*إبراهيم عبد المجيد
سؤال كل عام من الصحافيين عن أثر هزيمة 1967 في كتاباتك وكتابات جيلك. انتبهت إلى أننا في يونيو/حزيران، وكان سبب غفلتي هو شهر رمضان. فرمضان مرتبط عندي بحرب أكتوبر/تشرين الأول لكنه جاء هذا العام في مايو/أيار ويونيو.
وكعادتي منذ فترة ابتعد عن الأحاديث الصحافية بقدر ما أستطيع. في يوم لا أنساه دخلت غرفة مكتبي ومزقت كل ما أحتفظ به من أحاديث، وأنقذني أحد أولادي ومنعني وهو يمسك ببعضها ويقول، يا بابا دي فيها صورك من أيام الشباب. «انتبهت إلى جمال الصور وما تحمله من ذكريات. قللت من الأحاديث الصحافية، لكنني لم أدلِ بأي حديث عن الهزيمة. فجأة رحت أفكر في الأمر. أجملته لنفسي في جملة واحدة وهي أن أبرع من كتبوا بعد الهزيمة أتوا من رحم واحد هو، عدم التوافق مع النظام السياسي الذي أتى بهذه الهزيمة. انسحب الجميع تقريبا إلى التجديد في شكل الكتابة كنوع من الاستقلال عن الماضي، رغم أنه لم يخلُ من التجديد أيضا، لكن ليس بشكل جماعي. دائما فرد يتمرد. وفي الوقت نفسه قلة منهم من توافقت مع النظام من حولها.
اثنان أو ثلاثة فقط توافقوا وهذا يحدث في كل الدنيا. 51 عاما مضت جعلت الهزيمة تدخل في مغارة النسيان، لكن توقظها هزائم أخرى. للحظات تذكرت ذلك الحماس الذي شمل الأمة العربية كلها في اليوم الأول والثاني من الحرب، ثم بدأ توافد الأخبار التي لم نصدقها أبدا، ثم الحقيقة أننا هُزمنا وأن الجيش الإسرائيلي في الضفة الشرقية من سيناء، وفوق مرتفعات الجولان، وفي القدس الشرقية والضفة الغربية كلها. أتذكر ليلة التاسع من يونيو حين جلسنا نحن الشباب في مقر لمنظمة الشباب في شارع البحرية في حي الجمرك في الإسكندرية، نستمع لخطاب عبد الناصر، وكيف بعد أن أعلن تنحيه عن الحكم حط علينا الصمت وانفجر بعضنا بالبكاء، وإذا بمسؤول المنظمة في الحي يقول «لا تحزنوا عبد الناصر سيترك الحكم لكن سيكون مثل ماوتسي تونغ في الصين مرجعا لنا».
أجل قال ذلك وهذه شهادتي، رغم من يقول إن خروج الناس كان مدبرا كله، ربما في أماكن أخرى، تركنا المسؤول في لحظة، بل وشتمناه أيضا ونزلنا إلى الشارع الصاخب بالبشر، الذين نزلوا من بيوتهم بملابس النوم. وسارت الجحافل إلى ميدان المنشية، لكنني وجدت نفسي أمشي في شارع معاكس وحدي. من شارع البحرية إلى منطقة مينا البصل إلى حي القباري والورديان، حيث تقع شركة الترسانة البحرية التي كنت أعمل فيها ذلك الوقت. فعلت ذلك لأنني كنت مسؤول الدفــــاع المدني مــــع عدد كبير من الشباب. مشيت وحدي مسافة طويلة جدا بين بيوت مظلمة وشوارع لا يقابلني فيها إلا من يسرع إلى ميدان المنشية.
وحدي لا أفكر أن أعود والتحم بالناس، وحدي أمشي بين الظلام الأزلي وأدخل الشركة فلا أجد أحدا. لا شباب الدفاع المدني ولا حراسات، ظلام مطبق على كل شيء، إنه ظلام طبيعي يتم وقاية من الغارات، لكنني أحسست به ظلاما أزليا وأبديا معا.. أنا وحدي بين الظلام رماني الله إلى الأرض الآن. ورحت أمشي بين ورش الشركة، أرى الأوناش والماكينات وحوشا ضارية من قبل الميلاد، وأكثر ظلاما من الظلام المحيط. لم أفكر حتى في الذهاب إلى البيت. جلست وحدي في حجرة الدفاع المدني ولم أفتح الراديو ولم استمع إلى شيء. انتبهت قبل أن يغلبني النوم في مقعدي، كيف مشيت عكس كل الناس حتى لو لم أفكر في ذلك. وكانت هذه بداية قطيعة مع الناصرية، صرت في منطقة أخرى لا أعرف منها إلا الرفض وعدم الرضا. والمدهش إنه يوم وفاة عبد الناصر عام 1970 كنت في القاهرة، أتانا الخبر في المساء، في الصباح عدت إلى الإسكندرية، كانت كل القطارات تأتي محملة بالبشر داخلها وفوقها وأنا وحدي في قطار متجه إلى الإسكندرية. القطار كله خال من البشر إلا أنا والكمساري الذي اندهش جدا من وجودي. وعلى طول الطريق تقابلنا القطارات المحملة بالبشر وأنا وحدي لا يركب معي أي شخص من أي محطة يقف فيها القطار. في البيت وجدت نفسي أفكر كيف حقا مشيت في مرتين على عكس كل البشر، وكان الفراق الأخير للناصرية، لم يكن فراقا مشبعا بالكراهية لكنه فراق الجريح، ففي سن الواحدة والعشرين تجد نفسك بلا وطن أمر صعب، وتكتشف حين تبحث أن الإحساس بالوطن كان خدعة، فالمفكرون والكتاب كان وطنهم السجون.
لقد وفرت مبكرا للهزيمة رواية «في الصيف السابع والستين» كانت هذه الروايه بالنسبة لي أشبه بنفثة ارتياح، أو بمعنى أدق نفثة الغضب وكانت أول أعمالي التي تنشر في القاهرة بعد أن غادرت الإسكندريه. على أن هذه الهزيمة لم تغادرني تماما، رغم كتابة هذه الرواية. فبعد انتصار أكتوبر مباشرة نشرت قصة قصيرة بعنوان «تعليقات من الحرب» في عدد خاص من مجلة «الطليعة» اليسارية المصرية. كانت هذه القصة تصور جنديين محاصرين في الجيش الثالث، يدور بينهما حوار مهم، إذ يقول الأول إننا سننتصر لكن سيأتي بعد ذلك تجار حديد وخردة يفوزون بنتائج الانتصار. كنت أشعر من سياسة الرئيس الراحل أنور السادات أنه سيهدي النصر لمن لم يصنعه، ولقد حدث إذ فاز به رجال الانفتاح والرأسمالية الطفيلية، ذلك وجه آخر لهزيمة 1967 رغم إننا انتصرنا في أكتوبر. لم يفارقني هذا المعنى في روايات تالية لي مثل «المسافات» التي نشرت عام 1982 والتي تجري في منطقة أسطورية كلها وبصور وحكايات أسطورية، لكنها تنتهي بمكان يُباع إلى الأجانب ويتحول إلى فنادق تنزل فيها الطائرات ولا يسمح بدخوله لأبنائه الأصليين. كذلك تسلل هذا المعنى إلى رواية «بيت الياسمين» لكن على شكل ساخر جدا.
أستطيع أن أؤكد أن الهزيمة كانت وراء افتتاني بالوجودية وفكرة العدم التي تغلف وجودنا وفكرة العبث الذي يحيط بالعالم وكثير من الأفكار التي تعبر عنها حالات كثير من الشخصيات، رغم أن الهزيمة أيضا كانت وراء قراءاتي في الماركسية واندفاعي للانضمام للأحزاب الشيوعية، التي سرعان ما فارقتها. كانت الماركسية حلا للغضب لكن في النهاية نجحت الوجودية فانسحبت أكثر وتفرغت للكتابة. هذا الانسحاب أو هذه العزلة الاختيارية، رغم ما يبدو عليّ من غير ذلك كانت هي شعوري بعد الهزيمة ولا يزال. ولن أستطرد في الحديث عن أعمالي، لا يليق، في الكتابة أو في الحياة لا تزال الهزيمة تلاحقنا كأنما تصنعها أشباح غير مرئية.
________
*القدس العربي