الرواية التاريخية.. العلاقة بين الفن والواقع

*جعفر العقيلي

تحظى الرواية التاريخية باهتمام متزايد من قِبَل الناشرين عربياً، كاستجابةٍ لاتجاهات القراءة ولمبدأ “العرض والطلب” في سوق الكتاب، بخاصة بعد تصدّرها القوائم القصيرة للجوائز الأدبية المعتبَرة في السنوات الأخيرة.

لكن هذا النوع من الكتابة ما زال مُحاطاً بعدد من الإشكالات المتصلة بالتجنيس، وبطبيعة العلاقة بين الفنّي والواقعي، وأولوية الإخلاص للوقائع أو اللجوء إلى التخييل، حتى إن هناك من ينظر إلى الرواية التاريخية على أنها “عمل وثائقي أو توثيقي” لا أكثر. وإن انطوى العملُ على شيء مما لم يذكره التاريخ، قد يُعدّ هذا “عيباً ونقصاً” يضعه في خانة “اللا أمانة”!

ومن بين الذين كتبوا الرواية التاريخية عربياً، يبرز اسم الكاتبة المصرية الراحلة رضوى عاشور، والتي اشتُهرت بثلاثية “غرناطة” التي نالت الجائزة الأولى للمعرض الأول لكتاب المرأة العربية في القاهرة (1995)، بعد أن نال الجزء الأول منها جائزة معرض القاهرة للكتاب لأحسن رواية (1994).
عاشور، كانت قد قالت خلال حوارٍ أجراه معها معدّ هذا التقرير قبل رحيلها، إنها لا تحبذ استخدام مصطلح “الرواية التاريخية”، لما له من ارتباطات سلبية أحياناً، ولقناعتها بأن أيّ رواية هي تاريخية بمعنى من المعاني. مفضّلةً تعبير “الرواية التي تدور أحداثها في الماضي”.

وبحسب صاحبة “الطنطورية”، فإن الرواية التاريخية تحتاج لكي تُنجَز، أن يتعرف الكاتبُ على الماضي الذي يتناوله، وأن يطلّ على مفردات الثقافة وعناصر الحياة اليومية فيه، وهو ما توفره الكتب والوثائق وسواها. وتتم هذه الخطوة في مرحلة التحضير للعمل، مع الإشارة إلى أن الروائي لا يقوم بملء الفراغات بالوثائق أو المعلومات، لأنه لا ينجز بحثاً أو دراسة، ولا يسعى لإثبات حجة أو التدليل على فكرة، فكتابة العمل الروائي أمر مختلف.

ففي إطار الرواية الواقعية، توضح عاشور، يحتاج الكاتب لأن يقف على أرض معرفية صلبة، وهو ما توفره له القراءات، وهي قراءات لن تدخل بشكل مباشر في النص، لأن الخيال سينطلق منها ويمضي في مساره. بمعنى آخر “أنت لا تزيّن نصك أو تدعّمه بوثائق أو أحاديث عن وقائع تاريخية، بل تغدو حصيلتك المعرفية (المتراكم منها وما سعيتَ إليه من أجل هذا النص المحدد) رافداً من روافد النص، يصبّ في مجراه ويسهم في تشكيل بنيته ونسيجه وإيقاعاته”.

ووفقاً لعاشور، موضوع الأجناس الأدبية الجامدة “موضوع إشكاليّ”، ففكرة الجنس الأدبي تم تجاوزها في الخطاب النقدي منذ عقود، والحكي المدوّن (على هيئة رواية) عن بشر يفعلون وينفعلون في سياق تاريخي بعينه، “فن مفتوح، مرنٌ فضفاض، أقرب لحوت الأسطورة في قدرته على ابتلاع أجسام كاملة”.

ومما كانت عاشور تؤمن به من وحي تجربتها في الكتابة الإبداعية، أن شكل الرواية يسمح بـ”إسقاط الحدود بين النص وخارج النص، بما يتيح للقارئ الانتقال بحركة تلقائية غريبة بينهما، حتى ليختلط عليه الأمر وهو يقلّب الصفحات، فلا يعرف في أي حيِّز منهما يقيم”، وهذه السمة في فن الرواية هي ما يجعل الرواية “شكلاً ديمقراطياً”، تتحدى سلطة مؤلفها بأصواتها المتعددة، ولا ينحصر هذا في المعنى الباختيني للكلمة، بل يشمل التقاطعَ بين النص والتاريخ، أو المتخيَّل والواقع، حيث “تقاطُع الحدود الفاصلة بين عالمٍ أنشأه فردٌ كاتب واهماً أنه يملكه ويحكم حدوده، وزمن تاريخي أرحبَ وأعقد، لا يستطيع المؤلفُ الفرد التحكمَ في مساراته”.

لذلك، كان إقرارُ عاشور أن الحدود الفاصلة بين التاريخ والرواية -وبين التأريخ والرواية كذلك- “حدودٌ هشّة، قابلة لإعادة النظر فيها أو إسقاطها والانتقال بين المسعيَين بسلاسة ويسر”.

من جهتها، تقول الكاتبة الأردنية سميحة خريس، إن للتاريخ إغواءه، وإن الروائيين يفتِنُهم تصاعُد الأحداث وتراجيديتها وغرائبيتها التي تهزأ من كلّ تخييل يرتكبه العقل، فيتجهون إلى الرواية التاريخية.
وتضيف أنها تكتب هذه الرواية، ليس بسبب الرغبة في الارتداد للماضي، أو الهروب من فداحة الحدث الراهن، أو الخوف من تناول الواقع الذي يحيط بنا. موضحةً أنها تصبح جزءاً من “فتنة الحدث التاريخي” بنصّها الجديد، بل إنها تحمل هذا الحدث إلى “أفق مختلف” بتقديم قراءة مغايرة له، فهي لا تنسخ الماضي ولا تستعيد تفاصيل كتب المؤرخين ولا شهادات مَن مضوا، بقدر ما تحاول كشف الماضي من زوايا جديدة مسكوت عنها، طمعاً في فهم الواقع الراهن، والملابسات التي أفضت بنا إلى ما نحن فيه اليوم.
وتقول صاحبة الروايات التاريخية “يحيى” و”دفاتر الطوفان” و”بابنوس”، إنها تطمع باستشراف المستقبل عبر تقليب صفحات الماضي، وتحاول أن تكون ذاكرة دقيقة لا تُنسى، في حين أن الإنسان مغرَم بالنسيان، ويعيد تكرار أخطائه ويقع في الشِّباك نفسها كل مرة!

وترى أنّ للروائي قراءته المغايرة، وهي على الأغلب الأعم تتخندق في صفّ المهمشين والمظلومين، لذلك يحدث أن “يزوّر” بعض الوقائع، فيشوّه ما يريد تشويهه ويجمّل ما يريد. وتتابع في هذا السياق: “الروائي يشعر بالحرية ليقترف ما يشاء في روايته، وهو يصنع رواية موازية للواقع تقوم بقلقلة الروايات السائدة أو تثور عليها أو تتفحصها، إنه في لحظة زهو عالية يظن فيها أن الحقيقة ملْكَهُ وحده وأن كل ما قيل حول الحدث نفسه مجرد تزوير”.

ولأن الروائيين بحسب خريس، ينسجون العالم كما يتمنّون ويحلمون، ويقودون العصر الحالي لاعتناق رواياتهم كأنها الأكثر حضوراً وحقيقية، فإنها تقوم بالتحايل على النص ليبدو واقعياً للغاية، وذلك بتناول حياة شخصيات حقيقية إلى جانب شخصياتها المتخيلة، فيختلط الأمر لتكون الرواية في النهاية “شاهداً على عصرٍ مضى، ولكن بعيونٍ ترى شيئاً جديداً، وغاياتٍ تطمح إلى هدّ العالم وإعادة بنائه من جديد”.

وبالنسبة إلى الروائي الأردني أحمد الطراونة، الذي فازت روايته التاريخية “وادي الصفصافة” بجائزة الدولة التشجيعية وحُوِّلت إلى عمل مسرحي ضخم، فإن الاستناد للتاريخ يتيح للروائي الإفادة من روافد متنوعة لإغناء عوالمه السردية، ويدفعه لخوض غمار التجريب وتطوير أدواته الفنية وتجذير الوعي بفكرة الكتابة ككل.

وهو يؤكد أن الاهتمام بالتاريخ لم يغِب عن الرواية العربية منذ إرهاصاتها الأولى، متوقفاً عند أسئلة من المفيد طرحها هنا: إلى أيّ حدّ يمكن للتاريخ أن يستند إلى العمل الإبداعي لتقديم ذاته، أو يرتهن لخيال المبدع الذي يبني عوالمه الخاصة حول الحكاية الأم؟ إلى أي حد يُسمح للمبدع أن يجتزئ من هذه الحكاية بما يخدم حكايته المختلَقة؟

انطلاقاً من ذلك، يقول الطراونة إن العلاقة بين التاريخ كمادة جامدة وبين فن الرواية ما تزال “علاقة جدلية” تحكمها قدرات الكاتب وسطوة أدواته لتطويع المادة التاريخية وتشكيلها من غير أن يتجنّى أيّ من الطرفَين على الآخر.
ويرى أن تجسيد الوثيقة التاريخية من خلال إعادة الحياة لشخوصها وبخيالٍ يُنتج الواقعةَ بشرطِ الوعي بزمانِها وإدراكِ مكانها بعيداً عن النقل، هو شرطُ الإبداع قبل أيّ شيء آخر، وإلّا سنقع في فخّ التأريخية وسنبقى رهيني التوثيق. فلا بد من التفريق بين العمل الإبداعي الفني مكتمل الشروط حتى وإن كان تاريخياً، وبين العمل التأريخي والتوثيقي الخالي من الفن.

ويوضح أن الروائي الحقّ عندما يستدعي التاريخ فإنما ليحاكمه بشروط الواقع وليحاول فهم الحاضر وتطوير الوعي به، خاصة وأن النص الروائي يؤثّث ما لم تؤثّثه الوثيقةُ لتلك الحقبة، وهذا ما يسوّغ للروائي “انتهاك قدسية” الواقعة التاريخية، واختلاق شخوص من مخيّلته يحمّلهم أدوار البطولة.

ويستحضر الطراونة تجربته في “وادي الصفصافة” التي تؤرخ لـ”ثورة” الكرك (جنوب الأردن) على الأتراك أواخر العهد العثماني. إذ قام باستحضار شخصية “حسن” لتكون الضمير الجمعي لمئات الأشخاص الذين قضوا من غير أن نسمع أصواتهم في الرواية التي تصنَّف على أنها “بوليفونية”، وهذا يشير إلى مساحة كبيرة متاحة للروائي للتعامل مع الواقعة ضمن نطاق التاريخ، شرطَ أن يحافظ في سرديّته على تعدد وجهات النظر استناداً للحكاية الأم، وشرطَ ألّا يخدش مقاصد هذه الحكاية واتجاهات الصراعات التي تدور فيها.

“واجب الرواية التاريخية أن ترمّم ما أُهمل وتَكَسّر على حواف الزمن ليعود المشهد متّسقاً ومكتملاً”، يقول الطراونة مستشهداً بتجربته، إذ إن جميع كتب التاريخ التي وثّقت أحداث “ثورة الكرك”، لم تستطع تصويرَ الحوار الداخلي لشخصٍ يقف على حافة القلعة التاريخية الشاهقة ينتظر أن يُرمى به حيّاً إلى قاعٍ سحيق بعد أن ربطه الأتراك بصخرةٍ تفوقه وزناً.
__________
*المصدر: موقع ناشر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *