خاص- ثقافات
*ترجمة: سعيد بوخليط
تقديم : في عمله :” ومن بعدنا الطوفان”(منشورات بايو) ،يقرأ ثانية الفيلسوف الألماني بيتر سلوتيرديك التاريخ الغربي ويحذرنا من حداثة قامت على احتقار النسب والقطع مع الأسلاف.
انتباه،هل نحن مصابون بالدّوار!فمع كتابه :”ومن بعدنا الطوفان”،يدعونا سلوتيرديك إلى قراءة جديدة تعيد صقل وتنعش التاريخ الغربي.بين طيات صفحات كتابه هذا المتطلع بكيفية مدهشة،يتوخى أكثر الفلاسفة إثارة للجدال في أوروبا منذ بحثه المعنون ب :”قواعد للمنتزه الإنساني”(1999)،الذي ناقش بين صفحاته البحث عن تحديد قواعد جديدة لتربية الكائن البشري وسط عالم افتقد معه المستند الخطي ريادته. قلت يريد إعادة فحص التاريخ الغربي عبر مصفاة جديرة بالاهتمام :”التجربة المضادة للسُلالة” .من المسيح إلى أفلاطون، ثم الترميدوريون(جماعة من النواب التفوا لإسقاط روبسبير) وصولا إلى لينين،نلاحظ دائما قوى تبرمت من السلالة،وفي شقاق تام مع سلوك وثقافة الآباء، السائد لحظة كتابة الحداثة.منطلق كي يندفع،والآخرين معه،يشرح الفيلسوف:((نحو سقوط متواصل،بحيث يمثل غياب تبكيت الضمير الواجب الأول للراديكاليين)).باختصار،يقتلون الأب ثم يتوجون أنفسهم،كما فعل نابليون،قصد العمل على الارتقاء بالعالم.لكن أي عالم؟
س-يبدأ كتابكم الجديد بكلمة ل مدام ماركيز دو بومبادور :“ومن بعدنا الطوفان”. بل أفادكم أيضا كعنوان.وفق أي شيء يمثل لكم هذا التعبير الخفيف مظهريا،والطائش،” فكر الحاشية”جدا، علامة تاريخية لازالت قوية حتى اليوم؟
ج-يؤطر الكتاب خطابان نسائيان :فعلا، قولة ماركيز دو بومبادور :”فليأت الطوفان بعدنا”،التي أدلت بها خلال احتفال، بعد علمها بانهزام الجنود الفرنسيين.ثم كذلك قولة :”شريطة استمرار هذا”،أي التضرع الذي تتلفظ به “ليتيزيا”،والدة نابليون،مع كل نص بارع الأسلوب يبدعه ابنها.يبدو لي حقا أننا نعيش حسب هذين النموذجين أزمنتنا الغابرة. الهفوة الصادرة عن عشيقة لويس الخامس عشر،والتي أعلنت عنها منذ سنة 1757 ،ستشكل بالنسبة إلي الشعار السري للقرون المقبلة،و”أسلوب بومبادور”هذا، يتأكد كل مرة لا يشبه خلالها الواقع قط سيناريوهات التقدم مثلما تمليها عليها استعداداتنا أو سذاجتنا.يلزم، في حقيقة الأمر،جرعة قوية من السذاجة قصد الاعتقاد بإمكانية تحسن الأشياء .حينما لا تُسند تلك السذاجة بمسار الأشياء، سيهيمن دائما عنصر كَلْبي. هكذا نرى استسلام شعوبنا بأكملها وراء الانتشاء بالسوداوية والتشاؤم.يحق لنا الاعتقاد أن فرنسا حاليا ليست بعيدة جدا عن هذا المآل.صيغة تشاؤم مترف،غير أنه يضغط بالتأكيد على بلدكم.
س- لكن ألا تعتقدون أننا نعاين في المقابل مع عودة الديني-لاسيما في بلدنا الذي تعرض حديثا لهجمات ارتكبت باسم الإسلام،أو في إفريقيا أو أمريكا مع الحركات الإنجيلية الكبرى- حضور فكر متعلق بالأبدية،ولاهوتية للخلاص،قصد الثأر من فكر الطوفان هذا؟من ثمة حلم باستقرار محافظ،وإن تحتم أن يقتل كي يصير كذلك؟
ج-لا أعتقد بوجود ”عودة للدين”.أعبر بهذا الخصوص عن شكوك جد قائمة.لقد كان دائما هنا،على نحو أقل تجليا. يقوم خلال كل حقبة عدد معين من الممارسات الذهنية التي تصير دينا، لكنها في الحقيقة مجرد ممارسات، باطنية أو خارجية.لايُطرح لدي السؤال بهذا الخصوص وفق حدود مقولات الديني،لكن بالأحرى حسب مفاهيم التصميم،الإرادة، وكذا عقد التمرٌّن.هل يملك الفرد مايكفي من الإيمان كي يتوخى اللااحتمال ويحقق المستحيل؟هل عثر على نسق ممارساته وكذا مدربه المتعالي؟فيما يتعلق بقصدية هذه الممارسات،الطوفان أو الفردوس،فهما مترادفان :تتبنى جماعة الشباب الذين يقتلون أنفسهم لحظة قتلهم الآخرين حالمين بحياة أبدية،نفس موقف اللامبالاة نحو استمرارية علاقات الحياة بين الكائنات الإنسانية عبر الدعوة إلى الطوفان.أول المسيحيين،كانوا جهاديين خلال القرن الثاني.اتصفوا بنفس جنون الموت،وشكلت النظرية اللاهوتية المسيحية الأصلية،مجهودا من أجل كبح هذا الجنون الذي يبحث عنه المرشحون للاستشهاد.حينما اختلقوا المَطْهر،سيفتح ذلك طريقا ثالثا سمح لأجدادنا بتجنب الإرهاب المسيحي الذي يهدد الجميع بالجحيم الأبدي.
س-لنترك جانبا اندفاعات الموت المتعصبة.ألا يوجد، على أية حال اليوم،تطلع نحو ديمومة للأثر؟أن يبتعد الطوفان؟نتكلم بهذا الخصوص عن الاهتمام بالبيئة،احترام الأرض،وكذا ”استدامة” الفكرة التي يلزم تخليدها من طرف العالم الذي نعيش فيه.ليس تبعا لمبدأ “شريطة أن يستمر هذا” لكن ”سنعمل على نحو استمرار هذا”.
ج–بالتأكيد،نتكلم منذ ثلاثة أو أربعة قرون عن ديمومة الايكولوجي،لكن يزداد في ذات الوقت تدمير البيئة أكثر فأكثر. تعايش الإحاطة التامة بالوضعية ثم تفاقمها المستمر،يجعلنا نساهم كليا على هذا المستوى في شيء شيزوفريني حقا. مفهوم الاستدامة – أو (Nachhaltigkeit)،كما تعبر عنه اللغة الألمانية،وهي كلمة تنحدر من لغة الاقتصاد الغابوي الألماني خلال القرن التاسع عشر- تبوأ ضمن الخطاب العالمي حول الاقتصاد والسياسة مقام صيغة تنويم مغناطيسي ذاتي.لكن أبحاثا أنجزت حديثا جدا من طرف خبراء حقول مختلفة متداخلة،انصبت على آفاق زمانية مفترضة بخصوص تطورات “دائمة”،ستظهر بناء على وجهة نظر معاصرة،أننا نقدر كحد أدنى خلال خمسين سنة توقعات الديمومة،ثم مائتي سنة كأقصى حد. مما يؤكد أن عدم التماثل الحالي بين الوعي بالماضي ثم ترقب المستقبل قد لامس أبعادا لاتطاق :فحينما نلتفت جهة الماضي،تتجه أنظارنا نحو مدى قابل للتقدير بملايين السنين بل وأكثر. في المقابل،لم يجرؤ بعد أي شخص، كي يتوقع عبر المستقبل مسافة تتجاوز قرونا معينة.لانحدق في الشمس والمستقبل.

ثقافات موقع عربي لنشر الآداب والفنون والفكر يهتم بالتوجه نحو ثقافة إيجابية تنويرية جديدة ..!