*الفاهم محمد
يصعب حصر أعمال الفيلسوف الفرنسي رينيه جيرار (1923- 2015)؛ فهو ناقد أدبي، وأستاذ للأدب المقارن، وفيلسوف وأنثروبولوجي، ومفكر في تاريخ الأديان. في فكره يحضر كل الموروث الفلسفي، بدءاً من اليونان، وإلى غاية الفلسفة الأنوارية، كما يستثمر أيضاً الدراسات المرتبطة بالعلوم الإنسانية من تحليل نفسي وأنثروبولوجيا وإثنولوجيا.
إن ما يلاحظ في فكر رينيه جيرار هو الترابط المتين لجهاز مفاهيمي، يحيل على النمو التدريجي المحكم لمشروعه الفكري عبر مجموعة من الأعمال أشهرها: الكذبة الرومانسية وحقيقة الرواية 1961، العنف والمقدس 1972، أشياء مخبأة منذ تأسيس العالم 1978، وغيرها من الأعمال التي أهلته كي يصبح عضواً في الأكاديمية الفرنسية سنة 2005. هنا محاولة للتعريف بالأطروحات الأساسية المكونة لفكره، وكذا الكشف عن الإمكانات التي تمنحها لنا القراءة وفهم واقعنا المعاصر، وعلى رأسها ظاهرة التطرف والإرهاب.
انطلقت أعمال جيرار في بداية الأمر من دراسة النقد الأدبي، وذلك في كتابه «الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية» 1961، مطوراً مفهوم (الرغبة المحاكاتية). بمعنى، أن الرومانسية أوهمتنا بأنها ترغب فيما هو فريد ونوعي، والحال أن ما نرغب فيه هو ما يرغبه جميع الناس. عادة ما نعتقد أننا نرغب فيما يخصنا، وفيما نعتبره حميمياً ومعبراً عن ذاتيتنا الخاصة، غير أن حقيقة الرغبة هي على العكس من ذلك تماماً. إن موضوع الرغبة -وليكن هنا على سبيل المثال امرأة- لا يثير اهتمامنا إلا عندما يثير اهتمام الآخرين.
يعمل رينيه جيرار على تأصيل هذه الفكرة من خلال تتبع حضورها في الأعمال الأدبية ففي نظره: «وحدهم الروائيون يكشفون عن الطبيعة المحاكاتية للرغبة» (1) فسواء عند ستاندال أو بروست أو فلوبير أو غيرهم، نجد دائماً الميل المشوب بالتنافس والغيرة للاستحواذ على ما هو موجود في يد الآخرين. وهكذا يكمن كذب الرومانسية في ادعائها أنها تبحث عما هو أصيل ومتفرد، في حين يعكس الأثر الروائي غير ذلك تماماً. وإذا كانت الرومانسية تعلي من قيمة العفوية، فإن ما تخفيه هو المحاكاة والتقليد. إن هذا الإحساس الجديد الذي قدمته الرومانسية كشعور جديد بالعالم، وكموقف من المجتمع الذي ما عادت تقبله، يقوم على خداع كبير. يقول رينيه جيرار: «الإحساس الرومانسي بالقرف وكراهية المجتمع والحنين إلى الصحراء، كما ذهنية القطيع، تغطي في أغلب الأحيان شاغلاً مرضياً يتعلق بالآخر» (2). وهكذا فالحديث عن الرغبة المحاكاتية يرتبط عند جيرار بمفهوم آخر مجاور وهو «مثلت الرغبة». لقد اعتدنا غالباً النظر إلى الرغبة على أنها علاقة خاصة بين الشخص الراغب والموضوع المرغوب، والحال أن جيرار يدخل حداً ثالثاً وهو الآخر المنافس، أو ما يسميه أيضاً بالوسيط الذي نطمح لمحاكاته. فلهفة دون كيشوت لمقارعة الطواحين، لا تعبر حصراً عن فروسية وشهامة خاصة، بل إن دون كيشوت لا يفعل ما يفعله إلا لأنه يعتقد أن أماديس دوغول كان سيفعل الشيء نفسه.
كبش الفداء
بعد ذلك سيحاول رينيه جيرار تطوير فكرة «الرغبة المحاكاتية» في مجال المجتمع والتاريخ البشري. وهنا سيتحول من ناقد أدبي إلى باحث في الأنثروبولوجيا. إذا كان الناس يطمحون جميعاً إلى نفس الشيء، فهذا لن يقودنا إلا إلى الصراع والمنافسة الشرسة، وهنا نصل إلى ما يسميه بـ«أزمة الرغبة المحاكاتية» التي علينا أن نعثر على حل لها، لأنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإننا سنصل إلى التدميرية الشاملة للجنس البشري، أي ما سبق لتوماس هوبز أن وصفه بـ«حرب الكل ضد الكل». أما جيرار فهو يقدم أطروحة أخرى، إنها حرب الكل ضد واحد، وهذا مغزى فكرة «كبش الفداء». إنه مفهوم آخر من المفاهيم المركزية التي ينهض عليها النسق الفكري لرينيه جيرار، فبالعودة إلى التاريخ نجد أن الشعب اليهودي، على سبيل المثال، عندما كان يرتكب أخطاء معينة يأخذ كبشاً ويلقي عليه هذه الخطايا، تم يقوم بطرده خارج المدينة إلى صحراء قاحلة، حيث سيلقى حتفه. وهي ممارسة نجدها أيضاً لدى كل الشعوب القديمة، فعندما تريد قبيلتان متناحرتان وضع حد للعنف بينهما يتم اختيار شخص يقع في أسفل الهرم الاجتماعي، قد يكون مثلاً أحدبَ أو مجنوناً أو مصاباً بالجذام ثم يضحى به. وبصفة عامة فالجماعة تتطهر من خلال هذا الطقس من كل خطاياها، لقد لعبت الذبائح دوراً وقائياً لإخماد الصراعات، وتجنب كارثة الانهيار الكلي للمجتمع.
العنف المقدس
والآن إذا كانت الرغبة المحاكاتية تؤدي إلى الصراع والمنافسة، وإذا كان ذلك الصراع يتم حسمه بواسطة الطقس الشعائري للأضحية، فإن هذا يعني في نهاية المطاف أن العنف يوجد في قلب المجتمع وفي حركة التاريخ البشري. هذا هو ما تكشف عنه الأساطير والمعتقدات الطوطمية. فالتضحية بالبشر طقس نجده عند الفراعنة عندما يلقون بالفتيات إلى النيل، وعند المايا والأستيك حيث ينزع قلب الأضحية وهي لا تزال حيةً لجلب رضى الآلهة. إن كبش الفداء يصبح مقدساً، بالضبط لأنه يمتلك القدرة على تخليص الجماعة من أزمتها الاجتماعية وتحمل وزر كل الأخطاء التي وقعت فيها. فيما بعد، تطورت الأمور وبدل أن نضحي بالبشر وصلنا إلى ما يسميه رينيه جيرار بالأضحية البديلة أي أننا أصبحنا نضحي بالحيوان.
غير أن العنف المقدس ليس عنفاً مجانياً، بل له وظيفة تطهيرية، تؤدي لتحقيق استقرار النظام الثقافي والاجتماعي، وطرد العنف وإبعاده نحو الخارج من أجل سلامة المجموعة ككل. يقول جيرار: «إن الذبيحة إذ تنحرف بالعنف في اتجاه ضحايا خارجيين، تحمي الجماعة بأسرها من غائلة عنفها الذاتي» (3). إن الأضحية عند جيرار تضع حداً لتبادل العنف وتفقده قوته التدميرية، ما دام أنها تساعد الجماعة البشرية على استعادة وحدتها واستقرارها.
راهنية جيرار
هل هذه الأفكار التي قدمها رينيه جيرار هي مجرد مفاهيم تسمح لنا بفهم ما حدث في الماضي، أم أنها ما زالت تملك القوة الفكرية لقراءة طبيعة الحياة المعاصرة؟
تمكننا الفرضيات النظرية بصدد ما حصل في الماضي، من إدراك الأحوال التي آل إليها الوضع البشري اليوم. إن التنافسية المميزة للمجتمعات المعاصرة لا حدود لها، فهوس الظهور والنجومية وثقافة (البوز Buzz) والرغبة في التفوق الفرداني بأي ثمن، يضاف إلى هذا غياب هذه الممارسة الطقوسية لكبش الفداء التي أصبحت شيئاً من الماضي. كل هذا لا يساعد سوى في استشراء ظاهرة الرغبة المحاكاتية.
إن الناس اليوم تتصارع ليس من أجل الوجود، ولكن من أجل التملك، وهذا من شأنه أن يفاقم العنف على نطاق واسع، وفي بلوغ الرغبة المحاكاتية درجات مميتة بسبب حدتها التنافسية. قد يقال إن ما يحسم الصراع اليوم هو وجود المؤسسات والقانون، ولكن ماذا لو كانت هذه الأخيرة هي ما يعمل على تأجيج الصراعات بدل إخمادها. إن كبش الفداء اليوم يأخذ أشكالاً مغايرة سواء في العلاقات الدولية، أو في ثقافة الاستهلاك الجماهيرية. فما تتم التضحية به اليوم هو العدالة والإنسانية، تتم التضحية بشعب بأكمله، وبالحياة والثروات الطبيعية للأرض، والبيئة السليمة. وهكذا إذا كانت الأضحية والذبيحة في المجتمعات «البدائية» تحافظ على وحدة الجماعة من الانهيار، فإن الأضحية اليوم ذات طابع قيامي Apocalyptique وهي تنذر بالهلاك والانهيار الشامل.
قد نعترض على أطروحة جيرار كما يفعل رينيه بومييه (4) الذي يرى أن الخوف وليس العنف هو الذي يوجد في أساس ولادة المقدس. ولكن على أي حال تبدو قوة أطروحة جيرار في اعتباره أن العنف المقدس منتج وبناء. الكثير من المتتبعين والدارسين تساءلوا عما إذا كانت أشكال العنف والتطرف والإرهاب التي نعرفها اليوم، هي امتداد للعنف المقدس الذي عرف في الماضي؟ والحق أن هذا المفهوم كما أوضحه جيرار هو عنف مؤسِّس للحضارة، يطمح في العمق إلى وضع حد للاقتتال، بينما العنف الإرهابي الذي يمارس اليوم هو عبارة عن اهتياج مدمر، لا تنتج عنه أية أوضاع طبيعية ما عدا الخراب والدمار. ورينيه جيرار نفسه في آخر كتابه يشير إلى هذا الاختلاف، مؤكداً أن البشر في الماضي لم يكونوا يمارسون «عبادة العنف» (5) كما هو الحال في الحضارة المعاصرة، صحيح أن العنف كان يتداخل بشكل مركب مع المقدس، غير أن ما كان يقصده دوماً الأقدمون هو بلوغ حالة «اللاعنف».
بطريقة أخرى نقول إن الدين كان يلعب دوراً أساسياً في وضع حد للعنف والحفاظ عليه خارج المجتمع، أما الإرهاب اليوم ومن خلال استهدافه للفضاء العمومي برمته وجعله مستباحاً -مدارس، مستشفيات، أسواقاً- يعمل ضد المنطق الديني، ما دام أنه يجلب العنف إلى قلب المجتمع بدل استبعاده للخارج.
وقد تدفعنا أطروحات جيرار إلى إعطاء بعض المسوغات العقلانية للعنف القديم، على الأقل في التأسيس البدئي للمجتمعات، غير أن هناك فرقاً في فكره على ما يبدو بين العنف المقدس القديم والعنف الوحشي الذي نعرفه اليوم. إن ظاهرة الإرهاب باعتبارها الدرجة القصوى للعنف، تفتقر إلى أي مسوغات عقلانية، ما عدا الموت المجاني للأبرياء. لذلك سيظل الإرهاب ذلك الطقس الأسود (اللا ديني) رغم أنه يحاول أن يلفع نفسه دائماً بلبوس الدين. وربما وجب علينا أن نتساءل باندهاش وحسرة: أية ذبائح هذه التي بإمكانها أن تطهر خطايا الإنسان المعاصر؟
الشعوب «كبش الفداء» المعاصر
إن كبش الفداء اليوم يأخذ أشكالاً مغايرة سواء في العلاقات الدولية، أو في ثقافة الاستهلاك الجماهيرية. فما تتم التضحية به اليوم هو العدالة والإنسانية، تتم التضحية بشعب بأكمله، وبالحياة والثروات الطبيعية للأرض، والبيئة السليمة. هكذا إذا كانت الأضحية والذبيحة في المجتمعات «البدائية» تحافظ على وحدة الجماعة من الانهيار، فإن الأضحية اليوم تنذر بالهلاك والانهيار الشامل.
الهوامش
1 ـ رينيه جيرار: الكذبة الرومانسية والحقيقة الروائية. ترجمة رضوان ظاظا، المنظمة العربية للنشر، الطبعة الأولى 2008 ص 35.
2 ـ نفس المرجع السابق ص 36.
3 ـ رينيه جيرار: العنف والمقدس. ترجمة سميرة ريشا، المنظمة العربية للنشر، الطبعة الأولى 2009 ص 28.
4 ـ Laurent Fedi, «René Girard: le Darwin des sciences humaines ou un «allumé qui se
prend pour un phare» de René Pommier», Le Philosophoire 2010
/2 (n° 34 p. 117-122.
5 العنف المقدس ص 435
__________
*الاتحاد الثقافي
مرتبط