*محمد الأسعد
لم يستطع القليل من الترجمات العربية لهذا النمط الشعري، المسمى «هايكو» في اليابانية، الوصول إلى الوسط الأدبي العربي بشكل ملائم، ليس بسبب قلة الترجمات، بل بسبب أن هذا النمط الشعري لم يقدّم تقديماً جاداً، واقتصر التعريف به في البداية على ملحوظات سريعة، في الوقت الذي كان فيه لهذا النمط دورٌ كبير في اهتزاز الشعر المكتوب بالإنجليزية منذ مطلع القرن العشرين، كما نأى بعض من تعرّف إليه بنفسه عن الإلمام بالثقافة التي صدر عنها، البوذية المعروفة ببوذية الزن، أو «بوذية الماهايانا»، تمييزاً لها عن أشكالها التي عرفت بها في الهند، ثم الصين، بل وزعم بعضهم أن لا علاقة لهذه الخلفية الثقافية بقصيدة «الهايكو». وإذا أضفنا إلى هذا عدم تفهم المترجم العربي للتكامل بين عدد من الفنون في تلك البيئة الشرقية، فن الشعر، وهندسة الحدائق، وتنسيق الزهور، وآداب تقديم الشاي.. إلخ، يمكن أن ندرك لماذا لا تزال هذه القصيدة تتعرض لسوء الفهم في الصحف، والكتب العربية التي تناولتها إلا فيما ندر.
الطريف في الأمر أن الاهتزازات التي أحدثها «الهايكو» في الشعر الإنجليزي وصلت إلى حركة التجديد الشعري العربية متأخرة في الخمسينات، ولم يعرف العرب الذين تلقوا هذه الاهتزازات مصدرها الأصلي، أي لم يتعرّفوا إلى الدور الذي لعبه الشعر الياباني في تخليص الإنجليزية من تقليدية، ونمطية، وتهويمات شعر العصر الفيكتوري، وبالتالي جهلوا الطبيعة الأساسية والقوانين الجمالية لشعر الحداثة المستوحاة من القصيدة اليابانية.
ويتبين لنا الآن أن ما أخذته العربية من «التجديد» الإنجليزي كان «صدى» الصدى. بل واعتقد بعضهم أن الشعر الياباني أصيب بصدمة الحداثة حين التقى بالشعر الإنجليزي، وليس العكس، كما هو واقع الحال، حين صدم الأول الذائقة الغربية، ودفعها إلى إعادة النظر في مفهومها للشعر، والفن بعامة. يضاف إلى هذا أن لا أحد كلف نفسه وهو يترجم شعر «الحداثة» الغربية إلى العربية متابعة هذا الحدث الشعري في مظانّه الأساسية، ولو حدث ذلك لتمت الاستفادة بشكل أعمق من تيار الحركة الحديثة في العالم، ولسمعنا بأسماء شعراء أعمق إنسانية، وأشد إخلاصاً لمهمتهم الشعرية، أمثال باشو، وأوتسوجي، وباسون، وشاوها، وتشيو وإسّا.. وبقية هذه الأسماء التي شغلت مثقفي اللغة الانجليزية منذ مطلع القرن العشرين، وجعلتهم يعيدون النظر في تصوراتهم ومفاهيمهم المتكلسة.
نعرف الآن من بقايا «صدى» الصدى نمط القصيدة العربية القصيرة المركزة، ونعرف ما دعي بقصيدة «الحياة اليومية»، ونعرف هذا الانشغال بوصف الأشياء في المكان والزمان، ولكننا لا نعرف وفق أي مقاييس أخفقت هذه التجارب أو نجحت، لأننا لا نعرف المبادئ الجمالية التي اعتبرها شعراؤها منطلقاً لهم. والحقيقة أنهم هم أنفسهم لم يكونوا على بينة من الأمر، بل كان همهم احتذاء نماذج جاءتهم من اللغات الأجنبية مجردة من قرائنها النقدية. وشارك في هذه الحفلة نقاد الشعر العربي، سواء كانوا تقليديين، أو مجددين، كأن الكلّ اتفق على إخفاء سرّ «الصنعة»، وترويج البضاعة الغريبة. بالطبع لم يكن الحال كذلك في اللغة الإنجليزية، والشعر المكتوب بالإنجليزية، فقد كان الأمر مختلفاً، أي نزيهاً بعيداً عن ألعاب الحواة التي يجيدها الشعراء العرب ونقادهم.
ومنذ العام 1909 عرفت حركة «التصويريين» الأمريكيين أشكالاً شعرية يابانية مثل «التانكا»، و«الهايكو»، وشعر بتأثيرها عدد منهم، من أمثال جون فليتشر، وباوند، وهيلدا دولتل، وآمي لويل، وعدد من معاصريهم، وأتباعهم. وبدأ هؤلاء تحت هذا التأثير بكتابة ما اعتقدوا أنه «هايكو» كتمارين للوصول إلى شكل فني أكثر صلابة من الأشكال الشعرية الأخرى.
ويتضمن بيان «التصويريين» الأول ما يمكن اعتباره منهجاً لكتابة الشعر في ست نقاط، أولاها استخدام لغة الكلام المشتركة، على أن تستخدم دائماً الكلمة المعبرة بدقة، وليس الدقيقة تقريباً، أو التزيينية. وثانيتها، اعتقاد التصويريين أن التعبير عن فردية شاعر قد يكون أفضل باستخدام الشعر الحر، لا باستخدام الأشكال التقليدية، ففي الشعر يعني الإيقاع الجديد فكرة جديدة. وثالثتها، السماح بحرية مطلقة في اختيار الموضوع، ورابعتها، تقديم صورة، ليس لأن هذه الجماعة مدرسة رسامين، بل لأنها تعتقد أن وظيفة الشعر تجسيد خصائص الموضوع بدقة، وليس التعامل مع العموميات المبهمة مهما كان من أهميتها، وعلو صوتها، وخامستها، إنتاج شعر صلب وجلي لا يشوبه غبش، ولا تحدد أبداً، وسادستها أن أغلبية أفراد هذه الجماعة ترى أن التركيز جوهر الشعر.
هذا هو المنهج الشعري الذي ولد بتأثير الاهتمام بالشعر الياباني، مضافاً إليه الاهتمام بالكتابة التصويرية، والصينية بخاصة. وستتردد أصداء هذا المنهج في الكتابات النقدية، وأوضحها أصداء كتاب «الشعر والتجربة» لأرشيبالد ماكليش (1960) الذي سيصبح مرجعاً معتمداً لدى الكثير من النقاد العرب، بعد أن ترجمته د. سلمى الجيوسي إلى العربية في العام 1963.
ولا يفوت الباحث وشاعر «الهايكو» كينيث ياسودا، ملاحظة أن فهم «التصويريين» للهايكو كان مضطرباً، ودليله النصوص الإنجليزية التي حاولت تقليد النمط الياباني، ولم تكن ناجحة.
ما هو هذا النمط الشعري الذي أحدث هزّة في الشعر المكتوب بالإنجليزية، ووصلتنا «أصداء» أصدائه متأخرة كالعادة، وبالشكل الذي يحاوله عدد متكاثر من الشعراء العرب في الزمن الراهن، وتعقد له المنتديات واللقاءات وتتشكل التجمعات؟
في كتابه المسمى «قصيدة الهايكو اليابانية: طبيعتها الأساسية وتاريخها وممكنات كتابتها في اللغة الإنجليزية مع شواهد مختارة»، المطبوع في طوكيو في العام 1989 للمرة التاسعة، يقدم «ياسودا» دراسة موسعة لهذا النمط الشعري، محللاً طبيعته والمبادئ الجمالية التي تحكمه، منطلقاً من إيمانه بأن من الممكن كتابته بأي لغة اعتماداً على أن الخطوط الأساسية للمبادئ الجمالية واحدة في الفنون.
ولإيضاح طبيعة هذا الشعر، يبدأ «ياسودا» بمقارنته بالرسم والتصوير. ويرى أن المشترك بينه وبين الرسم والتصوير هو أنه يقدم الشيء بذاته من دون تعليق، إلا أنه لا يقدمه كما هو تماماً؛ إنه يستخلص السمات الخاصة بالشيء، وهي السمات التي يختبرها الشاعر. إنه لا يعطينا معنى، بل أشياء ذات معنى، توحي ولا تقول مباشرة. فأصغر وردة تستطيع أن تمنحنا أعمق الأفكار. ثم يواصل ياسودا بحثه، فيقدم نظرية جمالية استناداً إلى قصيدة «الهايكو»، ويشرح ما يسميه النهج الجمالي في الحياة. يميّز، على سبيل المثال، بين مناهج ثلاثة أشخاص مروا بحقل «شوفان» (التاجر والعالم والشاعر)، فالأول يستولي عليه اهتمامه بنبات الشوفان، وكمية إنتاجه وأسعاره في السوق، ولئن مرّ يعسوبٌ أحمر، فسيلتفت العالم إليه، ويبدأ بالبحث عن تصنيف لنوعه، أما الثالث، الشاعر، فسيقف أمام المشهد خالي الذهن من ثمن النبات، وصنف اليعسوب، وينتبه إلى الشيء بذاته ولذاته؛ وهذا هو النهج الجمالي الذي ينتج قصيدة من هذا النمط:
يعسوبٌ قرمزيٌّ
ملتمعاً يتمايلُ
بتمايل ورقةِ شوفانْ
روحية «الهايكو» بهذا المعنى استقصاء من النوع الذي يتضمن الحياد والفعالية معاً، بحيث يأتي الشعور بسمو الطبيعة الخالية من الزخرف بطريقة تعكس حياتنا الواقعية، بكل ما فيها من تنوع واختلاف. وفي هذا السياق تطرح قضايا النزاهة والأخلاق والصدق، ويلخصها «ياسودا» في عبارة: «إعطاء الشاعر موضوعه حقه»، أي أن يكرس الشاعر نفسه لإدراكه. ولكن هذا لا يعني أن الشعر لا يستطيع أن يتخذ موضوعاً أخلاقياً، بل يعني أن الأخلاق ليست هي هم الفنان، بل التجربة. ربما تكون هذه التجربة دينية أو أخلاقية، إلا أن همها الأساسي هو الحدس لا الموعظة. ولا تعني الحقيقة الفنية استنساخ الواقع، فسواء كان الحدث متخيلاً، أو مما وقع فعلاً، فإن معيار صدقه هو تجسّده في شكل دال متناغم العناصر.
_________
*الخليج الثقافي
مرتبط