البطريرك في فصله الخامس

*خيري منصور

في روايته «خريف البطريرك» رسم غابرييل ماركيز مشاهد لغروب القوة وما تبقى في مواقدها من رماد، بحيث بدت أطلال قصر البطريرك، وما تعج به طرقاته الرخامية من جثث الحيوانات المتعفّنة على النقيض من الربيع الغارب الذي كان يرفل فيه، وحين تساءل عن موقع السلطة الغاشمة في الأجواء المشبعة برائحة البخور والعطر والمناديل البيضاء، كان كمن يبحث عن غراب في سحابة من الطيور.
ولأن ماركيز عاش ليروي، كما يقول في مذكراته، بعكس من يروون كي يعيشوا، فقد أتاح لقارئه أن يكون شريكا وليس مجرد صدى، فالخريف يستدعي إلى الذاكرة الفصول الأربعة، وفي قصر البطريرك وما يفوح فيه من رائحة العفن ثمة فصل خامس تشتبك فيه الفصول كلها، وهو أشبه بذلك الفصل الذي نفي إليه أوفيد شاعر الهوى وصاحب مسخ الكائنات، حيث لا حدود للإيقاعات في الطبيعة وعناق بين البحر والصحراء، بدون أن يتخلى أحدهما عن نفسه.
في الفصل الخامس، سواء كان من حياة ديكتاتور تملكته أوهام الخلود وديمومة الربيع، يكون كل ما حوله مجرد أوراق صفراء في مهب الزمن، ويشيخ وهو آخر من يعلم ثم يموت محروما مما يسميه البير كامو وعي المصير، أو نظرة الوداع للكون التي تعقبها إغفاءة أبدية، ولأن الأشياء تستدعي نقائضها وليس ما يماثلها فقط، فإن الخريف قدر تعلقه بأباطرة وسلطة زمنية، يصبح مجرد دليل إلى ما كان قبله، فالأوراق لا تسقط إلا إذا كانت عالقة بالشجرة وخضراء أيضا، والحيوانات النافقة في الحدائق الجافة الصفراء كانت ذات ربيع بطريركي مدللة، ويعلفها صاحبها بما ليس في متناول البشر، فالأحياء وحدهم الذين يموتون، وتلك هي المفارقة الوجودية في عالم تتلاقح فيه الأضداد لتفرز أخيرا المشهد السيريالي، حيث يستطيل المهد ببطء ليصبح تابوتا، وتعجز الشجرة العجوزعن مقاومة جاذبية الأرض فتسقط مضرجة ببذورها التي قد تصبح غابة، فالقيامة من صميم وصلب الجدلية الخالدة التي تحذف الفارق بين الحياة والموت وبين الغسق والشفق.
في فصل البطريرك الخامس تتكثف الفصول الأربعة، ثم تتقطر في نهايات لم يبلغها خيال ديكتاتور أقنع نفسه أو وجد من يهمس في أذنه أن الشمس تشرق من أجله فقط، لهذا كانت بعض الشعوب البدائية تقتل عددا من الناس، وهم على الأغلب من الفقراء حين يموت السيد، كي لا يستوحش في مثواه ويجد من يخدمه، لأنه عاجز عن أداء أي فعل غير التلذذ بنرجسيته، وما من بطريرك تصور في ربيعه أنه على موعد مع أطلال وخرائب وكائنات لا تفرز غير رائحة الموت، لهذا فهو يعمل لدنياه وكأنه يعيش أبدا، أما الموت فهو من نصيب الآخرين الذين خلقوا، كما يتوهم، من أجل تدليك أنانيته وساديته.
وثمة قرابة ما بين الإمبراطور كاليجولا وبطريرك ماركيز، تتخطى جنون العظمة إلى أوهام الاستثناء من المصير البشري، وكاليجولا أراد ذات ليلة مقمرة أن يقطف القمر كبرتقالة من نافذة قصره، وأحال قائد جيشه إلى أمثولة في العبث الجنسي والاسترقاق، ولم يخطر ببال الاثنين ما خطر ببال يوليوس قصر الذي طلب من أحد حراسه أن يهمس في أذنه قائلا له بأنه من البشر الفانين، خصوصا إذا استخفه الطرب وأغرقه التصفيق وانحناء العبيد في قعر ذاته بعيدا عن العالم وكل ما فيه.
كتب الكثير عن الديكتاتور أو الزعيم المصاب بادعاء المعصومية والاستثناء، وتراوحت الكتابات في هذا السياق بين الواقعي والمتخيل، وعلى سبيل المثال كانت تأملات سارتر في طفولة زعيم من خلال لوسيان مدخلا نموذجيا لاستقراء ظاهرة مسكوت عنها في تاريخ الاستبداد.
والبطريرك الذي انقطع في ربيعه عن البشر باعتبارهم من صنف أدنى، أصبح في خريفه هو الأدنى، لأن كل ما كان جميلا أصبح قبيحا وتحولت رائحة البخور والعطور في الممرات الرخامية إلى عطن تفرزه الجيف.
إن شهوة البطريرك لاستمراء التلذذ السادي باستعباد البشر، تشبه الحفرة التي كلما أخذنا من ترابها اتسعت وتعمقت، أو كسمكة القرش التي يسيل لعابها على المزيد من رائحة الدماء حتى لو كانت متخمة. وماركيز ابن تلك القارة التي شهدت ديكتاتوريات وأنظمة عسكرية وجمهوريات موز وجوافة وكاكاو، التقط بحصافة ما هو مترسب في الذاكرة ولم تكن مزاوجته بين السحري والواقعي مجرد بدعة روائية هدفها اجتذاب القراء في الغرب سياحيا وليس ثقافــيا، وكان أمام الروائي العربي الذي شهد منذ سبعة عقود على الأقل، أنماطا متوحشة من الاستبداد والسادية والاستعباد أن يروي كل ما رأى ليعيش وليس أن يعيش ليصمت عن كل ما رأى.
والبطريرك العربي، سواء كان أبا على غرار احمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، أو جنرالا أو زعيما لحزب لم تكتب سيرته بعد، بدءا من ربيعه حتى الفصل الخامس الذي نعيش في فوضى إيقاعاته.
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *