*عبده وازن
لعل أجمل تحية توجه إلى الشاعر المكسيكي الكبير اوكتافيو باث في الذكرى العشرين لرحيله (أبريل 1998) هي استعادة تجربة شعرية فريدة له حملها ديوان مشترك – ما برح مجهولاً عربياً – رغم كل الترجمات العربية التي حظي بها شعره. هذا الديوان الذي ترجم إلى الفرنسية اختار له عنواناً تشكليلياً هو «صور وتصاوير»، وضم اثنتي عشرة قصيدة له، واثنتي عشرة لوحة أنجزتها زوجته الرسامة ماري جوزيه باث.
اللوحات في هذا الديوان لم تسع إلى تزيين القصائد ولا القصائد سعت إلى مرافقة اللوحات ظاهرا، بل بدت القصائد واللوحات تتحاور وتتقابل وتتداخل «علاماتها» عبر ما يسميه الشاعر الفرنسي الكبير إيف بونفوا في تقديمه للديوان «الرغبة في الاتحاد»، لكن الاتحاد هنا بين الشعر والرسم لن ينتهي إلى حال من الانصهار التام. فاللوحة تظل لوحة والقصيدة تظل قصيدة. وإن بدت اللوحة سابقة كصنيع فني والقصيدة لاحقة فإن الشعر لم يكن ليفسر الرسم حتى وان أمعن في استيحائه أو انطلق منه ليبني عالمه اللغوي والدلالي.
في هذا المعنى يظل أوكتافيو باث هو نفسه أوكتافيو باث. واللوحة تظل لوحة زوجته الرسامة التي اكتشفت دعوتها الفنية مصادفة فراحت ترسم بصمت بعيدا من ضوضاء العالم. بل هي – كما يعبر باث – راحت تصغي إلى النداء الباطني الذي اندلع في دخيلتها ذات يوم، ولجأت إلى الرسم وفن الكولاج لتعبر عما يساورها أو يعتريها من أحوال ورؤى
لعل طرافة هذا الديوان الذي يحمل عنوان «صور وتصاوير» في كونه يفضح ناحية من نواحي العالم الشعري الرحب الذي رسخه أوكتافيو باث، وأقصد علاقة القصيدة لديه بالرسم أو الرؤية التشكيلية التي يضمرها شعره. وثقافته التشكيلية ساعدته كثيرا على اختراق المأزق الشعري وهذبت عينه الداخلية وفتحت أفقه اللغوي على معنى الصورة.
ولا تنفصل هذه الثقافة عن ثقافته الشاملة التي تمثل جزءاً رئيساً من تجربته الشعرية. فالتجربة الثقافية هي الوجه الآخر الذي يكمن وراء وجه الشاعر أو وجه الشعر. وقد يكون الفن التشكيلي هاجساً من هواجس باث التي كثيرا ما ساورته تماما مثل الأروسية والصوفية وسواهما.
يعرف الشاعر، كما يشير في نصه الذي كتبه عن هذه التجربة المشتركة، شاهداً طوال خمسة عشر عاماً على عمل زوجته ماري جوزي باث «السري والشغوف». كان يحدق في اللوحات كما لو كان يقرأها، ويغرق في عالمها الغريب، الواقعي والحلمي. وتحت وطأة تلك «الرفقة»، أو «الصداقة» الفنية راح يكتب قصائده انطلاقا منها. بل هو استطاع أن «يضع» اثنتي عشرة قصيدة مستوحياً اثنتي عشرة لوحة. غير أن من يقرأ القصائد ويشاهد اللوحات يتبدى له بوضوح كم أن القصيدة تضاهي اللوحة إبداعاً وسحراً. فهي لا تكرر اللوحة ولا «تعلق» عليها كما يقال ولا تنسج لغتها من تفاصيلها حتى وان ارتكزت اليها أو استوحتها مباشرة. اللوحة تصدم العين ثم المخيلة، أما القصيدة فتنقل العين والمخيلة إلى عالم شعري هو أولاً وآخرا عالم أوكتافيو باث. وإن انطلق باث – مثلاً – من بعض التفاصيل الملموسة في اللوحات أو بعض الأشياء المادية الواضحة فهو لا يلبث أن يشعرنها جاعلاً اياها مجازات أو كنايات شعرية بامتياز. مخدتا الساتان في إحدى اللوحات تصبحان في القصيدة «القلب والذاكرة». الإبر في اللوحة نفسها تصبح بدورها «آلاما ورغبات وأفراحا ووداعات…». أما الجدار الذي يحمل في لوحة أخرى بعض الأختام القديمة فيصبح «جدارا موشوما بالعلامات»، مثل «جسد الليل المنجم». ويضحي كل ختم عبر مخيلة الشاعر حرفا وكل حرف نافذة وكل نافذة نظرة. ولعل «العيون» التي تنبثق من ظلام إحدى اللوحات ليست بحسب الشاعر عيونا تنظر، بل هي «عيون تبتدع ما ننظر اليه». أما اللوحة التي سمتها الرسامة «علبة الغيم»، فهي سرعان ما فتحت أجنحتها عبر القصيدة وطارت.
نوافل شعرية
لا يعمد الشاعر إلى تفسير اللوحات شعرياً في قصائده بل هو يعيد إبداعها شعرياً. المشهد المركب بصريا ينقلب مشهدا شعريا عماده المجازات والصور. والأشياء اليومية أو النوافل والبقايا التي «يخلفها وراءه كل يوم مد الزمن وجزره»، تصبح «أشياء» شعرية ومجازية. وإذ بدا باث شاعراً في قصائده التي رافقت اللوحات فهو يبدو ناقداً في النص الذي كتبه بمثابة تقديم للتجربة وحمل عنوان «زبد الأيام». وفي هذا النص – المقدمة يمعن في تحليل فن الكولاج الذي قامت عليه تجربة الرسامة. وهو في نظره فن «الملاءمة بين أشياء تختلف ظاهرا». بل هو «ثمرة غريبة للعمل واللعب معا»، لكنهما العمل واللعب اللذان لا يختلفان في جوهرهما: العمل الذي يرسخ إرادة الإبداع واللعب الذي يجسد الرغبة والتخيل والسخرية… أما اللوحات فهي كما يعبر «كولاجات مصنوعة من مواد هشة تمنحنا اياها الصدفة والرغبة». ولعل بعض التصاوير هي «تبلّرات مواد نصف شفافة تطفو في الذاكرة وبعضها تكثفات للضوء والريح والفكر». في قصيدة «سكينة» التي يستوحيها من لوحة شبه هندسية تفيض صمتا وهدوءا يقول:
«قمر، ساعة رملية: الليل يفرغ/ الوقت يأخذ في الإشراق».
وفي قصيدة اخرى عنوانها «هنا» يستنبط معنى المكان الذي هو اللامكان في لوحة مبنية بصريا في ما يشبه المطلق الزمني قائلا:
«خطاي في هذا الشارع/ ترن/ في شارع آخر/ حيثما أسمع خطاي/ تمضي في هذا الشارع/ حيثما/ الضبابة وحدها حقيقية».
لا تختلف مقاربة باث النقدية لتجربة زوجته الرسامة عن مقاربة الشاعر الفرنسي إيف بونفوا الذي خص الكتاب بمقدمة، فهي عبارة عن نص تأملي في علاقة فن الكولاج بالفن الشعري من خلال هاتين التجربتين اللتين يقدرهما.
وعن العلاقة بينهما يكتب بونفوا قائلاً: «لعل الرابط بين أوكتافيو وماري جوزيه لا يقوم هنا إلا بالانفتاح على المزيد من الوعي بما يتلاعب في العمل على العلامات، وهو عمل يتبدل من حقل إلى آخر، ولكنه يستضاء في مقامات التقارب». ومهما كتب عن العلاقة التي تجمع بين اللوحات والقصائد والتي – كما يعبر بونفوا أيضا – تجعل الكلمات مشحونة بـ «الحضور التام للأشياء»، فإن قراءتهما معاً أو مشاهدتهما معاً هي التي تضيء أسرار تلك العلاقة.
فمُكِ.. ينبوع
الحقائق النديّة
1-
وجهك
يد – يد من هي؟ –
زرقاء الجلد، حمراء الأظافر
تمسك ملوانة.
أريد أن أصبح وجهاً، تقول الملوانة.
اليد تجعلها مرآة،
في المرآة تبرز العينان،
العينان تمسيان أشجارا، غيوما وروابي.
بين صفين من التلاميح والإشارات
يتعرج درب ضيق
عبر هذا الدرب أصل إلى فمك،
ينبوع الحقائق الندية.
2-
باب
من هناك وراء هذا الباب؟
لا تقرع، لا تسأل، لن يجيب أحد.
لا شيء يقدر أن يفتحه،
لا مخرز الفضول،
لا مفتاح العقل،
ولا مطرقة اللهفة.
لا تتكلم، لا تسأل،
اقترب، أَدْنِ أذنك:
ألا تسمع لهاثا؟
هناك، في الناحية الأخرى،
أحد مثلك يسأل:
من هناك، وراء هذا الباب؟
3-
لغز
نولد من سؤال
كل عمل من أعمالنا
سؤال،
أعمارنا غابة من الأسئلة،
أنت سؤال وأنا سؤال آخر،
البارئ يد ترسم، من غير كلل،
عوالم في صيغة أسئلة.
الحضور التام للأشياء
لعل الرابط بين أوكتافيو وماري جوزيه لا يقوم هنا إلا بالانفتاح على المزيد من الوعي بما يتلاعب في العمل على العلامات، وهو عمل يتبدل من حقل إلى آخر ولكنه يستضاء في مقامات التقارب. ومهما كتب عن العلاقة التي تجمع بين اللوحات والقصائد والتي تجعل الكلمات مشحونة بـ «الحضور التام للأشياء»، فإن قراءتهما معاً أو مشاهدتهما معاً هي التي تضيء أسرار تلك العلاقة.
بونفوا
___________
*الاتحاد الثقافي
مرتبط