الموت عند المتنبي

خاص- ثقافات

*عبد القادر صيد

الموت هو العتبة الفاصلة بين دارين ، و بما أن لكل عتبة هيبة ، فلا يستغرب أن يتهيبه كل الناس ، غير أن قوة الإيمان و العقيدة أو العصبية و بعض الانفعالات تهوّن أمره و تجعل الإنسان يقبل عليه دون تحفـــظ أو خوف.
و يكثر أو يقل ذكر الموت في شعر شاعر لاعتبارات شتى، فإذا وجدنا المعري و هو تلميذ المتنبي قد أكثـر من ذكـــر الموت و أبدع فيه سواء في مقدمة رثائه للفقيــه أبي حمزة أو في قصائد أخرى ، فإننا نتفهم ذلك ، فغيــــر مستغـــــرب من شخص كفيف قعيد البيت أن يزهد في الدنيا و يدير لها ظهره. أليـس هو الذي وصف حالته في هذين البيتين ؟
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تســـــأل عن الخبـر النبيث
لفقدي ناظري و لزوم بيتــي
و كون النفس في الجسم الخبيث
و إذا أضفنا تعمقه في الفلسفة و اعتناقه لمذهب التنسك ، واتباعه مسلكا اشتط فيه على نفسه،زادت قناعتنا بالدافع الكامن وراء هذا الذكر، أما أن نجد مثل المتنبي الذي يحمل بين أضلاعه طموحا لا يعرف حــدودا وتطلعا إلى الآفاق الممدودة دون أن يعترف بحاجز،و مع ذلك يكثر من ذكر المــــوت في أشعــــــاره فإن ذلك يتطلب منا التوقف قليلا.
إذا أكثر المرء من ذكر شيء خطير أو مخيف ، فإنما يكو ن غالبا إما خائفا منه أو متحديا له غير مكترث به ،                 و بما أن حياة المتنبي الخارجية ليست سرا في ملامحها العامة و لا لغزا ، فإن المتنبـــي يكون من الصنف الثاني الذي لا يهاب الموت .و لكن هل يصدق فيه أنه غير مكترث به؟ إن تكرار الموت في شعره لفظا و معنى يدل على أن هاجس الموت يتربع على حيز كبير في تفكيره و وجدانه، و انظر إلى هذا البيت الدقيق الذي يقول فيه :
وما الموت إلا سارق دق قادماً
يصول بلا كف ويسعى بلا رجل
إن هذا التصوير يتوقع من طفل في منتصف الليل سمع حسيسا أخافه فطرد من عينيه النوم حتى الصباح ،و البيت يظهر أنه بعيد عن العاطفة كما تبدو بعض قصائد الشاعر ، و كما تبدو حياته كلها ،أو كما يحاول هو أن يظهرها للناس، غير أنه هيهات ،فعاطفة التوجس من الموت تنبض بقوة و تدوي بقدر ما تؤديه لفظة (دق) في بيته، و قد يكون مرد ذلك أن الشاعــر قضى حياته كلها يتوجس من أن يقتل غدرا بأي وسيلة من الوسائل ، و لكن نفسية الحازم اليقظ تجعله يبالغ في ألا أن يترك في شعره شيئا ينم عن مكنوناته الحميمية يستغله حساده المتربصون به. إن النجـــــاح يخلق الأعداء، فما بالك بمن سحق شعــــراء عصره سحقا و جاهر بمعاداة الأمراء؟
ثم هيا بنا لنرى المتنبي مريضا ينتظر الشفاء ، أليس من المفروض أن يكون الهاجس الأول و الأخير هو هذه الحمى التي لا تريد مفارقته؟ نعم ذلك هو المفروض، و لكن شاعرنا يعرف أن الحمى عرض زائــــل سواء برء منــه أو قضى نحبه من جرائها ، و أنها إنما هي أصغر جنود الموت ، و أضعفهم، إن الخطر العظيم عنده يكمن في المجهول المتربص به هنا و هناك و لذلك قال :
وَإِنْ أَسْلَمْ فَمَا أَبْقَى وَلَكِنْ
سَلِمْتُ مِنَ الحِمَامِ إِلَى الحِمَامِ
و في اعتقادي الساذج أن هذا البيت فنيا يصلح أن يكون أحسن خاتمة لميميتــــــه التي يصف فيها الحمى، و أستغرب من إقحام البيتين الذي يقول عنهما ابن جني : أرجو ألا يكون أراد بذلك أن نومة القبر لا انتباه لها .
تمتع من سهاد أو رقـــــــــــاد
و لا تأمل كرى تحت الرجـام
فأن لثالث الحالين معنـــــــــى
سوى معنى انتباهك و المنــام


ومعلوم أن المتنبي البــدوي الذي تربى في البادية و اكتسب منهــا الصلابـــــة يتحرج أن يبــوح بأســراره من ذلك حبه،و الخوف من الاغتيال، و رغم هذا التحرج في إظهار عاطفته ، إلا أن عاطفة قوية عنده لم يكن يتحــرج في إظهارها ، بل و بالــــغ في إظهارها ليرغم بها أنوف الحاسدين، هذه العاطفة هي المغلاة في  الإعجاب بالنفس التي ساهمت في إضرام نار العداء ضده ، تصل بـــه ذروتها حسب اعتقادي في هذا البيت :
إن أكن معجبا فعجب عجيب
لم يجد فوق نفسه من مزيــد
لم يكن المتنبي يهتم بفرض نفسه بصفته شاعرا، فهذا أمر محسوم عنده و عند غيره منذ صباه ، إنه يفكــر في أمـــر يجد من يدافعه عنه ، و يزاحمه فيه ، لقد تكبد أخطار الغربة و مآسيها، و لابس أعداء لم يجد من صداقتهم بدا من أجل أن يُرسَّم في عالم السياسة الذي ما زال إلى اليوم يغري الكثير من المبدعين  حتى من خلال نافذة البرلمان أو منبر المعارضة  . فإذا كان كل ذي نعمة محسود، فإن المتنبي لم يكن محسودا في ركن منزو في حــــارة مجهولة، لقد كـــــــان محســـــــودا من أناس في هـرم السلطة،وهو لم يكن مسنودا من قبيلة أو عصبية ، و إنما كان تحت رحمة رضا الأمير الممدوح، و لذلك فهو يترقب محاولات تصفيته في كل لحظة ،و يتوقعها في كل ثنية ،و من فرط ترقبه، و الإكثار من تذكره، ولـــع به و استهام بشبحـــه، و أصبح عنده كالصديق الغائب الذي ينتظر، بل أصبح الحبيب المماطـل الذي يتلهف للقائــه و يعتبـــــره الشفاء لكل أدوائه ، و لو لم يكن مقربا إلى نفسه لما تخيله زوجــــا لأخت سيف الدولة الهالكة و هو في مقام تعزيتـــه :
وإذا لـــــم تجد من الناس كفواً
ذاتُ خدرٍ أرادت الموت بعلا
فهل وجد هو كفؤا له بين من يحيط به ؟ و هو القائل
أنا ترب الندى و رب القوافي
سمام العدى و غيظ الحسود
أنـــا في أمة تداركــــــها الله
كصـــــالح في ثمـــــــــــود
و اعتبره السلو الوحيد لحرقة جدته على طول غربته و ابتعاده عنها:
ولم يسلهـا إلا المنايا وإنما
أشد من السقم الذي أذهب السقا
إن المتنبي لا يخاف الموت كما يخافه الجبان لكنه يترقبه و ينتظره في كل لحظة و في كل ثنية ، لقد عـــــاش الغربة و عاين عيونا يدرك أنها تخزّن وراءها الحقد و الحسد ، لقد خالف المثل الذي يقول: إذا كنت في بلد الغربة فلا تنس نصيبك من الذلة ؛ فقد عاش عزيــــزا و هو غريب، بل عاش أعـــز من أصحاب الدار، و أعـــــــز كذلك من أقارب الأمراء و حاشيتهم، لكأني به عاش سابحا في بيته
عش عزيزا أ ومت و أنت كريم *** بين طعن القنا و خفق البنود
إن شعره يطفح بذكر الموت و لكن لا أحد يشتم منه اليأس أو الهلع ، لأنه قد بعث الحياة في هذا المفهوم الجامد المخيف ،إن الموت لم يكن عند المتنبي ذلك العدم الصامت لأنه لم يكن دهــــريا ، كما لم يكن يمثل له النعيم المقيم لأنه لم يكن ناسكا ، و إنما هو بالنسبة إليه خير بديل عن عيشة الذل :
وَعِندَها لَذ طَعمَ المَوتِ شارِبُهُ إِنَّ المَنِيَّةَ عِندَ الذلِّ قِنديدُ
و القنديد هو عصارة قصب السكر إذا جمد، و خمر.
إن الموت عند المتنبي هو العز لأنه يعني التحرر من كل قيد ، التحرر من مغالبة الأسرار ، و التحــــرر من المصانعة ، و الانعتاق من التزلف إلى أمراء يعتقد في قرارة نفسه أنه أفضل منهم، كما يعني له الخلاص من قيد الغربة و البعد عن الأهل و الخلان .
إذن فالدافع إلى ذكر الموت عند أبي العلاء هو الزهد و التنسك و النظرة الفلسفية إلى الدنيا على أنها دار فناء، أما عند المتنبي فهي ترقب الموت بسبب كثرة الأعداء ، فالموت الذي واجهه في معارك عديدة  برباطة جأش يخشى أن يتسلل إليه من حيث لا يحتسب .
إن فلسفة الموت عند شاعر المعرة أوضح من فلسفة المتنبي ، مرجع ذلك أن الأول متفرغ للتأمل الباطني
والتعمق في العلوم و الاستقرار، و الاستقرار ركن ركين في الإبداع سواء للأفراد أو الأمم ، أما الثاني فليــــس له من الوقت، و لا من راحة البال ما يجعل منه شخصا متأملا ، ومع ذلك فله نظرات مركزة متفرقة في طيــــــــات قصائده تصف الموت و تحوم حول مفهومه من عدة زوايا ، و في الغالب الأعـــم يركب موجة الرثاء ليبث هذه الفلسفة .
يقول حين رثي أخت سيف الدولة، وقد توفيت بميافارقين سنة اثنتين وخمسين وثلاثمئة في أواخر قصيدته
تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم
إلا على شجب و الخلف في الشجب
فهو يعتبر الموت الحقيقة الوحيــــــدة التي يتفق عليها الناس و التي من المفروض أن يكون فيها خلاف لكونها من الغيبيات  .
و هو كذلك يقر بالمصير المحتوم لكل إنسان، و يكني عن الموت بالضجعة و ما بصحبها من راحة ، و ما يترتب عليها من انسلاخ عن هذا العالم ، ومن نسيان للعجب و من نسيان الآلام التي كان ن يكابدها في الدنيا :
لا بد للإنسان من ضجعه
لا تقلب المضجع عن جنبــه
ينسى بـها ما كان من عجبـه
وما أذاق الموت من كربـــه
نحن بنو الموتى فما بالنا
نعاف ما لا بد من شربـــــه
كما يقرأنه لا دواء للموت :
وقد فارق الناسُ الأحبة قبلنا
وأعيا دواء الموت كل طبيبِ
و يرى أن من الناس من تستوي حياته و مماته لعدم فائدته في الوجود :
في الناس أمثلة تدور حيوتها كمماتها ومماتها كحيوتهـا
و هو يقرر أن الموت ليس حتما مرتبطا بالحروب ، أو ربما عنى أننا نعد العتاد لمدافعة الموت و لكن لا سبيل إلى ذلك:
نعد المشرفية والعوالي وتقتلنا المنون بلا قتالِ
يقول البرقوقيي في شرحه لديوان المتنبي، ج3، ص140 متعرضا لهذا البيت بأننا ‘‘نعد السيوف والرمـــــــــاح لمنازلة الأعداء ومدافعة الأقران، ولكن المنية تخترم نفوسنا وتقتل من تقتله منا من غير قتال، فلا تغني عنا تلك الأسلحة شيئا‘‘.
و هناك أبيات غاية في الرقة، منها:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
إن هذا البيت يحشد له ملايين المتعاطفين من قرائه . و عندما يقول:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت
لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
فإنه يبرهن عن خبرته في السبل التي تفتك بالأرواح عند طائفة معينة .
و البيت التالي يصف النفسية الرقيقة التي يتمتع بها الشاعر، عندما يرثي جدته ، فيخبر أنه بكي عليها في حياتها فكأنما يحكي حالة طويلة حزينة ، ذاق طعم الثكل فيها قبل أوانه .
بكيت عليها خيفة في حياتها
وذاق كلانا ثكل صاحبه قدما
و هناك العديد من المواطن الأخرى في هذا الموضوع ، و لكنها تبقى من المجازفة الجزم بأنها تجربة لصيقة بحياة الشاعر أم أنها مجرد توظيف فني يتمايه مع مقتضيات النسق البنائي للموضوع .
فيا من تحدثت كثيرا عن الموت ، و حاولت سبر أغواره ، و تملكك هاجسه طول حياتك ،أنعــــــم بالخلود ، و طب نفسا بالتربع على قلوب بني الضاد إلى أن يرث الله الأرض و من عليها .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *