ميخائيل نعيمة الشاعر

خاص- ثقافات

*إبراهيم مشارة

يعتبر الأديب والكاتب والناقد والشاعر اللبناني ميخائيل نعيمة حالة فريدة في دنيا الأدب والثقافة العربية الحديثة ليس لغزارة إنتاجه فحسب ، وإنما لعوامل شتى جعلت منه مثالا نادرا للأديب الفذ والمثقف الواعي والشاعر الحي الوجدان والإنسان الطافح بالمودة والتسامح والإخاء ولكأنه وعى في صدر شبابه مقولة أبي حيان التوحيدي :” الإنسان أشكل عليه الإنسان ” فاستبطن ذاته ونزل إلى قرارة نفسه بمبضع الفكر والضمير فاستأصل منها بذور الأنانية والحسد والشره المادي والغرور والكبرياء الزائف ، وتعهد فيها بذور التضحية والشرف وصدق القول والفعل والتواضع والزهد في متاع الدنيا فأينعت تلك البذور دوحة استظل بها في صحراء الحياة القاحلة ودعا إلى ذلك الظل من تاقت نفسه إلى الحقيقة والجمال وكمال الخلق .

وفي حياة الأستاذ ميخائيل نعيمة هدوء وسلاسة وانسياب تلقائي فهو أشبه بالنهر يجري إلى المصب بلا ضوضاء ولا تيه ، وقد أدرك مصبه منذ فجر شبابه إنه مصب الوجود حيث تتوحد الموجودات وتتناغم فتكون وحدة في كثرة ولونا موحدا في أطياف شتى وحياة واحدة في حيوات متعددة وما الإنسان والدودة والحجر والودق إلا مظاهر للوجود الواحد الحي الفاعل .

وبلا شك فمولده في بلد الأديان والتسامح ( بسكنتا) بلبنان ودراسته في الناصرة ثم في روسيا القيصرية وأخيرا في أمريكا كانت تلك الرحلة منافذا للروح والعقل والضمير حررته من عصبية الدين والقومية الرعناء بلا رقيب من الفكر والشعور وأدخلته في رحاب الإنسانية الخالدة فجاء أدبه صورة لفكره ولوجدانه بلا تزويق أو أصباغ فهو الأديب المسؤول والشاعر الهامس على حد وصف أستاذنا الدكتور محمد مندور لجماعته ، ليس في حياته الخصام والنقد الجارح والكلام النابي على عادة كتابنا في ذلك العهد أو ليس هو القائل : ” عجبت لمن يغسل وجهه كل يوم ولا يغسل قلبه مرة في السنة “؟ بلى وأهميته الشعرية تكمن في تحرير الشعر العربي من الخطابية والحماسة الزائفة والرياء الماكر .

صحيح ففي النصف الأول من القرن العشرين ظهرت مدارس شعرية جددت الشعر العربي شكلا ومضمونا وتخلت عن طرائقه القديمة وقصرته على الوجدان وهموم الحياة الحديثة فجماعة أبولو وجماعة الديوان ولفيف آخر من الشعراء حقق هذا الانجاز .
أما النتاج الشعري لجماعة أبولو فغلبت عليه الغنائية الحزينة وكثر فيه النحيب وطغت عليه السوداوية والإندفاع الصارخ وأما النتاج الشعري لجماعة الديوان- وأخص العقاد بالتحديد- فجاء في معظمه فلسفة وعمارة منطقية، وغيرهاتين المدرستين ممن جرى مجرى حافظ وشوقي فوقع بين مطرقة التصنع والتحذلق البياني وسندان المناسبات.

أما شعر ميخائيل نعيمة فقد تخلص من هذا كله كان كالمنهل أو كانت نفسه غورا مسها بعصاه فانبجست منها عيون رقراقة سلسة تغذي العقل والوجدان توحي إليك كلماتها دون أن ينضب معينها ويهمس لك شاعرها في أذنك حتى يكون قريبا من وجدانك وقلبك دون أن تذهب الكلمات أدراج الرياح إن اعتلى المنابر.
إقرأ معي هذا المقطع من قصيدته”أخي” تجده يقول:

أخي إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله

وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله

فلا تهزج لمن سادوا ولا تشمت بمن دانا

بل اركع صامتا مثلي بقلب خاشع دام

لنبكي حظ موتانا

فهذا المقطع يستعلي على المنابر ويتجافى عن المجامع ، لا تجد فيه أثرا للخطابية إنه مقطع يخلو فيه الإنسان إلى نفسه ويقرؤه لنفسه يغذي به وجدانه وعقله ، وفي هذا المقطع دلائل شتى لعل أهمها منزعها الإنساني المتجلي في كلمة” أخي” ونزوعها السلمي وعهدنا بشعرائنا القدامى يتحمسون لساحات الوغى ويهيبون بالمهند والرديني وقراع الكتائب.
إنه شعر يلج من الأذن ليستقر في القلب فيغير مابه وليس بالشعر الذي يردد في المناسبات بالتفخيم ومد الصوت فيلج من الأذن الأولى ليخرج من الأذن الثانية وفي قصيدته ” صدى الجراس” هنا نقبض على الخصائص الفنية التي تميز شعر ميخائيل نعيمة فالتصنع والتكلف وانتقاء اللفظ البراق والتفتيش في لسان العرب والقاموس المحيط عن اللفظ الدال على الملكة اللغوية أو كد الذهن في البحث عن استعارات رائعة أو تشبيهات غير مسبوقة والنزوع إلى الأبحر الطويلة النفس (الطويل، الكامل، البسيط) وحشد الشعر بالإحالات العلمية والفلسفية ليست من الخصائص الفنية لشعره.
فالشعر عنده سليقة والسليقة بنت الطبيعة والطبيعة أطياف وأحياء ومشاعر وأفكار قدد إقرا معي هذا المقطع من قصيدته ” صدى الأجراس”

لتقع على صحة هذا الرأي:

بالأمـس جلست وأفكـاري

سرحت تستفسـر آثــاري

وترود الحاضر والمـاضي

أملا أن تدرك أســــراري

وأفـاق الشـــــك وأنصـاره

آلام العيـــــــــش وأوزاره

بالله شــكوكـــــي خلـــــني

وحدي ذا الصوت ينـــاديني

ذا صوت صبـــاي يـردده

الــوادي وشـواهق صنـيني

العـــالم مملكتــــــي وأنا

سلــــطان العــالم والدهــر

الــزهر يعطــــر أنفــاسي

والـزهر يولــد في رأسـي

أشبــاحا راقصـة لـــخرير

المـاء وصوت الأجــراس

مابال سكينتي اضطــربت

وجحـافل أشبـاحي هـربت

قد عــاد الشـك وأنــصاره

آلام العيــــــــش وأوزاره

وقد تصرفنا في هذه القصيدة الطويلة لندلل على صحة رأينا في شعره إنه الشعر الهادئ الذي يجد مصبه في وجدان القارئ لافي أذن السامع والشاعر هنا يتعبد في محراب الطبيعة بفرح طفولي ويستذكر شوامخ صنين ويعابث الزهر ويناغي النهر لولا تباريح الشك وتصاريف الحياة ونكد الفكر . وقد كان شعرنا العربي بحاجة إلى هذا النوع من الشعر –شعر القلب والعقل –شعر الإندغام في الطبيعة والوجدان ، فتصير الطبيعة والشاعر واحدا بعد أن كانت موضوعا.

فميخائيل نعيمة ليس الشعر عنده معرفة ( أي علما) وليس الشاعر هو الذي يعدد لك الأشياء ويتلاعب بتشبيهاتها، ويقول لك ماهو ذلك الشىء بل الشعر عنده قبسة من نور الوجود ورشفة من محيط الحياة وحبل سري موصول بمشيمة الكون يحس من خلاله قارئ شعره بإنسانيته تفيض على الوجود وبأخوته حتى للدودة وقد خاطبها مرة في إحدى قصائده بـ “ياأختاه”.

ومازلت أذكر أيام الصبا وأيام الدراسة الإبتدائية حين كنا تلامذة في الصفوف الإبتدائية كيف كنا نحفظ قصيدته ” لست أخشى” ونرددها في الأزقة بل ويرددها كل لنفسه وأنا واحد منهم.
كيف استطاع هذا الرجل أن ينفذ إلى قلب الطفولة العميق الغامض وإلى نفسها العجيبة المتقلبة فتأبى الطفولة أن تنسى تلك القصيدة التي منها هذه الأبيات؟ :

سقـــــف بيتي حــــديد

ركن بيتــي حجــر

فاعصفي ياريــــــــاح

وانتحــــــب ياشجر

واسبحـــي يا غيــــوم

واهطلي بالمـــطــر

واقصفي يا رعــــــود

لست أخشى خطــــر

من سراجي الضئيل

أستـمد البـــــــــصر

كلــما الــليل طــــال

والظــلام انتــــــشر

وإذا الفــــــجر مـات

والنـــــــهار انتــحـر

فاختــفي يـا نجـــوم

وانطفـىء يـا قمـــــر

باب قلبـي حصـين

من صنـوف الكـــــدر

وازحفـي يا نحوس

بالشقــــــا والضـجــر

لست أخشى العذاب

لسـت أخـشى الضـرر

وحلــــيفي القــضاء

ورفيقــي القـــــــــــدر

وقد استخدم الشاعر مجزوء المحدث دون خبن ” فاعلن ” المخبونة وجوبا والشاعر معروف باستخدامه الأبحر النادرة لأنها تحقق مأربه في التجديد .
فلما كبرنا واتسعت مداركنا ودرسنا نظريات الفن والشعر وألممنا بالمذاهب الأدبية وبمستويات الدلالة وحفظنا مئات القصائد القديمة والمحدثة أدركنا ما في هذه القصيدة من جمال فني ، ففي عهد الطفولة الغض فهمنا مظاهر الطبيعة على حقيقتها المطر، الليل ، الفجر ، القمر ، ركن البيت سقف البيت ، وهذه الدلالات تناسب عهد الطفولة وأما دلالاتها الأخرى فهي فلسفية عميقة إنها الحلولية الكونية ، حيث تتماهى ذات الشاعر مع الموجودات الموحدة في كثرتها فتستمد من ذلك الوجود السكينة و الوداعة والرضا بالقدر وتتنعم بإنسانيتها الواعية الخلاقة بلا كبرياء أو جبروت زائف إنها النهر يجري منسابا ثابت الخطى إلى مصب الوجود العظيم .
لهذا نفهم لماذا أعرض ميخائيل نعيمة عن الزواج والنسل والإغراق في المتع الحسية وتعبد في”الشخروب ” فلقد وجد هناك بهجة الروح وسلوى الخاطر وتناغمت خفقات قلبه مع حفيف الشجر وانسجمت أنفاسه مع خرير الماء وجاء شعره تعبيرا عن هذا الموقف الفذ والحالة الإنسانية الفريدة التي أضافت إلى شعرنا ماكان ينقصه وسدت ثغرة كان من حق الغير أن يعتبرها مثلبة ونقيصة في أدبنا فتحية إلى ناسك “الشخروب” في رقدته الأبدية ولنا في شعره الغذاء للروح والفرح الطفولي والموقف الصوفي النبيل.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *