وقد أنهكه الصداع الدائم والدوار، والغثيان الصباحي كل يوم…
كان يشعر بأنّه سجين أبدي… سجين خياراته… جسده… دماغه…
_ “عادل جرجس”، سمع صوت الممرضة تناديه.
هذا هو… أو هل حقاً هو هو!!!
_ “تفضّل، الدكتور عقل بانتظارك”.
حسناً إذن، حان الوقت للحصول على بعض المساعدة. فكّر في نفسه. أو ربما أحصل على بعض الإجابات على الأقل.
طرق على الباب، ثمّ أمسك المقبض وأداره عكس عقارب الساعة، وفتح الباب بهدوء.
في داخل الغرفة كان الطبيب النفسي يجلس خلف طاولته وفوقها توضّع حاسوبه الشخصي. أمامه لافتة تعريفية تحمل اسمه: “د. عقل سليم: طبيب في الأمراض النفسية والاضطرابات العقلية”.
ودون أن يرفع الطبيب بصره عن شاشة كومبيوتره وينظر إليه سأله: “أستاذ نبيــ… عادل، صحيح؟”
“نعم يا دكتور، هذا أنا”، قال المريض مقترباً بأدب من المكتب، ليجلس على الكرسي القريب منه.
“حسناً إذن، كيف أساعدك؟”.
“في الحقيقة أنا… آآآآ… مبدئياً، كنت أشعر بالسوء مؤخراً. صحتي تسوء فعلاً. لقد وضعتُ هذا الروتين لنفسي: كما تعلم، تمارين رياضية… فن… عَمَل… نوم… وجبات طعام_ ولكن حتى هذه الأمور لم تعد نافعة. مازلت أشعر برغبة عارمة في البكاء والنحيب طوال الوقت، أشعر بأنني…. لستُ بخير يا دكتور”.
نزع الطبيب نظارته من أمام عينيه. رمق عادل بنظرة جادّة ولكن عطوفة في نفس الوقت.
_”وهل تناولت مضادات الاكتئاب؟”
_”بالطبع، لكنّها لم تنفعني أبداً… جرّبتها كلها تقريباً، والنتيجة كما هي”.
_”وهل طرأت على حياتك أيّة تغييرات كبرى أو رئيسية مؤخّراً؟”.
_”كلا. لا شيء مما أستطيع أن أتذكّره… لا يوجب سبب معقول يجعلني أشعر بما أنا شاعرٌ فيه الآن”.
_”وماذا عن المشروبات الكحولية، أو العقاقير؟ هل تتعاطى أياً منها؟”.
_”حسناً، نعم بالتأكيد. أقصد أنني كنتُ أتعاطاها من حينٍ لآخر. وكانت تساعدني بعض الشيء، ولفترة معينة. لكنها لم تعد تنفع أبداً”.
_”حسناً فهمت… إذن أنت لديك روتين محدّد، وجرّبتَ جميع أصناف المهدّئات ومضادات الاكتئاب، والآن انت لا تتعاطى أيّة مخدرات أو تعاقر الخمر، ولا يوجد أي سبب منطقي ومعقول يجعلك تشعر بما أنتَ شاعرٌ به الآن، هل هذا صحيح؟”.
أومأ عادل موافقاً.
_”هل سبق وفكّرتَ في قتل نفسك؟”.
_”كلا… أقصد، أحياناً كنتُ أفكّر… سحقاً… لا أعرف. لكي ليس طوال الوقت بأية حال”.
_”ما أقصده يا صديقي: هل فكّرتَ في قتل نفسك؟ كخيار مُتاح؟”.
_”ماذا؟… ما الذي تقصده حقاً؟”.
_”حسناً، كما سبق وقلتُ لك: أنتَ قد جرّبتَ كل شيء آخر، وقد يكون الانتحار رهانك الوحيد وخيارك الأوحد في هذه اللحظة. سأكتب لك إحالة إلى اللجان المسؤولة عن الموت الرحيم إن أردت ذلك؟”.
_”انتظر، ماذا؟… كلا. ما الذي تقوله بحق الجحيم؟… لماذا تخبرني بأشياء كهذه؟”.
_”انظر إلى الأمر من وجهة نظري يا عادل: أنت قلتَ بعظمة لسانك أنه لا يوجد أي سبب منطقي أو معقول يجعلك تشعر بما تشعر به الآن!… وقلتَ أنّك قد جرّبت كل شيء _من المهدئات إلى مضادات الاكتئاب، وحتى العقاقير والكحول لفترة_ الأمر واضحٌ تماماً _من ناحية صحتك العقلية_ قدراتك العقلية تتدهور، وأنت بِتَّ على حافة الجنون. أنا آسفٌ حقاً من أجلك ياصديقي، لكن هذه هي حقيقة الأمر. فالعلاج السلوكي الإراكي لحالتك هذه سيكون أشبه باستخدام دلو لإنقاذ سفينة غارقة. هذا غير ممكن. لذلك ما الفائدة من تأخير ما هو محتوم؟”.
_”لكنك طبيب بحق السماء! مهمتك مساعدة الناس وعلاجهم!”.
_”نعم، هذا صحيح، أنا طبيب”، قال الطبيب بضجر، “ألا ترى؟ أودّ أن أسألك: ما الحياة إذا لم تكن سعياً وراء السعادة؟ وإذا انغلقت على نفسك دوماً وأقصيتها عن مباهج الحياة، إذن ما المغزى من الاستمرار فيها؟ أتحبّ فعلاً تكرار هذا الحديث من جديد خلال السنوات الخمسة أو السبعة أو العشرة التالية؟ أستطيع القول أنّك تشبه سيزيف إلى حدٍ كبير، أتعرف من هو سيزيف؟ إنّه ذاك العنيد الذي حُكِمَ عليه تكرار دحرجته للصخرة إلى الأبد. أتريد أن تحمل أعباءك إلى الأبد؟!!!”.
_”ماهذا يا رجل! بالكاد فهمتُ ربع ما قلته للتو. ألا يوجد دواء ما، عقار ما؟ طريقة علاجية جديدة ما؟”.
_”نعم، على الأغلب… وستجرّبها لبعض الوقت، وستشعر ببعض التحسّن، لبعض الوقت، لكنّ جسمك سيكتسب مقاومة للدواء أو للعلاج الجديد، أو قد يطراً شيء جديد في حياتك ليدمّر كل شيء أنجزته، الأمر الذي سيعود بك إلى نقطة البداية. ألَم تسأم بعد من سجلّ تخطّياتك التي أنجزتها في حياتك؟ أنت عصفور جريح، أنت عبارة عن رقائق تافهة وجافة، أنت الجزء الأعلى والوضيع من الرغيف… أفضل ما يمكنك أن تتمناه فُتات ضئيلة وحقيرة من السعادة، ربما، في محيط أبدي لانهائي من الكآبة”.
_”سحقاً لك دكتور. حياتي لها قيمة”.
_”نعم بالتأكيد، لكن ما القيمة إذا لم نكن ندركها؟ يمكنني أن أقول أنّ قلمي هذا يساوي مليون ليرة، لكن لا أحد منا يمكن أن يصدّق ذلك، لذا هذا غير صحيح! أنت عنين عقلياً… مخصي وجودياً… عاجزٌ عن إدراك القيمة في ذاتك، لذا: حياتك لا قيمة لها”.
انتصب عادل من مقعده غاضباً والشّرَرُ يتطاير من عينيه. لقد نال كفايته من كلام الطبيب. وقال: “أتدري ماذا؟ أرى أنّك أنت المريض هنا… أنت الكسير والجريح والمجنون الذي لا يصلح لشيء. بإمكانك الاحتفاظ بأحكامك لنفسك. سأستمرّ في حياتي، نكايةً بك وبأحكامك. سأحيا رغماً عنك، وستكون لحياتي قيمة رغماً عن أنفك!”.
استدار عادل بغضب واتجه بسعة عاصفة نحو الباب، خرج من غرفة الطبيب وصفق الباب خلفه.