بيت لا تعرفه الشمس

خاص- ثقافات

د. السيد شعبان

لا تطعم الحكايات جائعا، لا تستر عاريا، كان ذلك في ثنايا حديثها المختلط بحسرة لا تنتهي؛ حاولت مرارا أن أتخلص من عتابها، أصابني الهم؛ أنا منذ فترة طويلة لا أجيد غير تلك الكلمات، انزويت في ركن البيت الذي تركه لي أبي، حتى إنني لا أعرف كيف أصلح بابه الخشبي وقد صار مرتعا للسوس، تعلق الذكريات بي، تمسك بخناقي، أعرف أن تلك خيبة تنضاف إلى هزائمي المتتابعة، تصر دائما أنني كومة من إخفاقات لا حصر لها، ومن جملتها أنتي لا أحسن غير لوك المفردات، مهنتي لا تطعم الصغار، لا تشتري كساء للشتاء، أمر على واجهات المحال فأصاب بحسرة لا تنتهي، إنهم لا يرحبون إلا بمن ينزلون من السيارات التي تسد الطريق، من يتخفون وراء ألقاب لا أدري من أين أتوا بها، وعلام تدل، يبدو أنني أعيش في فجوة مكانية؛ الأبنية من حولي ترتفع حتى سدت الشمس، يخيل إلى أن الطوابق تحدث بعضها وقد تسخر في غير توقع من بيتنا القديم، لا تقف العصافير على شرفة حجرة رطبة في بيت يقترب من مركز الأرض، هكذا أتخيل أن الجن تحيط بي، يبدو أنها غير معنية ببيت لا تدخله الشمس، الكلمات المغناة قصائد غادرت عالمي، أخبركم الآن بسر جهدت ألا يعلم به أحد الذين يتسللون إلى أوراق الثبوت المميكنة؛ أشتهي قطعة لحم حمراء، تصلح لتكون دفء ليلة شديدة البرودةهذه إحدى خيباتي، يأتي الربيع وأنا ضامر الخصيتين، تتفتح ورود ببيت الجيران، وبيتي تسكنه العناكب، تقف عربة القمامة أمام بوابة جاري الذي يرتدي النظارة السوداء حتى بالليل، يقولون: إنه يعمل في هيئة ذات اعتبار، نسيت أن أطلعكم على السر؛ أنا لا عمل لدي، أعيش هنا منذ جاء بي أبي من رحم أم ماتت حين رأيت الحياة، لا أغادر ذلك المقعد الذي صار عوضا عن قدمي الضامرتين، كل جزء في مصاب بالعجز، من تكون تلك التي تسكن معي في تلك البناية؟
لا أعلم عنها شيئا، ربما هي إحدى قريبات أمي، أو لعلها جدتي، يبدو أنه لا أحد يسكن معي، تمثل الأوهام للجئع خبزا، للمحروم تتأجج به النار شهوة أنثى تسعى. كثيرا ما تنطق النافذة، أسمع لها نداء يغمرني في غير ري، تتحرك في الظلام الأشباح غير عابئة بي، تمر الفئران كل ليلة لكنها لا تسكن معي، وما تفعل في بيت تتلاطم فيه الريح؟
علي أن أدون كل هذه الأحداث لمن سياتون إلى حجرتي؛ بالتأكيد ليس شفقة علي، ستكون الرائحة فجة لن تطاق، سيتخلصون من هذا العفن، وبعد يشعلون النار في البقايا، سأجتهد أن أكتب بكلمات ذات حروف بارزة، ليكن ذلك رسما، فالصورة تبقى مقاومة للنسيان، لكنني مصاب بالعجز، لا يهم، على أية حال لن تختلف قصتي كثيرا عما لدى الآخرين، تختلف التفاصيل؛ لكنها في المجمل تتكرر كثيرا، سأمضي في هذا الطريق إلى نهايته، ربما في منتصف الخريف سأغادر، لن يشعر بي أحد، إنهم يشربون مياه معدنية، يضعون رابطات عنق ذات ألوان أشبه بلوحة تعبر عن كرنفال، هل ستكون بجواري ساعة يأتي الملك؟
أعلم أنه لن ينتظر غير لحظات، ربما ساعدني في أن أفتح النافذة للمرة الأخيرة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *