الكلب الرّمادي

خاص- ثقافات

* سفيان سعيداني

 إلى روح المنسيّ الصّادق هدايت، الذي كلّما قرأت له قصّة الكلب الشّريد إلاّ وبكيت، فصغت على إيقاعها الحزين هذه القصّة .

مذ رُمي في الشّارع و تخلّت عنه الأيادي التي علّمته أن يأكل بأدب و هو يجوب الأزقّة حيرانا، تسوقه غريزته نحو القمامة الملقاة على أطراف المنازل و تنهاه اللّباقة، هو كلب كثيف الشّعر رماديّه، عجوز، تربّى في كنف الدّلال و العزّ صبيًّا، و لمّا هرم ألقي في الشّارع طريدا، كرداء فاتن يحفظ و يغسل، و يوم يبلى يقذف كالنّفاية .

اقتادوه خارجا أمام البناية و فكّوا طوقه فلم يستطع أن يرحل، و لكنّه رحل لمّا ركلته تلك الأقدام التي لطالما تشبّث بها و داعبها، أقدام تربّع بينها، حينها فقط أحسّ الكلب الرّماديّ أنّه نفاية لا بدّ أن ترمى، رحل مسرعا و ترك وراءه أنينا من ألم .

أضناه الجوع، مضت عليه أيّام كمزامير من صراخ و لعنات، يتسكّع نهارا بين الأسواق و الممرّات، يقيل قليلا في أحد الحدائق متخّذا مكانا خفيّا لئلاّ تركله أحد الأقدام الأخرى التي ما أشبعت غليلها منه، ينام ثمّ يستيقظ هلعا، و في اللّيل يتّقي الشّارع و يتمدّد أنَّا يضنيه التّعب من السّير و هو لا يدري متى يستيقظ آنًّا تحت أحد الرّكلات، لا يدري مقدار الألم الذي سينهال عليه من أحد الأحذية، لا يدري أيّ حذاء سيكون الأكرم في ايقاضه، أحذاءٌ رقيق لسيّدة أو حذاء محدّب لموظّف أو حذاء جنديّ ككتلة من الصّخر، صارت بطنه كيقطينة هامدة .

صارت حياته أشبه بجحيم، كلّ يوم يمرّ إلاّ و سمعت فيه الآذان عوائه، و انهال السّباب عليه كالمطر، و هو يسير حيرانا لا يدري متى ينتهي كلّ هذا أو ينقضي .

أرهقه الحرّ، و أدمت وجهه حجارة تراشقها الأطفال بها، كانت هيئته مقرفة، هزل إلى حدّ لا يصدّق، و طلاه العرق و الدّم، و تحت فروه الكثيف و الوسخ تخاله العين عظاما دسّت في كبّة من الصّوف .

كانت آخر أمنياته في ذاك اليوم شربة ماء، مضى يجوب الشّارع مترنّحا، يائسا، مع كلّ ركلة يتلقّاها يسقط دون أن ينبس، ثمّ يستيقظ في صمت و يمضي، و مع كلّ حجر يصيبه، كان يكتم أنينا، ثمّ يمضي، كان آخر همّه شربة ماء .

جاب الطرّقات جميعا، بدت خطواته ترتخي شيئا فشيئا، و انتهى إلى قناة صرف، يندفع منها ماء قذر، تدحرج ككيس من أعلى الهضبة، نهض مرتعش القدمين و تقدّم، و لعق بلهف، ثمّ انتحى جانبا و تمدّد على بطنه الهامدة المتألّمة بعنف و أسبل ذيله، مددّ وجهه على الثّرى، و لأوّل مرّة تنزل من عينيه قطرات حارّة، لأوّل مرّة يخفق قلبه بتلك الشّاكلة و تحاصرته رائحة العفن و الذّباب و تهدّجت أنفاسه و أنَّ كأنّه يتوسّل … و مات، مات دون أن يفهم سببا لكلّ ما جرى .

________________

كاتب تونسي

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *