*ناتالي الخوري
«قتلتُ أمّي لأحيا» رواية للكاتبة اللبنانيّة مي منسّى، الصادرة حديثًا عن دار رياض الريّس. هي رواية النزول إلى القعر، حيث الحفر في التفل المترسّب في أعماق الروح، تفل الألم الذي تحرّكه «العواصف الوجدانية»، وما تتركه في قلب المتلقي وروحه من «كومات الوجع» الذي يخبّر أنّنا جميعاً نحمل في دواخلنا قلبًا كقلب «المتوحّد» الذي تمثّله الشخصية الأساسية، وكأنّ مي منسّى تبحث لجميع شخصياتها المتصدعة، عمّن يرمّم روحها وطينها، عمّن يخرجها من غشاوة عزلتها التي بنته لنفسها، تبحث لهم عن خلاصهم بالكتابة مذكرات ورواية، بالرسم واللون، بالمسرح كتابة وتمثيلاً وموسيقى… هذه الرواية هي محنة الانسلاخات التي عانت منها عائلة في أجيالها الأربعة، عائلة عتّق الهجر أرواحها والتصدّع نفوسها، وكأنّي بها تستكمل روايتها السابقة «تماثيل مصدّعة» في احتراف جمع النفوس المتألمة من أجل علاجها بالفنّ.
«قتلتُ أمّي لأحيا»، عتبة تحيل إلى حتميّة القطيعة من أجل إمكانات حياة، وهي غير محصورة بالبطلة المتوحّدة، بل نجدها متغلغة في جميع الشخصيات، كان لا بدّ لِيُونس أن يُؤخَذ قسرًا الى سفر برلك، لتعيش سلمى تجذراً أكبر في الأرض، تنقل ذكرياتها مشافهة من جيل الى جيل، كان لا بدّ لسناء، شقيقة رشا التوأم أن تنفصل عنها وعن منزل أبيها وجدتها لتعيش قضيتها، وتقتل، فتحيا رشا على الرغم ممّا سبّبه رحيلها… كان لا بدّ لثريا أن ترحل، ليحيا فارس زوجها حبّه نقيًّا وقويًّا بنكهة غير مهددة بالغياب، ويكتب «لمّا كنتُ» ولتحيا أختها روزا أمومتها بأولاد شقيقتها، كان لا بدّ لهدى أن تُسلخ عن رضيعها، لتكتب رسائلها الى زوجها رفيق، كان لا بدّ لرفيق أن يقتل، لتتحرّر عائلة شيبوب من هذا الزواج، من أجل أن تحيا معاناة أخرى…
كان لا بدّ لرشا المتوحدة أن تبتعد من ضياء العجمي ذات ليلة، لتكتب صرختها الكبرى، هي، كان لا بدّ أن تقتل أمّها في ماضيها الأليم لتحيا، فتكتب مسرحيتها بأصوات معاناة الكثيرين، في عين شمس وخارجها.
أربعة أجيال تعاني، والجدة سلمى حاضرة دائماً، تربي الابن والحفيد وأحفاد الابن، لتبقي على رسالة الجذور «كي لا تبقى الأض كفنًا للذاكرة»… من غياب يونس القسري في سفر برلك، الى قتل ابنه الشاب رفيق على يد ابن حميه، واختفاء زوجته هدى، الى معاناة ابنهما فارس اليتيم، في يتمه وموت زوجته الشابة ثريا التي يحبها حباً جماً، الى موت ابنة فارس التي لحقت القضية الفلسطينية غصباً عن إرادة أبيها، الى الحفيدة(رشا) التي تعاني من مرض التوحّد، وقد أرسلها والدها الى أحد المراكز المتخصّصة في بلجيكا، وكان المسرح خلاصها، ولادتها الجديدة، سلّمت نفسها جبلة طين لإعادة تشكيلها.
رشا المتوحدة تعيش بين عالمين، بين عالم مرئي وآخر غير مرئي، تستقبل «برقيات من الماضي» لترتق خدوش وجودها ووجودنا. وكأنّي بالمؤلّفة تستكمل ما جاء في روايتها شخصيات مصدّعة، في التواصل بين هذين العالمين، وكأن اللاوعي في نصّها الروائي هو المنفذ الخلاصي، يترجم إبداعاً في مختلف أنواع الفنون. وإذا كانت منسّى اعتمدت في تماثيل مصدّعة الأذى الجسدي لإحدى شخصياتها منفذًا للدخول الى الوجع النفسي والتصدّع الروحي، فهي في هذه الرواية، انطلقت من الوجع الروحي منفذًا للولوج الى عالم اللاوعي، من أجل إمكانية علاج الترسبات العالقة وتاليًا اقتلاعها، كسبيل إلى السعادة، إلى الخلاص.
تجلّى الخلاص هنا، مع رشا المتوحّدة في المسرح، لامست شفاءها عند إعلانها على الملأ: «قتلت أمي لأحيا»، حين جاهرت بشعورها بالذنب الذي حملته، هذا الإشهار بما يعتمل في أعماقها هو ما أخرجها من غشاوة توحّدها. فهل تريد الكاتبة منسّى أن توحي لنا بأنّ الحياة هي مسرحيتنا الكبرى، نحن أبطالها، وعلينا أن نتوغّل الى ذواتنا والصراخ بأعلى ما فينا، لإشهار ما يغضبنا وما يؤلمنا آليّةَ شفاء، حين يكون المتفرّجون من أولئك المقرّبين الذين يهتمّون لصراخنا ويحملون في أعماقهم امتداد مأساتنا، حين يجمع الكلّ الهمّ الواحد والمأساة الواحدة؟
رشا أرادت أن تقيم مسرحًا علاجياً للنفوس المتألمة من الحرب اللبنانية، حيث الدماء تشهد على صراخ من رحلوا، وبخاصّة، تودّ أن تقيمه على اسم أبيها الذي رحل برصاصة قنّاص عند توجهه الى المطار من أجل رؤيتها.
جميع الشخصيات في هذه الرواية تبحث عن ولادة جديدة، عن معمودية حبّ تحمل لهم حياة جديدة. جميع الشخصيات تبحث عن بقعة ضوء تحمل اليها خلاصاً من عقدة الذنب التي تشعر بها، عقدة الذنب لم تفارق شخصيّاتها جميعها، ذنب ولّدته اللاعدالة في أن يولد اثنان غير متساويي الوزنات، عقدة الذنب التي تجعل حاملها في تصدّع دائم، يبحث عمن يفضي إليه ليسامحه على كلّ ما مضى، والمفارقة أنّهم قبل لقاء المسامحة يرحلون. كان عليهم أن يرحلوا، كي لا تتمّ المسامحة، لتبقى عقدة الذنب تنزّ ألماً. عقدة الذنب التي رافقت الشخصيات لأنّها تمنّت أن تقطع علاقاتها مع كلّ موروثاتها، في حين أنّ الوصية الأساسيّة هي «الحفاظ على الأرض كي لا تبقى كفنًا للذاكرة»، ربّما، لأنّ جميع الشخصيات وجدت «في الموت التربة التي شاءت الاستراحة فيها» ص221.
قد تكون هذه الرواية «مصبوغة بسواد الحداد ورائحة الموت»، لكنّها على الرغم من ذلك، تحمل ضوءًا قويًّا، تؤدّي دور الكشف للذات التي التبست عليها الأدوار بين الداخل والخارج. هي رواية المواجهة، حيث التعري الكلّي أمام الذات والآخرين. الكتابة والمسرح هنا هما شكلان من أشكال الاعترافات، هذا ما فعله فارس في كتابة مذكراته حتى بقي سويًّا، وهذا ما فعلته رشا، وهذا ما فعله جهاد الفلسطيني، وهذا ما فعلته الجدة سلمى، لكن سلمى اعترفت مشافهة لحمل مأساة العائلة، نقلته من جيل الى جيل، هذا ما فعلته هدى في رسائلها الى زوجها رفيق التي لم تصل، قبل انتحارها، ربّما لأنّ الكاتبة تؤمن بأنّ «الكتابة فعل وراثة ووشم لا يزول» ص256.
لا شكّ في أنّ مي منسى أجادت في الغوص في عالم الإنسان المتوحّد ومنطلقات تفكيره وشعوره وإحساسه بالأمور حوله وآليات علاجه بالفنّ وتحديدًا بالمسرح، وطريقة وعيه توحّده عند رعايته والاهتمام به، وإمكانات تحقيق إبداعه تفرّدًا وبخاصّة لأنّه يصل إلى عمق لاشعوره ويترجمه فنًّا صادقًا شفيفًا، وقد توغّلت منسى في الإضاءة على مقدرة المتوحد على إلهام غيره الكثير، ليس هذا فحسب، بل قدرته على عمل رسولي ترجمته الكاتبة بالمسرح العلاجي الذي أقامته لاحقًا البطلة في الشارع.
وفي قراءة متأنيّة للرواية، يتكشّف لنا، أنّ التوحّد هنا ليس محصورًا في شخصية الرواية رشا فقط، وكأني بجميع الشخصيات هنا، تعاني غربتها مع انتمائها وقضيتها ووجعها الموروث، وتحديدًا في قرية «عين الشمس»، منبت الأجيال الأربعة، وربّما شاءته الكاتبة رمزًا إلى قدرة الشمس على الإحراق عند التحديق في عينها.
لا يمكننا أن نختم هذا المقال من دون التطرّق إلى شعرية الانعتاق الذي تمثّل هنا بشعرية الوصف في العلاقة الحميمة بين الإنسان والأرض، تشاركًا كيانيًّا في صورة موازية لوصال الحبّ الإنساني، كذلك شعريّة السرد المتمثّل في شعريّة الاغتراب النفسي في وقفاته التأمّلية حينًا وتتابع مسرى قدره حينًا آخر.