*أدونيس
ــ 1 ــ
«لا بُدّ من أن أُعلن الحربَ على نفسي في غَزْوٍ شاملٍ»،
يقولُ شاعِرٌ صديقٌ، في رسالته الأخيرة إليّ.
ويُكمِلُ قائلاً:
منذ أن رأتْ نفسيَ الوجودَ، رَأَتِ الحربَ، وعاشتْ متاهات
الغزْوِ وفَتْكَهُ. وهي في هذه الحال، حتّى الآن.
مئة سنةٍ، تقريباً، ولم تستطِع أن تفعلَ شيئاً ضدّ هذا العدوّ الأوّل للإنسان:
الحربُ ــ الغَزْو.
نعم، أُعلِن الحربَ على نفسي.»
وكان هذا الشّاعرُ قد قرأ في «سِفْر الجامعة» فقراتٍ أرسَلَها إليّ، هي هذه:
«كلُّ ما يشاركُ الأحياءَ في حياتِهم، يكونُ له رجاءٌ. فالكلبُ الحَيُّ خيرٌ من الأسدِ المَيت. والأحياءُ يعرفون أنّهم سيموتون. أمّا الأمواتُ فلا يعرفون شيئاً، ولا جَزاءَ لهم بعد، وذكرُهم طواه النّسيان. حبُّهم وبغضُهم
وحسَدُهم زال جميعاً، ولا حظَّ لهم بعدُ في شيءٍ ممّا يجري تحت الشّمس.
فاذْهَبْ، كُلْ خبزَكَ بفرح (…) تمتّعْ بالعيشِ مع المرأة التي تحبّها (…)
فهذا حظُّكَ من الحياة ومن تعبِكَ الذي تُعانيه تحت الشّمس.
كلُّ ما تقعُ عليه يدُكَ من عملٍ فاعْمَلْه بكلّ قوّتكَ. فلا عمَلٌ ولا تفكيرٌ ولا معرفةٌ ولا حكمةٌ في عالَم الأموات، الّذي (في الأصل: الّتي) أنتَ
صائرٌ إليه». (9: 4 ــ 10).
(نجد مضمون هذه العبارات من «سفر الجامعة « التوراتيّ، بنصّه شبه الحرفيّ في قصّة الطوفان البابليّ، كما ترد في نهاية ملحمة جلجامش)
ويتابع الشّاعرُ قائلاً: كنت أمسِ قرَأتُ لشاعرٍ لاتينيٍّ قديم، هذه العبارة: «أُفضِّلُ أن أكونَ شحّاذاً بين الأحياء، على أن أكون ملِكاً بين الموتى».
ومع أنّني أقرأ دائماً ما يقول سِفْرُ الجامعة: «الحِكمةُ خيرٌ من آلاتِ الحرب»، فإنّني أُعلِن، مرّةً ثانية، غزوَ نفسي، والحربَ على أيّامي.
ــ 2 ــ
في هذه اللحظة بالذّات، أتلَقّى من هذا الشّاعر رسالةً طويلةً، يطيبُ لي أن أوجزَها لقرّاء هذه الزّاوية في مقاطِعَ قصيرةٍ قد تبدو مُفَكَّكةً، ومُتَباعِدةً،
مع أنّها تدورُ حول موضوعٍ واحد:
ــ أ ــ
« فيما كانتِ البيوتُ تتطايَرُ،
لم تكُنْ صحوناً أو كراسيَ أو أسِرَّةً،
كانت رؤوساً وأيديَ وأقداماً.
سألتُ الحجرَ:
لماذا تستيقِظ؟ فبكى.»
ــ ب ــ
«منذ أن تسمعَ النّباتاتُ أولئك الّذين يمتدِحون الغُزاةَ وحروبَهم، تطردهم بعيداً عنها.
ثمّ تجتمع وتُصلّي إلى الأرض لكي تنخسِفَ بهم،
حيث يذهبون، وحيث يجيئون.»
ــ ج ــ
روَتْ حديقةٌ، قالت:
« زهرةٌ حمراء وضعت مرّةً رأسَها بين يدَيْ غازٍ طاغية،
لكن سرعان ما أخذَ عطرُها يتملمَل
ويصرخ احتجاجاً.»
ــ د ــ
«رؤوسُ الغُزاة
صناديقُ مليئةٌ بالخِرَق،
في دكّانٍ كَوْنيٍّ يتَّجِرُ بأشلاء البشر.»
ــ هـ ــ
«لا تصرُخْ في وجه صاروخٍ غازٍ. لا تستسلِمْ.
اسألْهُ: كيف جِئتَ ولماذا، فيما تبتكِرُ صاروخاً مُضادّاً.»
ــ و ــ
«السّماء في الغَزْو مجرّد صدىً لما في نفوس الغُزاة، حيناً،
وللغيب غالِباً.
تُصِرُّ الكواكبُ في مثل هذا الغَزْو أن تتحوّلَ إلى خيامٍ،
وأسِرَّةٍ، وأسلحة.
ــ ز ــ
« الغَزْوُ ردَّةٌ إلى التوحُّش»،
ــ «ما يكون جزاءُ هذه الرّدّة؟»
سؤالٌ لمؤمنين كثيرين قلّما يحبُّ أن يسمعه العارفون الذين
يملكون الأجوبة.»
ــ ح ــ
« للغزو رائحةٌ تتحوَّل مع رؤوس الغُزاةِ
إلى بيوتٍ للإيجار،
وفي عقول مستأجريها،
إلى قواريرَ من ذهب.»
ــ ط ــ
«يصنع الغَزْوُ أسِرّةً لأصحابه، يغويهم للنّوم فيها.
لكن، سرعانَ ما تجيء المفاجأة:
يغتصبهم
ثمّ يقتلهم ــ ذبحاً أو خنقاً،
سواءٌ أكانوا خاسرين أو رابحين».
ــ ي ــ
يقسمُ الغُزاةُ البلادَ التي يغزونها إلى قسمين:
الأوّل يغرق في الدّم،
والآخر يغرق في الدّمع.»
ــ ك ــ
« شكراً للحجر الذي يمدّ نفسَه وسادةً
لِمَغزُوّةٍ ــ تُسْبى، وتُنْتَهَك،
ثمّ تُقتَل، وتُطرَح في العراء.»
ــ ل ــ
«أنظُرْ كيف ينقلبُ الغُزاةُ
إلى مجرّدِ ظلالٍ،
وكيف تُصبِحُ أجسامُهم ثماراً
تتقلّبُ في أمعاء حُماتِهم وأسيادهم.»
ــ م ــ
«مَن قتلكَ، أيّها المُرتَزِق الغازي،
مُستَخْدِماً في ذبحكَ، وتقطيع أعضائك،
لسانَك ويَدَيكَ والمالَ الذي اشتراك به؟»
ــ ن ــ
« نعم، وُضِعَ رأسُه في قفصٍ من القشّ،
وأُلقِيَ في البحر.
نعم، وُضِعَ قلبُه في شبكةٍ من الرّصاص،
لها شكلُ الجسمِ الحيوانيّ.»
ــ س ــ
« وراء الغزو الظاهر، غزْوٌ باطِنٌ
حيث الشّهيقُ والزّفيرُ جُرْحانِ
ينزفان في الهواء.
حيث يختبئ في رماد القتيلِ
جمرٌ لقاتلٍ مقبِلٍ.»
ــ ع ــ
«الصّداقاتُ التي ضاعَتْ في الغَزو،
سفُنٌ تحبُّ أن ترسُوَ في مَرافئَ للمفقودين والجَرحى.»
ــ ف ــ
«ليس للغُزاةِ وجوهٌ ولا ألْسِنة:
للغُزاة خياشيمُ وخراطيمُ وتَعازيم.»
ــ ص ــ
« الغَزْوُ هو وحده، اليومَ، يأكل الخبزَ.
ما عَداهُ، داخِلاً وخارِجاً،
يموتُ جوعاً وبؤساً.»
ــ ق ــ
«السّلامُ، أحياناً، يكون أفضلَ الأسلحة التي تخرج من مصانِعيَ الذّكيّة»،
فهو كالضّوء الذي يلقّح الفضاءَ برغباتي»،
هكذا يقول الغَزْو في أحد دفاتره الأخيرة.
ــ ر ــ
يقولُ الغَزْوُ أيضاً، في دفترٍ خاصّ:
«لا يليقُ بعنق السّلام
إلاّ عقدٌ من عقيقٍ أحمر
يبدو كأنّه دمٌ يتدفّق في شريان الوقت.»
ــ ش ــ
لا سلطةَ للعقيق إلاّ بلونه ــ
ألِهذا يلهو، كما يُروى، مُتدَحْرِجاً من أعالي الجبالِ
التي لا تَصِلُ إليها إلاّ أقدامُ النّجوم؟
وهي أقدامٌ تُسْلِمُه، كما يُروى أيضاً، إلى طيورٍ
تُسلِمُه بدَورها، إلى أيدي بَشَرٍ يفرضون عليه
الإقامةَ في الأسرِ أبَدِيّاً،
في أعناق المُسالِمين حرباً والمُحاربين سِلْماً،
على السّواء.
ــ ت ــ
«الذين تَدَحْرَجَت رؤوسُهم من على عروشهم،
لم تَخُنْهُم العروشُ نفسُها.
خانَهم الذين أوصلوهم إليها.
السّلطةُ هي نفسُها الخائنةُ الخفِيّةُ الكُبرى ــ دائماً،
وفي جميع الأحوال.»
ــ ث ــ
قد تكون الكارثةُ ابنةَ زهرةٍ
خرجَت من المدينةِ في رحلةٍ إلى الغابة،
وضَلَّتْ طريقَها»،
هذا ما كتَبَت الحربُ مَرّةً في أحد دفاترها الذي خصّصَتْه
للكلام على الغَزو.
ــ خ ــ
«لا يُقرَأُ وجهُ الأرضِ إلاّ تراجيديّاً.
ربّما لهذا اخْتُصَّت السّماءُ بأدبِ الفُكاهة.»
ــ 3 ــ
أكتفي بهذا القَدْر. وأعترف أمامَ القرّاء، مُعتَذِراً، أنّني
سألْتُ الشّاعرَ: «لماذا إصرارُكَ على أن تقول للجمهور ما لا يفهم»؟
ولم يكنْ جوابُه إلاّ تكراراً لجواب أبي تمّام:
«ولماذا يُصِرُّ الجمهورُ على ألاّ يفهمَ ما يُقال»؟
وهي إشارةٌ تدعوني شخصيّاً، لكي أكرِّر مرّةً ثالثةً:
هُوَذا أغزو نفسي
وأُعلِنُ الحربَ على أيّامي.
_____________
*الحياة