أبو رعد

خاص- ثقافات

*محمد مراد أباظة

ظهر فجأة، ذات نهار بارد، في شارعنا الهادئ، ممِّزقاً بصرخاته سكون ما بعد الظهيرة، مقتحماً قيلولة السكان، معكِّراً هدأة استرخائهم. وبات، مع مرور الأيام، مشكلة تؤرِّقهم، وتشتت أفكارهم متطفِّلةً على أحاديثهم، وتدهم رؤوسهم صداعاً عصياً على شتى أنواع المسكنات. وشنَّ، لأسابيع عدة، حرباً عليهم بصوته الغليظ الأقرب إلى الجعير مضطهداً إياهم صغاراً وكباراً، وهو ينادي معلناً عن بضاعته بسلسلة من الكلمات المتداخلة غير المفهومة. إنه بائع عرانيس الذرة المسلوقة أبو رعد.
وشاعت تسميته بـأبي الرعود. فقد كانت صرخاته مجموعة رعود متلاحقة دون فواصل زمنية، ترتطم بواجهات الأبنية فيتردد صداها على طول الشارع، تقتحم الشقق السكنية عبر النوافذ، وتدهم متدحرجةً ممراتها وحجراتها، فتوقظ الأطفال الغافين مذعورين، والكبار الموشكين على الإغفاء.
كان رجلاً أربعينياً ضخم الجثة ذا وجه عدواني مستطيل لوَّحته الشمس، وعينين جاحظتين يعلوهما حاجبان كثان، وشاربين متهدلين، يدفع أمامه ببطء عربة استقر على سطحها دست كبير مليء بالذرة المسلوقة المغمورة بماء يتصاعد منه البخار.
وما أدهشني وأثار تعجبي طبيعة حنجرته الخرافية التي لم تتخرّش خلال تلك الأسابيع، ولم تصبه بحّة أو ضعف في الشدة، وظل صراخه محافظاً على طبقته الأوبرالية نفسها.
بدا لي أن صوته قد يكون تخطى بالغلظة أغلظ صوت (باص) عرفته الأوبرا العالمية، حتى إنه، وهو يتحدث إلى زبائنه بصوت منخفض، كان جعيره يحافظ على مستوى يؤهله للوصول إلى آخر الشارع.
وكان السؤال الذي يشغل بال السكان سراً وجهراً دون أن يتعثروا بجواب عنه هو: (كيف يمكننا إزاحة هذا الكابوس عن صدورنا؟)، ولم تكن ثمة جرأة تسعف أحدهم للتصدي لهذه المصيبة.
كنت خارجاً بكامل هندامي من البناية التي أشغل شقة فيها مع أسرتي، حاملاً حقيبة (سامسونايت)، وملقياً على ساعد ذراعي الأخرى (روب) العمل الأبيض، إذ إنني أدير مخبراً للتحاليل الطبية، لهذا كان جيراني ينادونني بــ(دكتور). وكانت عربة الذُّرة في ذلك الوقت متوقفة في الشارع قبالة مدخل البناية محاذيةً الرصيف، و(أبو رعد) ينتقي كوز ذرة لأحد الزبائن. وفجأة لمعت في رأسي فكرة، فتوقفت قريباً من العربة أراقبه، وحين ابتعد الزبون التفت نحوي ممسكاً بملقط حديدي يستعمله في التقاط كيزان الذرة من الدست:
– أهلاً وسهلاً أستاذ. تفضَّل. عندي أطيب ذرة مسلوقة في البلد.
– شكراً. أريد التحدث قليلاً إليك فقط.
تأملني لثوانٍ وقال:
– تفضَّل.. خير؟.
– منذ متى تعمل في هذه المهنة؟
– منذ سنتين تقريباً. عفواً أستاذ، ولم هذا السؤال؟
– متزوج؟
وأجاب بإصبعين مبتسماً أنه زوج لاثنتين.
– حسناً. أقدم لك نفسي. دكتور مختص بالأعصاب دارس في أوربا.
– تشرفنا دكتور، والنّعم منك.
– وأريد أن ألفت نظرك إلى أمر مهم وخطير.
– خير.. خير.
وخلال الحوار الدائر بيننا مرّ أحد سكان الشارع ملقياً السلام عليّ بعبارة “مرحبا دكتور” وهو ما لفت نظر أبي رعد، وأكّد له صدقيتي، وجعله يزداد اهتماماً بما في نيتي قوله.
اقتربت منه وأنا أتأمل وجهه وعنقه متكلفاً اهتماماً مبالغاً، واستأذنته في أن يفتح فمه، ورحت أمعن النظر داخله متفحصاً تجويفه الهائل من أكثر من زاوية، ثم رحت أجسّ أوداجه وأسفل عنقه وكتفيه ممثلاً دور طبيب محترف. وحين انتهيت من ذلك رحت أتأمل وجهه ثانيةً واجماً، هازاً رأسي يمنة ويسرة بحركات بطيئة. أما أبو رعد فحدق به محيّراً للحظة، ثم بلع ريقه وهمس بصوت متحشرج:
– خير دكتور.. ما القصة؟
صمت قليلاً متعمِّداً إثارة قلقه.
– خير دكتور؟ لقد شغلتَ بالي.
– لن أخفي عنك الحقيقة يا أبا رعد، والأمر يعود إليك في أن يكون خيراً أو شراً.
– أيّ أمر دكتور؟ وأيّ خير وشر؟
وبدأت ملامح وجه (أبو رعد) تتغير، وألقى بالملقط الحديدي الذي في يده على سطح العربة، وانصرف كلياً إلى الاستماع إليّ، مقلعاً عن النداء، ساهياً عن العربة والدست والذُّرة.
هنا قلت في نفسي إن الأمور تسير على ما يرام. وبدأت أحدثه مفبركاً له أثر الصراخ المستمر على الحنجرة والأوتار الصوتية، وانتقال ذلك إلى الأعصاب المنتشرة في جميع أنحاء الجسم، ومن ثم احتمال إصابتها بالتهاب خطير أطلقت عليه مصطلحاً أجنبياً خطر لي من محفوظاتي، وأن هذا بالتالي سيؤثر، مع مرور الوقت، في أعصاب الجهاز التناسلي تأثيراً خطيراً.
قال (أبو رعد) وقد انطفأت ملامح وجهه العدوانية:
– ماذا يعني هذا؟
قلت بلهجة مشفقة:
– للأسف أبا رعد، إن واظبت على عملك هذا لأشهر قليلة أخرى فالنتيجة ستكون وخيمة.
– يعني!
– يعني أنك ستفقد قدرتك الجنسية تدريجياً.
كاد أبو رعد أن يفقد توازنه، فاستند إلى العربة، وقد شحب وجهه، وازداد جحوظ عينيه:
– ماذا؟
– كما أقول لك، طبيب مختص يتحدث إليك، وقد عاينت حالات كثيرة مماثلة. لكن في إمكانك تجاوز هذه الخطورة بسهولة.
– كيف دكتور؟
– بأن تمتنع عن الصراخ، وتكتفي بالتحدث بصوت منخفض أو أن تغيِّر مهنتك فتمارس أخرى لا تحتاج إلى الصراخ.
ظل أبو رعد صامتاً ساهماً للحظات، ثم نظر إليّ بعينين مطفأتين، وهمس:
– إذا كان هذا هو الحل فمقدور عليه.. جزاك الله خيراً دكتور، إنني ممتنّ لك.
صافحني بحرارة وانصرف دافعاً عربته ببطء صامتاً شارد النظرات. واختفى أبو رعد عن الأنظار، وأراح اختفاؤه سكان الشارع والشوارع الأخرى، وتنفسوا الصعداء، لكننا استيقظنا صباح أحد الأيام على قرقعات نارية رنّانة متلاحقة تصمّ الآذان، وفوجئنا بأبي رعد جالساً فوق كومة من أسطوانات غاز يمتلئ بها صندوق شاحنة صغيرة تسير ببطء شديد، وهو يطرق إحداها بمفتاح (شقّ إنكليزي) بكل ما أوتي من قوة معلناً عن بضاعته الجديدة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *