تيشاني دوشي.. المكان الآخر

*حوار وتقديم وترجمة: تحسين الخطيب

تيشاني دوشي (Tishani Doshi) شاعرة وروائية وراقصة بريطانية/هنديّة. ولدت بمدراس في التاسع من ديسمبر 1975، لأم ويلزيّة وأب هنديّ. نالت جائزة «إريك غريغوري» في العام 2001، التي تمنحها «رابطة الكتاب» إلى كاتب لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد.

فاز كتابها الشعري الأول «أقاليم الجسد» بجائزة فوروارد البريطانية العريقة لأفضل مجموعة شعريّة أولى في العام 2006. ترشحت روايتها الأولى «الباحثون عن المتعة»، ضمن القائمة الطويلة، لجائزة أورانج في العام 2011، وجائزة دبلن العالمية في العام 2012، وضمن القائمة القصيرة لجائزة القَصّ الهندوسي في العام 2010. من كتبها الأخرى «المواطن الداعر: قصائد وحكايات ومقالات» (2015)، و»الصبايا يخرجن من الغابة» (2017). تعيش حاليا في منزل على شاطئ بين قريتين، في تاميل نادو، مع زوجها وثلاثة من الكلاب.

الجديد: لست شاعرة فحسب، وإنما راقصة أيضا. ألا تعتقدين بأنّ الشعر نوع من الرقص؟ ما الذي يأخذه فنّ الكلمات— على حدّ قول زادي سميث— من الفنّ الذي لا يحتاج إلى كلام البتّة؟

تيشاني دوشي: أعتقد بأنّ القاسم المشترك بين الشعر والرقص يكمن في صلتهما العميقة بالزمن. فثمّة توقيت داخليّ، يصعب وصفه، ولكنّه موجود لا محالة؛ يوجد هذا “الوقت” حيث تكمن الكلمات والحركة والإيقاع والسكون. لقد كنت شاعرة قبل أن أصبح راقصة، ولكنّ الرقص— يا للغرابة!— قد مارس التأثير الأعظم عليّ. تعلّمتُ من الرّقص الانضباط والتمهُّل والرّعب. وتعرّفت، عبر الرّقص، على جسدي؛ الذي أشعر بأنه ضروريّ بالنسبة إلى الشعر أيضا، ولكنني أعتقد بأنني لو لم أكن شاعرة، فلربّما لم يخطر ببالي أن أصبح راقصة وأنا في السادسة والعشرين. لذا، فالمسألة حوار متواصل.

الجديد: بأيّ معنى تعتقدين أنّ “معرفتك لجسدك، عبر الرقص” قد كان ضروريّا بالنسبة إلى الشعر، على حّد قولك؟

تيشاني دوشي: ثمّة شْلُوْكَا (shloka) (دور شعريّ من أربعة أبيات) يدرّسونها في البهاراتاناتيام (الرقص الهندي الكلاسيكي) حيث جسدك هو كونك الذي يحتوي في داخله على أنهار وجبال ومجرّات، وبأنك إذا استطعت التحكم بهذه العناصر في داخلك، فسوف تكون قادرا، حينئذ، على ربط نفسك بالكون الأعظم. إنها فكرة رائعة من الناحية التصوّرية. ربط الأصغر بالكليّ الجامع. وهذا يعني بأنّ كلّ ما سوف تحتاجه موجود في داخلك. ولذلك، فإنّ الجسد مغامرة، إنّه موطن الرغبة، إنه القوّة، إنه الجسد المكبوح واللّامعصوم، إنه تاريخ وجغرافيا. يسمح لك الجسد بأن تتناسل. ومن خلال تجربتي، وبعد خمس عشرة سنة من التعامل بحميميّة مع جسدي، في حالاته الأسمى، فإن الجسد يستطيع أن يتجاوز الجنوسة، وينتابه شعور بأنه قد أصبح، في الواقع، شيئا بدائيا وسرمديّا. أن تكون وحيدا، في هذا الحال، هو شيء يشبه حالي وأنا أكتب القصيدة. لقد كانت معرفتي لجسدي، على نحو أكثر حميمية، طريقة للاقتراب من ذلك الحال الذي تبدأ منه القصيدة.

الجديد: أنت “راقصة بالصّدفة”! أصبحت كذلك، بعد لقائك العابر مع تشاندراليخا، الراقصة الأسطورة التي ركّزت في سنواتها الأخيرة على دمج الرقص مع عناصر أخرى، كالفنون القتالية والأدائيّة. هلّا ذكرت المزيد عن هذا “اللقاء العابر؟” وكيف يمكن للرقص “الكلاسيكي” أن يستفيد من “عناصر” الفنون المابعد حداثية تلك؟

تيشاني دوشي: أنا راقصة بالصدفة. كنت في السادسة والعشرين حين قابلت تشاندراليخا في أثناء قيامي ببعض الرياضات الجسدية، كاليوغا، ولكنني لم أكن قد تمرّنت على الرقص الكلاسيكيّ، في ذلك الوقت، ولم أعوّل كثيرا على أن أصبح راقصة. بيد أنّ مهمتي الصحافية الأولى قادتني— يا للغرابة!— إلى تشاندراليخا وشِعرها، فكان الشِّعر آصرتنا الأولى، وليس الرقص. لقد طلبت منّي في الليلة التي قابلتها فيها، أن أقوم ببعض الحركات في غرفة معيشتها— كتمارين انحناء الظهر، إلخ— ثم سألتني إن كنت راغبة في أن أعمل معها، فوافقت على الفور. حينئذ، تغيّرت حياتي. أعتقد، في الحقيقة، بأنّ تشاندراليخا، فضلا عن دمجها للفنون المابعد حداثيّة في الرقص، كانت أكثر اهتماما بالعودة إلى الجذور، إلى الرقص الماقبل تقليدي، كما هو، في حدّ ذاته، لقد كانت تقرأ النّاتياشاسترا، النص السنسكريتي البديع حول الفنون الأدائيّة، حيث ثمة تداخل شديد بين الطرائق جميعها. كانت قد بدأت، في ذلك الوقت، بدمج اليوغا والكالاريبّايات (أحد الفنون القتالية الهنديّة)— وكلاهما فنّان ممعنان في القدم— في البهاراتاناتيام. لقد أذهلت المجتمع المعنيّ بالرقص، حين فعلت ذلك، وأبهجته. رجال بلحى على خشبة المسرح! كانت الحكايات تُروَى، والدهشة تتحقق. كان الجسد هو القوّة البدئية، بكل جبروته وسطوته. لقد نزعت ما سمّته “الابتسامات التجميليّة” عن البهاراتاناتيام، وأدخلت صرامة اليوغا والفنون القتالية، فأوجدت أسلوبها التعبيريّ الخاصّ الذي كان، بالنسبة إليّ، أسلوبا حديثا وقديما، بصورة مدهشة، على حدّ السواء.

الجديد: إذن، فالمسألة كلّها مرتبطة “بالجسد، بوصفه قوّة بدئيّة”— أنت الراقصة الأولى في فرقة تدعى “شاريرا” (أي: الجسد، في اللغة السنسكريتيّة)، وعنوان أوّل كتبك الشعريّة (الذي فاز بجائزة فوروارد البريطانية المرموقة في العام 2006) هو “أقاليم الجسد”! نعرف أنّ الجسد البشريّ يتكوّن، في الهندوسيّة، من ثلاثة أجساد “الكارانا شاريرا (الجسد الطّارئ/العابر)، والسوكشما شاريرا (الجسد الخفيّ/الهاجع)، والكاريا شاريرا (الجسد الماديّ/المحسوس)”. ترتبط هذه الأجساد الثلاثة بعضها مع بعض، فلا يستطيع المرء العمل على أكمل وجه، إلّا حين تكون هذه الثلاثة في تناغم تام! نشهد في “أقاليم الجسد”، هذا البحث عن “الجسد الآخر”، لدرجة أنّنا “نبدّد أنفسنا/ كُرمى له”. . حين “ينزلق الجسد خارج الجسد”، وعميقا في داخله، كما لو أنّ القصيدة تصبح، في حدّ ذاتها، حياة “جديدة”، أو بذرة (كارانا شاريرا) لـِ”لاتناهي الجسد/العروق، والدم؟”.

تيشاني دوشي: نعم، أنت على حق. الجسد هاجس جوهري، ولقد حاولت عبر دواويني الشعرية الثلاثة، أن أفهم طبقات الجسد الثلاث، هذه، وأن أجابهها. كنت، حين شرعت في كتابة “أقاليم الجسد”، قد بدأت في تعلّم الرقص، وكنت أخضع لحالة من الصرامة الجسدية التي تحتّم على الجسد أن يجد طريقه إلى القصائد على نحو مركزيّ تماما— الجسد بوصفه استعارة للجغرافيا، والرغبة، والخوف، والمرض، والغلبَة. وفي الكتاب الثاني، “كل شيء يبدأ في مكان آخر”، كان الجسد لا يزال في البؤرة، ولكنّ الاستكشافات هي ضدّ محور المكان/الزمان، على نحو أكثر— أن تتعامل مع الجسد المقسّم، في ضوء المعنى الذي تحدث عنه نيرودا، جامعا جميع أجزائه المفقودة، حين يرجع إلى مستقرّه ومثواه. وأخيرا، في الكتاب الجديد “الصبايا يخرجن من الغابة”، فإنّ الجسد شرس، مرّة أخرى، مشّوه ولكنه يدبّ عائدا. سألني أحد الأصدقاء، ممّن شاهد أعمالي الراقصة، وأدرك بأنّها تحتفي بالجسد الذي لا يموت، عمّا إذا كانت القصائد نوعا من قصائد ضدّ الجسد، لأنّ بعضها قد بدا في صراع مع بعض، على نحو ما، ولكنّني أعتقد، في الحقيقة، بأنني قد كنت أشتغل بالجسد، طيلة خمس عشرة سنة، كامتداد لذلك العمل، زاعمة بأنّ الجسد قادر على التجدّد والتزوّد بالطاقات، ولكنّ هذا العمل يحاول، في الوقت ذاته، أن يضع كل ذلك في داخل السياق الأوسع للأخبار والأحداث: اغتصاب النساء وتعنيفهنّ، ولانهائية حدوث ذلك. تتحاور هذه الأشياء بعضها مع بعض، عبر الرقص، ومن خلال القصائد، فثمة أمل، عبر ذلك كلّه لإيجاد بعض التوازن وبعض التناغم.

الجديد: ذكرت بأنك قد حاولت في كتابك الشعري الثاني، التعامل مع “الجسد المقسّم”، وكيف حاولت جمع “أجزائه المفقودة أن يرجع إلى مستقرّه ومثواه.. في ضوء المعنى الذي تحدث عنه بابلو نيرودا في قصائده!” لقد أخبرت شهناز سيغانبوريا (في المقابلة التي نشرتها مجلة “فوغ”، عدد يناير 2017) بأنّ نيرودا كان أول شاعر قرأته، وبأنه الذي قادك إلى طريق الشعر، من خلال تلك النسخة العتيقة من “قصائده المختاره” التي منحتها لك خالتك حين كنت في السادسة عشرة؛ ولكنّك تحدّثت في تلك المقابلة عن الـ”تباين الكبير في قصائد نيرودا!” هلّا توسعت في الحديث عن هذه “الرحلة” لصبيّة تقرأ شاعر الحب والرغبة الأعظم، لأول مرة؟ وماذا تقصدين حين أشرت إلى “التباين الكبير” في قصائد نيرودا؟

تيشاني دوشي: إنّ نيرودا من طينة الشعراء الذين يجعلونك راغبا في أن تصبح شاعرا. تقرأه في مرحلة معينة من حياتك، فيغمرك فيض الجمال. لا أعرف، بالضّبط، ولكنّ الأمر نفع معي. لقد كان نيرودا ذا تأثير عظيم عليّ، وأذكر بأنني قد قرأت مقالته ويومياته أيضا، فأدركت إحساسه بالوطن والمنفى. الحنين إلى البحر، جذور تشيلي، في الوقت الذي كان لا يزال يشعر فيه بالفضول (المعرفي) تجاه العوالم التي كان يرتحل إليها. بيد أنني أجد “تباينا” في أعماله، ربما لأنه كتب كثيرا جدا، دون الكثير من التنقيح والتجويد، وحين ينهمك المرء في قراءة مجموعاته الشعرية، يجد بأن ثمة قصائد ضعيفة، على نحو ما، ومتسرّعة. بديعة قصائد الحُبّ (التي كتبها)، ولكنني أشعر بأنّ بعض قصائده السياسية لا تصلح إلّا لزمانها.  ولكنه، كشاعر ذي أهمية في حياتي، يظل شاعرا محوريّا، ولا أكف عن العودة إلى أشعاره.

الجديد: ولدتِ في مدراس لأم ويلزية وأب هنديّ، من غوجارات. درست إدارة الأعمال في “كوين كوليدج”، بشمال كارولاينا، ثم حصلت على شهادة الماجستير في الكتابة من جامعة جون هوبكنز في بالتيمور. ثم انتقلت إلى لندن في العام 1999، وعملت مساعدة في دائرة الإعلانات بمجلة “هاربرز آند كوين”. وفي العام 2001، عدت إلى الهند، حيث تعيشين الآن في قرية قرب البحر بتاميل نادو. أخبرينا، أوّلا، عن تأثير هذه الخلفية ذات التعدّد الإثنيّ على أعمالك؟ ثم، لماذا اخترت الكتابة بالإنكليزية وليس بلغة والدك؟ وهل تعتقدين من جهة ثالثة وعلى الرغم من الأماكن المختلفة التي عشت فيها، بأنّ الهند (وليس إنكلترا أو الولايات المتحدة على سبيل المثال) كانت “موطنك” (ولا تزال)؟ أم أن مشاعرك “مختلطة”… وما الهند والأماكن “الأخرى” سوى أماكن متحوّلة/متغيّرة للوطن والمنفى؟ ثم، أخيرا، لماذا اخترت العيش في قرية قرب البحر؟ هل حدث ذلك مصادفة أم بتأثير من “حنين نيرودا إلى البحر”، كما أشرت في إجابتك السابقة؟

تيشاني دوشي: إن سؤال اللّسان/اللغة سؤال مثير للاهتمام. المسألة في الهند مرتبطة بالأصالة؛ فلقد كانت، بالنسبة إلى أجيال من الكتاب الهنود الذين اختاروا الكتابة بالإنكليزية، مسألة تحد ومجابهة: لماذا تتبنّى لسان/لغة المُستعمِر، ولماذا تُقوِّدُ لجمهور غربيّ، فلن تكون حكايتك، بالطبع، حكاية هندية خالصة؟ ولكنني أعتقد بأننا، بعد سبعين سنة على الاستقلال، قد تجاوزنا ذلك كلّه، لقد قُهرت الإمبراطوريّة. ليست اللغات أشياء ثابتة، جامدة، ولقد تبنّينا الإنكليزية في الهند لغة من اللغات التي ننطق بها، ولكنّ سؤال اللغة/اللسان مرتبط بخلفيّتي، المتعدّدة إثنيّا. لغة أمي ويلزيّة، إنها اللغة التي كبرت وهي تتكلّم بها، ولكنها لم تعلّمها إلى أطفالها البتّة. أمّا لغة أبي، فهي الغوجاراتيّة، ولكنه لم يكلّم أبناءه بها. ليس ثمة تقاطعات بين الويلزية والغوجاراتيّة. التقى والداي في تورونتو. أصبحت اللغة الإنكليزية لغة علاقتهما، ومِن ثَمّ لغة عائلتي. في الحقيقة، وحين تسأل هذا السؤال حول اللامنتمي/الغريب والوطن والمنفى، فإنني أودّ القول إنّني دائما ما أشعر بأنني غريبة/لامنتمية حيثما أكون، وهذه الحالة، بالنسبة إلى الكاتب، ليست حالة غير طبيعيّة، بيد أنّ الإنكليزيّة هي موطني، ولا يمكنني، من هذا المنطلق، أن أكون منفيّة البتّة. أمّا بالنسبة إلى البحر، فإنني أعيش قربه، لأنني دائما ما رغبت في العيش هناك، وأخيرا استطعت تحقيق ذلك.

الجديد: هل ثمة شعراء/كتاب، غير نيرودا، أثّروا فيك؟

تيشاني دوشي: هذا سؤال مستحيل الإجابة عليه، إنّه الكاتب الذي أقرأ عمله في ذلك اليوم. ثمّة، بالطبع، كتّاب عظام، لا يكفّ المرء عن الرجوع إلى أعمالهم مرّات ومرّات؛ ولكن، بالنسبة إلى التأثير، فإنني أحبّ ما أقرأه، في لحظة القراءة. وهو، في هذه اللحظة، الآن، شعر الأميركي بوب هيكَك.

الجديد: ما الذي تعنيه لك الكتابة؟ هل ثمة طقوس يوميّة تؤدينها لتدخلي في ملكوت الكلمات؟

تيشاني دوشي: تمنح الكتابةُ حياتي بنية ما. فحين أريد معرفة شيء، حين أرغب في الوصول إلى مكان ما، لو احتجت إلى الاكتشاف، فإنني أفعل كل ذلك من خلال الكتابة. لا طقوس لديّ البتّة، سوى الوصول إلى مكتبي والجلوس هناك.

الجديد: تقرأين قصائدك، في بعض الفيديوهات المتوفرة على الإنترنت، عن ظهر قلب، بصوت خفيض وعميق. هل تحفظين شعرك، بالفطرة، أم تراه فعل مسرحي حميميّ، متعمّد، لتوصيل رسالة معيّنة؟

تيشاني دوشي: قرّرت، قبل بضع سنين، أن أتخلّص من الورقة، حين أقرأ شعري أمام الجمهور. لقد اختبرت تأثير الإنصات إلى شعراء آخرين، حفظوا أشعارهم عن ظهر قلب، فكانت التجربة أكثر آنيّة وأكثر قوّة. إنّ الشعر جزء من تقليد شفويّ، ولذلك فإنّه يتواءم مع الحفظ والاستذكار. لقد شعرت، حين بدأت فعل ذلك، بالنسبة إلى القراءات العموميّة، بالمزيد من الارتباط بالجمهور، وسريعة التأثر، على نحو أكثر، ولكنني أعتقد بأنني قد رغبت، لكوني أمارس الرقص لسنوات عدّة، في أن أجعل الشعر أدائيا، على نحو بالغ.

الجديد: تخاطبين القارئ في قصيدتك “عَقد” (من مجموعتك “الصبايا يخرجن من الغابة”)، قائلة “لا تقتلني، أيها القارئ . ./ بل أحبّني،/ وسوف أتبعك إلى كل مكان /حتّى يصبح جِلدك جلدي/ دعنا نكون توأما، ودمنا يدقّ على وقع بعضنا البعض”. تذكرني هذه الأبيات بالبيت الذائع الصيت لشارل بودلير (من قصيدته “إلى القارئ”) “أيها القارئ المنافق، يا شبيهي، ويا أخي”. من هو هذا القارئ المتخيّل الذي “تعديه بأن تكوني دوما هناك/ تدمدمين في أبراج قنواته السمعيّة”. هل هو شبيهك أم شيء آخر؟

تيشاني دوشي: ثمة تقليد طويل يتعلق بمخاطبة الشعراء قرّاءهم. لقد تأثّرت قصيدتي (التي أشرتَ إليها) بالشاعر الأميركي جيمز تييت، ولكن ممّا لا ريب فيه أن تييت قد تأثر ببودلير. إنّ تاريخ الشعر، بأكمله، هو تاريخ شعراء يرتبط بعضهم مع بعض، على هذا النحو، ولكنّهم يحاولون، في الوقت ذاته، الارتباط بالقارئ. ليس القارئ شبيهي، فالقارئ هو كل شخص آخر. أريد أن أصيب العالَم بعدوى الشعر.

الجديد: لقد استلهمت روايتك الأولى “الباحثون عن المتعة” (التي كانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة “أفضل القَصّ الهندوسي”، وفي القائمة الطويلة لجائزة “أورانج”) من العلاقة الغراميّة التي جمعت والديك. هل لك أن تخبرينا كيف عرفت بقصّة الحبّ هذه، ولماذا قرّرت أن تكتبي رواية حولها؟ وما الذي يفرض “شكل” الكتابة: أيّ شيء يدفعك إلى كتابه “هذه” بالشعر، و”تلك” بالنثر؟

تيشاني دوشي: لقد عثرت على الرسائل الغراميّة التي أرسلتها أمّي إلى والدي حين كنت في سنّ المراهقة. لم أكن أدرك بأنه قد توجب عليها التغلّب على بعض الضغوط العائلية ليتزوّجا. لم يتكلّما كثيرا عن علاقتهما الغراميّة. لا يستطيع المرء، وهو طفل ينظر إلى والديه، أن يتخيّل حياتهما قبل وجوده. لقد بدا بأنهما قد كانا على تلك الحال دوما، ولكنني حين نظرت إلى تلك الرسائل، وإلى صورهما الفوتوغرافية وهما يرتحلان في أرجاء الهند، قبل أن ينجبا، رأيتهما بالشاكلة التي كانا عليها: مخلوقان فتيّان جميلان، آمنا بفكرة الحُبّ. ثم خطرت ببالي فكرة أنني جزء من ذلك كلّه. لقد كانت حكاية رغبت في قَصّها، ولم يكن من الممكن فعل ذلك بقصيدة ما.

الجديد: هلّا وصفت لنا المشهد الشعريّ في الهند اليوم، ومن هم الشعراء الهنود الذين تحرصين على متابعة أعمالهم، ولماذا؟

تيشاني دوشي: إنّه مشهد حيويّ ومتنوّع، على نحو مدهش. أقرأ أعمال سومانا روي، ومينا كانداسامي، وجيت ثاييل، وآخرين كثر. إن الشعر، بالنسبة إليّ، متعلّق بالصوت (الشعريّ)، وسبب متابعتي لهؤلاء الشعراء هو أنهم يمتلكون أصواتا خاصّة لا يمكن إنكارها.

الجديد: هل أنت مطلعة على الأدب العربيّ؟

تيشاني دوشي: بحر الأدب العربي في غاية الرحابة، وما أعرفه قليل جدا. أذكر اطلاعي على شعر محمود درويش حين كنت في الجامعة، فكهربني، ثم اكتشفت كتب نجيب محفوظ في إحدى المكتبات التي أخذتني إلى مصر. لقد قابلت، في الآونة الأخيرة، الشعراء غياث المدهون ونتالي حنظل وأسماء عزايزة. أعتقد بأنّ المرء حين يقابل الشعراء الآخرين، فإنّه لا يتعرف على أعمالهم فحسب، وإنما على الأعمال التي أثّرت فيه أيضا؛ فالشعر بهذه الطريقة يسافر ويرتحل.
_________
*المصدر: مجلة الجديد.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *