لعبة عروس

خاص- ثقافات

*المختار حسني

حمدون طفل لا يتجاوز في تقديري السنة الخامسة. من بين الفترات الأكثر قتامة في حياته، يوم ماتت شقيقته فاطمة عن سن طفولية تناهز الأربع سنوات.

البارحة فقط، كانت قد استردت عافيتها([1])، غادرت الفراش بعد أن لزمته لأيام طويلة، بدت كالفراشة ترفرف بين إخوانها الكثر، وتشيع النور في عينيه. كان هو يلاعبها محاولا أن ينقل إليها إشارات الحب والشفقة والفرحة الغامرة التي يستشعر دبيبها في عظامه وهو يتملى نشاطها المستعاد، وكان قد تاق أيضا إلى صوتها الذي يذيقه سحر الحياة، فها هو الآن ينعم به بعد أن حلت عقدة من لسانها لزمتها طيلة مرضها. أما الأب مسعود فلم يكن يدري شيئا عن هذا الداء العجيب، وأما الصغار فبهتوا، وأما الأم فقاومت بالسهر والدموع والتعويذات والتمائم والبخور وكل ما وصلت إليه يداها

فاطمة وردة بلا أشواك

نظرتها شاخصة إلى السماء

تتأمل العجز المقيم والأمل الراحل

وتحتفظ بأحاسيسها وأفكارها الكبيرة في رأسها الصغير

ما الذي أصابها

وجعل أفئدتنا تهوي من شاهق

وصبرنا مر المذاق

وخط لنا متاهات الحياة؟ !

أختاه ! توادعنا بالألم المكتوم والدمع المسكوب والكبد المتصدعة

فكيف هنالك استقبلتك أجنحة الملائك؟

يا قوت القلب !

هل تسمحين بأن نسمي ما نحن فيه بعدك حياة؟

يا نقطة النهاية، ويا لحظة البداية والموت الخرافي والخرافة القاتلة

وحكاية ما قبل النوم

يهز بها هذا الراوي السادي أوتار القلب…

قال الراوي: أردت لحمدون أن يبقى متوتر القلب لأن التوتر حياة والصراع بقاء، ولم يفهم التعيس قصدي تحت وطأة الألم؛ فأنا أنظر بعين العقل، وهو يرش الكائنات بدم الوجدان وظلام القلب، قلبه في غاية الاتساع، لكن حِمله ثقيل وحبه مرهِق؛ يلومني المحزون بلا وجه حق، وهو الذي إن لم أذَكِّره عَنّفني وأخذ بتلابيب بُردي لأروي الحكاية من البداية، فأنا الصابر المحتسب، أقدمه على نفسي أو لعل همه ينسيني همي…

كان سي بلقاسم فقيه الدوار وفقيه القرية والقبيلة بأسرها؛ في الأربعين من عمره، مكتمل الرجولة قمحي اللون، لا بالقصير ولا بالطويل، وجهه أقرب إلى الاستطالة، لا يستقبل الواحد إلا مبتسما، ابتسامته عسلية تضفي عليها أسنانه الناصعة المتسقة بهاء ورونقا قلما تجدها لدى فقيه قرية. وبالإضافة إلى قيامه بوظيفة الإمام الراتب، كان يضطلع بمهام تحفيظ القرآن الكريم للصغار، ويحضر الجنائز مشرفا على مراسيم الدفن، ويزور المقبرة أيام الجمع قبل صلاة الظهر لجمع الدريهمات من نساء القرية مقابل قراءة ما تيسر من القرآن الكريم على فلذات أكبادهن وأقربائهن…وهو، إلى هذا، يحل المعضلات ويتسرب إلى خبايا الأسر ويحقق أهواء الرجال والنساء بما أوتي من كتب الرحمة في الطب والحكمة وسحر الكهان وتسخير الجان…سلطة واحدة فقط من هذه السلط كانت كفيلة لتفسير تلك الانحناءة التي يستقبله بها كل قروي مر إزاءه، ولا أستثني إلا الشيخ المختار شيخ القرية بحكم سلطته الزمنية وعلاقته الخاصة به التي ربما عملتُ على بسطها في مكان آخر إذا غفل عني حمدون. كانت تلك الانحناءة رسما من المراسيم مصحوبة بتقبيل اليد يليها دعاء الفقيه “الله يفتح عليك…”، والجميع كان يتصور أن الفقيه قد فتح الله عليه، وأن الفتح المقصود أن يصيروا مثله، وأنها أمنية دونها خرط القتاد.

طرق مسعود بابه. خرجت فتاة:

  • من؟ العم مسعود !

  • بنيتي ! أبوك اليوم في المنزل؟

  • نعم. فقد عاد لتوه من بيت عزاء بجبل “أبو خوالي”.

  • آه ! متعبا سيكون إذن بعد قطعه لكل هذه الكيلومترات.

  • خيرا ! هل ازدادت حال فاطمة سوءا؟

  • ومن غيرها حفظك الله؟ إني لأرجو ألا يحرمنا سيدي بلقاسم من بركاته.

……………

عم مساء أيها الفقيه الطيب

أنت ظللت هذه القبيلة الواسعة بظلك

وجعلت حدود عالمها تقف عند سدرتك

وتُجري إيقاع حياتها على مشيئتك

يا من سيقت له الكرامات جميعها

وسالت قبضات يديه في عروقنا

وقفنا اليوم ببابك

راغبين مرة أخرى في شفوف رحمتك

لك المشرق والمغرب من هذه البوادي

أنت المليك عليهم

وهم العبيد السالكون إليك السبل في البراري

فتولني فيمن توليت واشف ابنتي فاطمة

لا منجى ولا ملجأ إلا إليك

ثم عند الله الملتقى يجازيك على ما أنعمت وأسديت…

جلس الفقيه قرب المريضة في غاية الجد، قبض على فوديها ضاغطا بالإبهام والوسطى، تمتم بضع كلمات، رش وجهها بالماء، وطلب “زلافة” ويسميها بعضهم “جبّانية”، كتب فيها ما كتب ثم طلب قليلا من الماء، وضعه فيها وحركه حركة دائرية لتذوب الكتابة وتنتقل بعد شربها إلى جسم فاطمة الصغير علها تشكل إحدى الدروع الواقية من هذا المرض العضال، ثم رسم جدولا في ورقة بيضاء، وكتب فيه طلاسم بخطوط أفقية وعمودية ومائلة ومتقاطعة تبدو للرائي وكأنها موانع من كل اقتحام أو اجتياز. طوى الورقة “حرزا” وهو “الحجاب” وأوصى بعد تجليده، لكي لا يمحى إن تعرض للماء فتزول –لا سمح الله- تلك الحواجز، بوضعه في عنق المريضة كالقلادة لا يفارقها. ثم شرع في سرد الوقائع على مسعود بعد أن اختلى به خوفا على الأطفال، ولم يكن الراوي حاضرا فيحكي ما جرى بالتفصيل، ولم ير بدا مع ذلك من التصرف في الكلام ليؤدي المقصود على الوجه الذي قد يخفى على الفقيه وأمثاله:

كانت فاطمة في يوم ربيعي بهيج تلعب لعبة العرائس تحت أشجار الرمان وهي لا تلوي على شيء، ففي اعتقادها أن الدنيا كلها لعب، وأن هذا الفضاء الفسيح بجهاته الست لم يخلق إلا للأطفال حتى يسرحوا ويلعبوا ويمرحوا بسلام، تلاعب فراشاته وأطياره، وتكلم ساحاته وأحجاره، وتعانق أطيافه وأنواره، ويسابقها قلبها لاحتضان الظلال وقطف الأزهار والثمار. كانت كما الفضاء مجالا مفتوحا على كل شيء، لم يكن جسدها سوى معبر مستباح للكائنات. كانت نبضا من نبضات هذا الوجود. ولم تكن المسكينة تعلم أن قدميها الرقيقتين اللتين تطيران من الخفة في الهواء ستقترفان جريمة قتل شنعاء. كانت أشجار الرمان كثيرة ومصفوفة، وتحت إحداها جلست جنية مع صبيها تتفيأ الظلال، ولما جاء وقت العصر كان قد حان زفاف العروسة إلى عريسها. مر الموكب الذي نظمته فاطمة في حفل بهيج من تلك الطريق، تتعالى فيه أصوات الزغاريد، وطلقات البارود، وغناء الصبايا، والمزامير، والورود والهدايا، والهتافات والضحكات والنداءات والإجابات والغبار…لم يكن من الممكن أن تنظر فاطمة إلى الأسفل لترى أين تضع قدميها وهي تشرئب بعنقها الرقيق لترى الوفود والمستقبلين في دار العريس، ولم تحس على طول الطريق أن قدميها وطئتا ذلك الصبي فخر صريعا.

علق مسعود البائس: الآن حصحص الحق أيها الفقيه المبارك. الآن فقط استطعت أن أعبر رؤيا رأيتها أول ما مرضت طفلتي؛ لقد رأيت فيما يرى النائم، وأنا بين الحلم واليقظة، وكأن شيخا هرما بعين واحدة متوهجة من شدة الغضب، قصدني يا سيدي إلى فراشي حاملا غصن زيتون في يد، وفي الأخرى يمسك بخنجر لا يظهره إلا مواربة، غمغم بكلمات طويلة فهمت منها أنه يعرض علي ترك المنزل له ولأبنائه وأحفاده، فنهضت مذعورا لا أدري أين أنا في هذا الكون، ولا زال العرق يتصبب من جبيني كلما زمجرت كلماته في مسمعي…

لم يظهر الفقيه أي انزعاج، كان فقط ينتظر أن يفرغ مسعود من حكايته ليعقب:

وأنا أقول لك إن مستقرك قرب تلك الطريق عند مضرب خيمتي، وإنك لراحل ليس عن هذا المنزل فقط وإنما عن غيره وغيره إلى أن تصل عبر قطع المراحل كأصحاب المقامات والأحوال.

نسي مسعود أمر فاطمة، ووقع في حيرة أيصدق هذا فيخسر البناء أم لا يصدقه فيخسر الأبناء، وما كاد مسعود يستمرئ حيرته حتى تتابع موت الأولاد، ولم يبق غير حمدون. عندها ترك المنزل بسرعة، سكن مع الناجين في خيمة بناها من حصير الحَلفاء في قطعة أرضية أخرى في انتظار أن يبني منزلا جديدا من الطين .

أصبح المنزل القديم مرتعا للجان يغدون فيه ويروحون ويتزاوجون ويتناسلون تحت أشجار الرمان جزاء بما اقترفت قدم فاطمة.

لم يعد حمدون يجرؤ على الاقتراب من منزلهم القديم، كانت تطارده الأشباح كل مطرد، وكانت أشد ما تكون عليه لما تتبدى على هيأة جنود صهاينة يأتون متخفين وراء أشجار الزيتون، ويقتلعون أشجار الرمان، ويغتالون عرائس فاطمة، ويطاردون عصافير تلك الناحية، وإنه ليسمع زعيقهم هناك.

المغرب

[1] –  يعرف الراوي اليوم كما يعرف حمدون بأنها كانت الصحوة التي تسبق الحتف، كما يحدث لأصحاب التيفوئيد والعياذ بالله.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *