الفتى العنكبوت

خاص- ثقافات

الغرياني بالسّعيدي*

أصوات في الخارج ، صراخٌ وعويل. يَصْفَعُني لهيبُ الحاضر. شمسٌ جنوبيّة حارقة. الحرارة هُنا تُغيّر مزاج الشّخص بسرعة رهيبة. وَهَجُ الصّيف قاتل. أقطنُ في قرية سائبة منسيّة ومنتشرة مساكنها بين واحات وصحراء وهضبة صُغرى. أنا والنّمل نلتقي بحميميّة هُنا ، نقتفي أثر الظلّ ، أتخيّلُ نفسي الآن زرعٌ ، وبالأمس كُنتُ حصاداً. هكذا هي الحياة ؛ شُروقٌ وغُروبٌ. نَحْنُ أَهْلُ الشّمس. للحُلم واحات نخيل خضراء يَتساقطُ تَمْرُهَا كلّ خريف.

أُعَرّفكُم بنفسي ، أنا فتى القسم ، اسم أطلقه عليّ أستاذ اللّغة العربيّة يوماً ما. في المدرسة اسمي قاسم. أمّا في البيت يحبّذونَ مناداتي بلڨاسم. الأسماءُ لا تعنيني ، كلّها متشابهة كالعلب الصّينيّة الواحدة مُتطابقة مع الأخرى. جُغرافيا حياتي مُوزّعة بين أربعة أماكن مفضّلة عندي.

غُرفتي هندستها وديكورها غريبة المألوف ، تُحاصِرني أربعة جدران خضراء بلون الفستق ، وصُمِّمَ السّقفُ في شكل وردة بيضاء ، رُسمت داخلها نجمة بنفسجيّة مدهونة حدودها بالأبيض.

مدرستي الإعداديّة  تبعدُ عن المنزل قُرابة الكيلومتر. أذهبُ أليها وأعود منها مشياً على الأقدام ، متعة الطّريق في اصطيادك للأفكار والحوار المضحك والسّاخر مع الأصدقاء. بعد ساعات الدّرس ، وجهتي الأولى دائماً ، المكتبة ، أينما ذهب الحشد من التّلاميذ الى المقهى. هي الفضاء الوحيد الذي يُنسيني رتابة اليوم وكآبة الطقس. حلمتُ مرّة ، أنّني حفرتُ نفقاَ أرضيّاً يربطُني بالمكتبة ليلاً. الكتب نبراسٌ منير في وقت الظّلام. كلّما أردتُ الهروب من واقع الصّخب تحتضنني العقول المتروكة على الرّفوف وتُلْزِمُني بِحالة من الهدوء وتأخذني في رحلة سفر مجّانية إلى كلّ أصقاع العالم من الشّرق و الغرب ، جنوبها وشمالها. أشيّدُ أفكاري الخياليّة مثلما تبني العنكبوت  بيتها من الخيوط. بُنيتي الفيزيولوجيّة تُقارب مجازاً رقّة وشفافيّة الخيط العنكبوتيّ ، الذي يُعدُّ من أقوى الألياف الطبيعيّة. قاسم أو بلڨاسم يعرفه الجميع بقوّة تحمّله وصبره التي تُعَادِلُ قوّة الفولاذ. كالعنكبوت يقتنصُ فرائسهُ الفكريّة دون أن تفلت منه. لَهُ القدرة على بناء أفكاره بالمهارة نفسها التي يمتلكها العنكبُ.

يُراودني حلم غريب بأن أكون عنكباَ ، أعيشُ في جميع المناطق ومختلف المرتفعات ، وأن أنتشر سريعاً على سطح الكرة الأرضيّة ، وطاقتي الهائلة كي أتأقلم مع جميع الظروف المناخيّة ، حيثُ الأنواع الكثيرة منها (العنكبوت) ، تجعلُ كلّ نوع يتكيّفُ مع المناخات المختلفة.

بينما هممتُ الخروج من عزلتي البيتوتيّة  للتنزّه بدرّاجتي في المكان الرّابع المفضّل لي ، واحة النّخيل. وأنا ألبسُ حذائي اخترق العنكبُ رجلي اليُمنى واتّخذ فردة الحذاء مسكناً له.
__________

#الغرياني_بالسّعيدي : حزوة / تونس

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *