نحو متواصل وعنيد على مواجهة الواقع الحيّ كما هو ، وتحت ظروف مثل هذه يشيع فيها الضغط المتواصل كان عليّ أن أبرهن على عزيمتي الخارجية الحاسمة التي لاتعرف التخاذل والإنكفاء وفي الوقت ذاته توجّب البرهنة على صلابتي الداخلية من حين لآخر ؛ لكنما الأمر الحاسم والذي كانت له علوية على كلّ ماسواه هو عدم فقدان الشجاعة والأمل في كلّ الظروف . التأمّل اليومي وخبرة الحياة هما المجالان اللذان أدين لهما – ربما – بأعظم دَيْن في حياتي .
* التانكا Tanka : جماعة عرقية فرعية تعيش في بعض المناطق في جنوب الصين وكذلك في هونغ كونغ وجزيرة ماكاو ، ويطلق عليهم تاريخياً ( شعب القوارب ) لامتهانهم حرفة صيد الأسماك وبناء القوارب . ( المترجمة )
** كارما Karma ( لغة سنسكريتية कर्म ) : مفردة تعني العمل أو الفعل ، وهي مفهوم أخلاقي في المعتقدات الهندوسية والبوذية والسيخية والطاوية ، ويشير إلى مبدأ السببية حيث النوايا والأفعال الفردية تؤثر على مستقبل الفرد ؛ إذ أنّ حسن النية والعمل الخيّر يسهم في إيجاد الكارما الجيدة والسعادة في المستقبل ، أما النية السيئة والفعل السيئ فيسهمان في إيجاد الكارما السيئة والمعاناة في المستقبل . ترتبط الكارما مع فكرة الولادة الجديدة ( أو إعادة الإنبعاث ) في الديانات الهندية . ( المترجمة )
*** مفردة تعني ( الصديق الفاضل ) ، وهي مرتبة أكاديمية بوذية – تبتية تُمنَح للرهبان البوذيين حصراً . ( المترجمة )
____________
*المصدر: المدى