شربل داغر دارساً إشكاليات قصيدة النثر العربية

*أنطوان أبو زيد

في كتابه «الشعر العربي الحديث: قصيدة النثر» (دار منتدى المعارف) يتناول الباحث والشاعر والروائي شربل داغر بالدرس قصيدة النثر التي باتت على حد علم القراء والشعراء في العالم العربي اليوم النوع (بعضهم يؤثر تسمية الأسلوب) الأكثر انتشاراً والتباساً في آن واحد.

يطرح شربل داغر في مقدمة كتابه المنهج العام الذي سيتبعه في الكتاب(400صفحة)، فينطلق من معايير عامة أو توجّهات أسلوبية لبناء قصيدة النثر، كان قد وضعها النقاد الغربيون لمقاربة هذا النوع الجديد، من أمثال تزفيتان تودوروف وسوزان برنار وإيتيان سوريو وغيرهم. ولا يكتفي بهذا العرض العلمي وبناء على معرفة بمصطلحات اللسانية الحديثة والسيمياء اللتين يستعير هؤلاء النقاد منهما مجمل تعريفاتهما التي يسعون من خلالها إلى وصف مظاهر شعرية قصيدة النثر. إنما ترى الباحث داغر يناقش في قدرة المعايير الأولى لكلّ من سوزان برنار، وتودوروف، على تعيين حدود ملامح قصيدة النثر ومواصفاتها، من مثل: الإيجاز، والتوهّج، والمجّانية، فيجد أنّ برنار لم تتّبع «منهجاً تحليلياً في درس القصيدة «(ص16). وبناء عليه، فقد استلزم أن يطرح الباحث تصوّراً منهجياً يتشكّل من «مقومات بناء النص» (ص30) التي تحدد «الأدبية كما «الشعرية» في النصوص»، وتتجلّى هذه المقومات في أربعة مستويات، على حدّ ما كشف عنه الناقد غريماس في ثلاثينات القرن الماضي، وهي: المستوى الطباعي والوزني، والنحوي (التركيبي)، والمعنوي (أو الدلالي). مع أنّ تودوروف ودوكرو يعزوان فضل اكتشاف «الأبعاد» (الدلالي، والنحوي-التركيبي، والتداولي) إلى شارل مورّيس في الثلاثينات من القرن الماضي.

أضف إلى ذلك، أي إلى المستويات الأربعة المذكورة أعلاه، فقد رأى الباحث أن يستخدم مفهوماً واصفاً آخر، يستطيع به أن يحدد نقاط الافتراق بين النثر العادي والنثر في قصيدة النثر، وبين الشعر المنظوم وبين الشعر في قصيدة النثر، وهو مفهوم المهيمنة، أي المظهر المتواتر بقوة في النص واللافت والذي يهيمن على ما عداه من المظاهر.

وأياً تكن المستويات التي يشكّل الباحث داغر منها شبكته التحليلية التي يزمع النظر منها إلى قصيدة النثر فإنه يحسن بنا استنتاج منهجيته العامة الهجينة، التي اتّبعها في دراسته المستفيضة، من دون أن يعلنها أو المنهجية «التكوينية» التي تسعى «بالوسائل المتاحة اليوم إلى معرفة لماذا وكيف (Génétique) بالاسم؛ أعدّ عمل أدبي». وليس هذا فحسب، بل إنّ الباحث، بعد أن يفرغ من مهمة التحقيب، والتثبّت من المدوّنة، أي مجموع النصوص الشعرية (نصوص الشعر المنثور، ثم القصائد المنثورة ) التي تسبق مدوّنته والتي حصرها بقصائد النثر لشاعرين من دون غيرهما: محمد الماغوط وأنسي الحاج، يعمد إلى تفعيل شبكته التحليلية المستمدّة أركانها ومعاييرها الواصفة من اللسانية والسيميائية بغية استخراج «الانتظامات الشكلية» التي تتميّز بها قصائد النثر المقصودة بالدرس، وهي مستلّة من أعمال الشاعرين، وعلى مدى حقبات مختلفة من حياة كلّ منهما، عملا ًبالمنهج التكويني والتعاقبي السالف وصفه.

ولما كان العمل المنجز للباحث شربل داغر واسع الأطياف ومتشعباً الى حدّ يستحيل معه الإحاطة الشاملة في عجالة كهذه، فقد رأينا أن نجمل قراءتنا إياه في نقاط آتية:

*إماطة اللثام: لقد أمكن الباحث شربل داغر، في بحثه المستفيض، أن يميط اللثام عن أسماء العشرات من الشعراء وإنجازاتهم على صعيد الشعر المنثور وقصائد النثر، من مثل: توفيق صايغ، ونقولا فياض، وخليل هنداوي، وجورج الكعدي، وعبد الحكيم مراد، وناصر بن سليمان أو حميد، وعبد الكريم السمان، ومحمد سعيد المسلم، ومحمد شمس الدين وبولس أسعد الشرتوني، وأنور الجندي، وألبير أديب وسليمان عواد، وغيرهم الكثير ممن لا يرد لهم ذكر في تصانيف نقاد الشعر العربي الحديث. لا سيّما أنّ للاسمين الأخيرين تأثيراً مباشراً بتكوين أسلوب الشاعرين المخصوصين بدراسة أعمالهما الشعرية عنيتُ بهما، محمد الماغوط وأنسي الحاج، على ما بيّنته دراسة المدوّنات ذات الصلة (مجلة الأديب، وأبولّو، وشعر، والآداب، وغيرها) وتصنيف مضامينها ونصوصها الشعرية والنقدية. وتلك هي ضرورات المنهج التكويني

التي تلزم الباحث بها فتتّسع لها رؤية الناقد، فتضمّ الى بوتقتها التاريخي والفكري والفلسفي واللغوي والبلاغي، على نحو يصعب تمييزها أحياناً.

*منهج خفي: لئن يذكر الباحث، في مستهلّ كتابه الإشكالية التي يسعى إلى حلّها، وهي «درس قصيدة «صعبة «الدرس» هي قصيدة النثر، وتبيّن «تغيّراتها البنائية»، فإنه يتأنّى في إطلاع القراء على المنهج النقدي الذي ينوي اتّباعه في دراسته هذه ليكون عونًا له في تصوّر الحلول الممكنة، وتيسير عملية تحليل قصيدة النثر العسيرة. وما لا يجده القارىء المبتدىء والدّرِب، عنيتُ اسم المنهج النقدي ليسير على ضوء المعايير التي باتت معروفة لديه (منهج سيميائي، أو تأريخي، أو تأويلي، أو غيره)، يستخلصه المختصّ من دون غيره، فينتبه إلى أنّ ما سار عليه الباحث إنما يندرج في باب المنهج التكويني المشار إليه أعلاه، وأن الأخير موصول بشبكة تحليل مستمدة من المنهج السيميائي أو السيميولوجي، عنيت بها المستويات الأربعة: الطباعي، والوزني، والنحوي (التركيبي)، والمعنوي (الدلالي). ذلك أنّ المسألة أو الإشكالية في الدراسات

ذات الطابع الخلافي لا ترتدي أهمّية مطلقة بمعزل عن المنهج الذي يسعه إيجاد منافذ لها، أو يتمكّن من فكّ شيفراتها ورموزها المختلفة بمفاهيمه الواصفة.

*توسّع مزيد: في ما انساق المؤلّف داغر اليه، من حيث تعريف القارىء بالنقلة التي أنجزها الشعر العربي الحديث، من البيت التقليدي ذي القوام المستقلّ الى السطر، احتاج الباحث الى الاستفاضة في الكلام على المدوّنة الشعرية (الشعر المنثور) التي انبثقت منها، على رأيه، قصيدة النثر العربية. واقتضى منه ذلك التوقف لدى نتاج الكثير من الشعراء، ممن كشفت عنه «معاينته» مجلات مثل: الجامعة، والهلال، وأبولو والأديب، والأدب، والآداب، وشعر. كل ذلك من أجل إثبات التحولات الشكلية اللغوية البطيئة التي حصلت على بدن قصيدة النثر: من شعر التفعيلة، أو الشعر الحرّ بتعريف نازك الملائكة، الى الخروج على العروض، وصولاً الى السطر التفعيلي، والمنثور، وانتهاء بقصيدة النثر. بيد أنّ ذلك كان يمكن الاكتفاء بأسماء معينة ذات أثر في المشهد الشعري المدروس، على سبيل المثال لا الحصر، وذلك حفظاً لمسار التحليل من قلة التركيز.

معاودة النظر: لئن كان الباحث يكشف، بفضل شبكته التحليلية السالف وصفها، عن «انتظامات شكلية» في قصيدة النثر لدى كل من الشاعرين محمد الماغوط وأنسي الحاج (من حيث انقطاع السطر الشعري، وبنية القصيدة المغلقة، وإدخال العامية في صلب الفصحى المتمرّدة على الأصول، واستعارات محيّرة ، واختلال

في الخطاب داخل القصيدة، أو البعد التداولي غير المذكور)، فإنّ الباحث شربل داغر يقارب، ههنا، ما سبق لعديدين أن تناولوه، من مثل أحمد بزون وعبد الكريم حسن، وعز الدين المناصرة ، وعبد القادرالجنابي، الى العشرات من الدراسات الأكاديمية التي تناولت نتاج الحاج والماغوط. ويدرك الباحث داغر وهو شاعر على مدى عشر مجموعات شعرية، أنّ قصيدة النثر باتت جنساً (أو نوعاً) أدبياً من الاتساع والعمق بحيث يحتاج الى مؤسسة تعنى بأصواته الجديدة والشابة، وتنظر في انتظاماته الشكلية الكثيرة وفائقة الوصف.

مع ذلك، فإنّ كتاب شربل داغر الصادر هذا العام (2018) وهو بعنوان «الشعر العربي الحديث: قصيدة النثر»، يقدّم تصوّراً نقدياً جديراً بالدرس والتأمل والتجريب لدرس قصيدة «صعبة «الدرس».
_________
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *