*أنطوان جوكي
تاريخ الأدب يعجّ بالأخطاء والتصحيحات التي تأخذ أحياناً وقتاً طويلاً قبل أن يتمّ تقبّلها. لكن ماذا لو أن واحداً من هذه الأخطاء يتعلّق بأحد أشهر وأهم الكتب في تاريخ الشعر، ونقصد ديوان الشاعر الفرنسي أرتور رامبو (1854 ـ 1891) «إشراقات»؟ خطأ سعى إلى كشفه الباحث الفرنسي إدي بروي في كتاب صدر منذ فترة قصيرة عن دار «أونوري شامبيون» بعنوان «جديدٌ لدى رامبو»، ودافع فيه عن فرضية مزلزِلة مفادها بأن صاحب «فصلٌ في الجحيم» ليس الكاتب الوحيد لقصائد «إشراقات»، مقدّماً لإثبات فرضيته براهين وتحليلات مبلبِلة أقنعت بعض النقّاد في فرنسا وأثارت حفيظة بعض آخر منهم.
تجدر الإشارة، بدايةً، إلى أن اعتبار «إشراقات» أحد أعمق الدواوين الشعرية يعود إلى أسباب عدة، أبرزها الغموض الذي يلفّ طريقة جمع نصوصه وترتيبها. لكن ما نعرفه اليوم هو أن هذا الديوان لم يشكّله صاحبه بل ناشرون متوالون جمعوا فيه قصائد متفرّقة، وبالتالي يختلف مضمونه وترتيب قصائده من ناشر إلى آخر. ما نعرفه أيضاً هو أن معظم هذه النصوص، التي تتراوح بين قصائد نثرية وأخرى عمودية، تنقّلت بين أيادٍ مختلفة قبل أن يتم نشرها في كتاب عام 1886. وفي الطبعة النقدية لـ «إشراقات» التي وضعها الباحث هنري دو بويان دو لاكوست وصدرت عام 1949، لاحظ هذا الأخير، بعد تفحّصه مخطوطة الديوان، أنها لم تُكتَب بخطٍّ واحد، وأن «لا علاقة تربط القصائد في ما بينها، وبالتالي لا أهمية للنظام المتَّبع لترتيبها». وبما أن هذه الملاحظة أصبحت حقيقة لا نقاش فيها اليوم، أليس مشروعاً التشكيك في المسلَّمة التي تقول بأن هذه النصوص تشكّل ديواناً، خصوصاً وأن هذه «المسلَّمة» لا ترتكز على أي برهان أو شهادة، بما في ذلك شهادة صديق رامبو، الشاعر بول فرلين؟ وهل يعقل أن تكون مخطوطة ديوان شاعر بحجم رامبو متباينة وغير متجانسة إلى هذا الحد، وعلى مستويات عدّة (خط اليد، التأريخ، الحبر، قياسات الورق…)؟
بلا توقيع
أوراق مخطوطة «إشراقات» خطّها الشاعران رامبو وجيرمان نوفو (1851 ـ 1920) ولا تحمل أي توقيع. والباحثون في ما بعد هم الذين اعتبروا أن رامبو هو كاتبها ونوفو مجرّد ناسخ لبعضها. لماذا؟ هل لأن العبقري رامبو لا يمكن أن يكون قد اضطلع بدور الناسخ، في نظرهم؟ وماذا لو أن العكس صحيح، خصوصاً وأننا نعرف منذ فترة قصيرة أنه اضطلع بمثل هذه المهمة آنذاك؟ لماذا أهمل الباحثون فرضية أن يكون نوفو مؤلّف «إشراقات»، أو على الأقل عدد من نصوصه، علماً بأن في الأوراق التي خطّها رامبو بيده ثمة علامات واضحة تدلّ على أنه أدّى دور الناسخ لنصوصها، كمميزات التبييض الواضحة فيها وبعض أخطاء القراءة التي لا يقع فيها سوى مَن ينقل نصّاً هو ليس كاتبه؟ وعلى أي إثبات أو شهادة ارتكز الباحثون كي ينسبوا الديوان إليه؟ الشهادة الوحيدة المتوافرة هي شهادة فرلين الذي سلّمه رامبو أوراق «إشراقات» لدى خروج الأول من السجن، وطلب منه تسليمها إلى نوفو الذي لم يكن فرلين يعرفه. لماذا هذا الطلب المثير للفضول؟ ولماذا لم يتناول فرلين هذه الأوراق في أي تصريح أو نص نقدي، بخلاف ما فعله ـ بإفراط ـ مع سائر قصائد صديقه؟ هل لأنه كان يُدرِك بأنها ليست لرامبو؟ ما نعرفه هو أن اللقاء الأخير الذي جمعهما كان عاصفاً، بالتالي لم تسنح الفرصة لهما خلاله للتحدّث بشأن هذه الأوراق. التوضيح الوحيد الذي يتفوّه فرلين به حولها هو أن قصائدها كُتِبت بين عامَي 1873 و1875. لكن أين كان هذا الشاعر خلال تلك المدّة؟ في السجن. وبالتالي، التاريخان اللذان يتقدّم بهما مجرّد افتراض لا يمكن التسليم بدقّته، وغيابه أثناء كتابة هذه النصوص لا يُثبِت سوى جهله ظروف كتابتها. من هنا ربما صمته بشأنها.
افتراقات
جميع هذه الأسئلة المشروعة والمعطيات يطرحها الباحث بروي في كتابه، قبل أن يشير إلى أن نسْبَ «إشراقات» إلى رامبو وحده يحوّله إلى الديوان الأكثر هرمسية، بينما نسبه إلى نوفو أيضاً يفقده هذه الهرمسية ويمدّ قصائده بتماسكٍ كبير. وفي هذا السياق، يتناول أولاً قصيدة النثر «بعد الطوفان» التي تفتح الديوان ملاحظاً كم أنها تختلف، مثل قصائد كثيرة غيرها منه، عن أسلوب وطبيعة ديوان رامبو السابق، «فصلٌ في الجحيم». وفي معرض برهنة ذلك، يدعونا إلى تنشّق هذه القصيدة بجميع حواسنا لأنها قصيدة نور وعطور وأصوات ونكهات، الأمر الذي يجعلها تنتمي إلى عالم نوفو، شاعر مقاطعة بروفانس الفرنسية و»ابن شموسٍ حقيقية»، كما عرّف بنفسه في واحدة من قصائده. نوفو الإنسان الحسّي، حتى في تصوّفه، عاشق النساء والمسرح والرسم الذي نزع إلى اختبار كل شيء ولمس كل شيء، متذوّقاً مناظر الجنوب النيّرة والنباتات العطِرة والمنازل الملوّنة، باختصار كل ما يميّز مقاطعة بروفانس، بما في ذلك الموت الذي شخص الشاعر باكراً به، نظراً إلى فقدانه أمّه ثم أخته فأخاه في طفولته.
وقبل قصائد النثر التي يتضمّنها ديوان «إشراقات»، كتب نوفو، وفقاً إلى بروي، قصائد كثيرة مشابهة لها شكلاً ومضموناً، كما في ديوانه «نوتات باريسية» حيث التشييدات الوصفية فيه تُنبئ وتمهّد لتلك الموجودة في «إشراقات»، وبالتالي تختلف كل الاختلاف عن عبارة رامبو الشهيرة «أنا هو آخر» التي يعتبر الباحث أنها تلخّص أعماله الشعرية، منذ «فصل في الجحيم»، بل منذ قصائد النثر السير ذاتية «صحاري الحب» (1872). إذ لا «أنا» في «بعد الطوفان» أو سائر قصائد «إشراقات» النثرية، بل لوحات صافية كتلك التي كان يرسمها نوفو الفنان؛ لوحات شهوانية وغريبة مثل نصوصه، تتجلى فيها رؤى لمدنٍ وطبيعة تستحضر «الصور الرائعة في المحفورات»، حيث ينشط الموت في المنزل العائلي كما «في منزل ذي اللحية الزرقاء»، ويفقد «الأطفال المكلومون» الحليب الأمومي والأم معاً («انسكب الدم والحليب»)؛ حيث تلطّف الحياة ومشهدُها الحيوي، نباتاً وحيوانات، فكرة الطوفان، ويجتمع البشر والثقافة والطبيعة ضمن وحدة أوّلية مستعادة، على الرغم من هشاشتها. رؤى تبقى الحياة وأبراجها القديمة فيها بعد تواري الطوفان والموت («إنه مللٌ!»)، ومعها ذلك البحث الأبدي والعبثي عن المرأة «الملكة»، لأن «جميع النساء ملكات»، بالنسبة إلى نوفو، وأيضاً ساحرات يشعلن جمرهنّ في عقل وجسد الرجل المحكوم بعدم بلوغ ما تعرفه المرأة.
تعاون
لكن بما أن ديوان «إشراقات» لا يقتصر على قصائد النثر المذكورة، بل يتضمن أيضاً قصائد عمودية، لا يهمل بروي فرضية أن يكون ثمرة تعاون بين رامبو ونوفو. وفي هذه الحال، كيف اشتغل الشاعران على نصوصه؟ وهل علينا أن نوزّعها عليهما وفقاً لشعرية كلّ منهما الخاصة؟ أم أن نستخلص تأثيرات متبادلة فيها، وربما عملاً مشتركاً عليها خلال جلسات كتابتها أو نسخها، خصوصاً أن طبيعة هذا الديوان، الذي يمهّد في جانبه «السورّيالي» لانبثاق الحركة السورّيالية، تجعل فكرة العمل المشترك فيه محتملة، تماماً كما كتب أندريه بروتون وفيليب سوبو معاً كتاب «الحقول المغناطيسية»؟ فحين نقرأ بعض هذه النصوص، حين نصغي إليها، يتملّكنا الانطباع بأن عمل رامبو ونوفو عليها اتّخذ أحياناً شكلاً قريباً من تقنية «الجثّة اللذيذة» السورّيالية، أي أن كلّ منهما كان يضيف رؤية أو جملة على رؤية أو جملة الآخر، أثناء كتابة كل قصيدة، حتى إنجازها. مهما يكن، وعلى ضوء جميع هذه المعطيات، يبدو نوفو حاضراً بقوة في ديوان «إشراقات»، على الأقل بالقدر نفسه الذي يحضر رامبو فيه. ولا عجب في ذلك، فمع أن جميع القصائد التي كتبها في حياته ليست بالمستوى نفسه، لكن عدداً مهماً منها ينمّ عن عبقرية شعرية صافية، كما أشار إلى ذلك الشاعر أندريه بروتون، صاحب العين النقدية الثاقبة، الذي قال أيضاً في كتاب «جريمة صارخة» (1949): «رامبو ـ نوفو، نوفو ـ رامبو، لن نكون قد قلنا أي شيء، لن نكون قد تجاوزنا شعرياً أي شيء طالما لم نوضّح طبيعة علاقتهما». قولٌ يعزّز فرضية بروي، وبالتالي احتمال أن يكون نوفو قد كتب أو شارك في كتابة نصوص الديوان المذكور خلال تلك الفترة المؤاتية التي شكّلها استقراره مع رامبو في لندن على مدى بضعة أشهر. وفي هذه الحال، ذلك الذي أراد «الحرّية الحرّة» وصديقه الذي أراد «الحقيقة الحقيقية» لم يقصدا لندن للهو في ضباب هذه المدينة. و«آخر» رامبو لم يكن فرلين، البورجوازي الممتعِض أبداً، الذي لا يمكن أن تنتهي الأمور معه إلا «في الجحيم»، بل نوفو، الشاعر «ذا النعل من ريحٍ» و«المتشرّد السماوي» مثله. ولذلك، يدعونا الباحث إلى توقيع ديوان «إشراقات» باسميهما.
بناء الأسطورة
يبقى أن نشير إلى أن بروي، بعيداً عن الرغبة في تدمير أيقونة شعرية كبرى وضعت ديواناً صاعقاً في حداثته ومضمون خطابه («فصل في الجحيم»)، وقبله قصائد أولى رائعة، يسعى من خلال بحثه إلى إظهار أن أسطورة رامبو العبقري التي تشكّلت انطلاقاً من ديوان «إشراقات»، ثم من تخلّي هذا الشاعر عن الكتابة الشعرية باكراً للسفر عبر القارات ومزاولة مهن مختلفة، ليست سوى.. أسطورة، وأن التسرّع في جمع قصائد هذا الديوان ونسبه إليه يكشف «ميلاً لدينا إلى تشييد الأساطير وإرضاء أنفسنا بها، وبالتالي إلى النظر إلى الواقع بطريقة مشوَّهة».
لكن قيمة بحثه لا تقتصر على ذلك، بل تكمن أيضاً في حثٌه إيانا إلى إعادة الاعتبار إلى الشاعر جيرمان نوفو الذي يلفّه النسيان ولا نعرفه ـ حين نعرفه ـ إلا من خلال إصدارات ومقاربات نقدية تبقى ما دون منجَزه الشعري. شاعر لم يترك أضواء الحداثة والشهرة تعميه ولم يعبأ باحتلال أي موقع، بل كرّس وقته وكتاباته لبلوغ جوهر الحياة وقوله. ولا شك في أن هذه الحقيقة التي تتجلّى بقوة في نصوصه هي التي دفعت القارئ البصير الآخر، لوي أراغون، إلى القول: «نوفو ليس تلميذ رامبو بل مساوياً له».
………………………………….* يمكن أيضاً ترجمة العنوان بـ «ثمّة شيءٌ من نوفو في رامبو»، نظراً إلى أن كلمة «nouveau» بالفرنسية، التي تعني «جديد»، هي أيضاً اسم عائلة الشاعر جيرمان نوفو.
تقنية «الجثة اللذيذة»
حين نقرأ بعض هذه النصوص، حين نصغي إليها، يتملّكنا الانطباع بأن عمل رامبو ونوفو عليها اتّخذ أحياناً شكلاً قريباً من تقنية «الجثّة اللذيذة» السورّيالية، أي أن كلّ منهما كان يضيف رؤية أو جملة على رؤية أو جملة الآخر، أثناء كتابة كل قصيدة، حتى إنجازها.
_________
*الاتحاد
مرتبط