*أدونيس
فقراء الأفق
– 1 –
تسأل الضفّةُ المشرقيّةُ أختَها الغربية:
ـ لماذا لا تدرسين السَّوادَ كما لو أنّه الغيْمُ الذي يعشق الأفقَ، دون أن يحبَّ السّماء؟
– 2 –
أثِقُ بالسَّوادِ سائلاً في شرايين الوقت.
– 3 –
أعرف يا فقراءَ الأفقِ، أنّ الهجرةَ جحيم … لكن مَن قال:
الجحيمُ، في عالمنا هذا، هي أسوأ الأشياء؟
ومَن نسأل: الشّيء ذاته، أم صانعَه؟
– 4 –
لماذا لا تقدر الضفّةُ الغربيّةُ أن ترى شمسَ الضفّةِ المشرقيّة
إلاّ بوصفها ظلاماً؟
– 5 –
غرباً وشرقاً، تلِدُ الضفّتان كلَّ يومٍ،
غزالاً وغولاً.
– 6 –
هل حرفُ الرّاء أو حرفُ الميم، هو الذي يصنعُ
الفرقَ بين «المهاجر» و«المُهاجِم»؟
وهل هو فرقٌ في الصّورة أم في المعنى؟
– 7 –
على أطراف الضفّتين
تكتب الأزمنة كتابَ الموتى.
وهي فيما تكتب، لا تتوقَّف عن طرح الأسئلة حول الأحياء – الموتى
– 8 –
قالت الشبكة:
صحيحٌ أنّني عمياء.
لكن كيف يليق بأصدقائي أن ينسوا أنّ اليدَ التي تُمسِكُ بي وتستخدمني هي حتّى الآن، الأكثر عماءً.
– 9 –
لا تُنتِجُ أنهارُ التَّلَوُّث
إلاّ أسِرّةً من الوحل.
لا تُنتِج أسِرّةُ الوحل،
إلاّ أنهار التلَوُّث.
– 10 –
للضّوء جثثٌ عائمةٌ في فضاء الضّفّتين، يتزلَّجُ عليها التّاريخ،
فيما تؤبِّنها أسرابُ طيورٍ تقودُها الوطاويط:
البحرُ نفسُه يخجل إزاءها، من شواطئه وأمواجِه.
– 11 –
مَن كان يقول: إنّ أعداء أوغاريت والأبجديّة سيغتسلون، ذاتَ يومٍ، بدماء أصدقائهم وأبنائهم؟
– 12 –
الطّيور بيضاء خارج الضّفتين. حمراء – سوداء بينهما:
هكذا قلّما تخرج أرض الضّفتين من أنفاقها المظلمة الملتبسة.
– 13-
– «ما التوحُّش»؟ سألَتِ الضّفّةُ المشرقيّةُ تاريخَها.
قال: هو أن يسودَ الخروجُ على القانون. وأنتِ المثلُ والبرهانُ الكامل.
مع ذلك، لن يخرجَ منكِ أبناؤكِ، وإن خرجوا عليكِ.
– 14 –
مسكينٌ ذلك الجبّارُ المُسَيطِرُ: قتلَه سُمٌّ إيديولوجيّ،
وها هو يحيا ويفكِّر كمثل مَن يُشعِلُ شمعةً لكي يرى الشّمس.
– 15 –
قريباً بتدبيرٍ من الضفّة الغربيّة ستأكل الضفّةُ الشّرقيّةُ العنبَ
والكرَزَ مَخلوطَيْنِ بمسحوقِ الكاوتشوك.
– 16 –
يُحشَرُ ماءُ الضفتين في قواريرَ من النّفط ويُبعَثُ في براميلَ من الدّم.
– 17 –
ما هذه التماسيحُ الضّخمةُ التي تأتي وتروحُ في صحنِكِ الضيّق، أيّتها الضفّةُ الغربيّة ؟
– 18 –
تُشتَرى الأرضُ في الضفّةِ الغربيّة مُمَلَّحَةً بلا نهاية الفضاء.
ويُباعُ الفضاءُ في الضفّة الشرقيّة مُمَلَّحاً بالذّهبِ والصّواريخ.
كمْ أنتَ بائسٌ، أنتَ أيضاً،
أيُّها الكَعكُ الفضائيُّ الحديث.
– 19 –
بَشَرٌ لا يريدون أن يعيشوا إلاّ بوصفهم أشباهاً:
بوصفِ كلٍّ منهم نسخة عن غيره.
أتلكَ هي الأمّة؟
– 20 –
كلاّ، هنري برغسون،
الماضي لا يزالُ حيّاً، ولا تزالُ يدُه تقبض على الحاضر.
لكن، لن يُفلِتَ أحدٌ من الرّماد الذي يرتِّبُ النّهايات.
ولن يفلِتَ أحدٌ من سحر الشّعر:
لا نهايةَ فيه،
إلاّ داخِلَ اللانهاية.
– 21 –
اللغةُ العربيّةُ، اليومَ على الأخصّ، كلمتان:
الأولى صَمْتٌ مُتواصِل،
والثّانية نزيفٌ متواصِل.
ولستُ أنا مَن يقولُ ذلك،
يقولُه معجَمُ اللغة العربيَة.
– 22 –
هل بدأ ماءُ الضفّتين يثور على بحره – الأم؟
هل بدَأتْ كلُّ ضفّةٍ تبحثُ عن جسَدٍ آخرَ – صورةً ومعنى؟
هل بدَأتْ تخرج من الفلك الذي علَّمَ:
«لا وجودَ إلاّ لما لا وجودَ له»؟
هل يتلاقى الآن ابنُ رشدٍ وسبينوزا في بيتٍ
جديدٍ لصداقةٍ جديدة؟
أكادُ أن أراهما الآن، في هذه اللحظة، يتعانقان.
– 23 –
متى سينهضُ البيتُ – الجسرُ الرّاسِخُ بين الضفّتين؟
– 24 –
باسم هذا البيت، وانتظاراً له،
يشقُّ المُهاجِرون البحرَ بأحلامهم ورغباتهم.
يحوِّلون حتّى الزّبَدَ إلى سحابٍ يبرق ويُمطِر.
وها هي الهجرةُ بينهما تتزوَّجُ رعْدَ المسافات.
– 25 –
السّماءُ هذا الصّباح، مَوكِبُ أقدامٍ تسيرُ على الماء،
احتِفاءً بالهجرة،
والمَوجُ نفسُه يتحوَّلُ إلى أصدافٍ تتوهَّجُ
بلُؤلُؤِ الحلم.
– 26 –
هجرةٌ ترسمُ الفضاءَ، وتخلقُ ريحاً ثانيةً للبحر.
هجرةٌ تُفَهْرِس شيخوخةَ الفراشات، وطفولةَ الحجر.
هجرةٌ تغنّي:
تكون هجرةً أيُّها البحر،
أو لا تكون إلاّ جثّةً!
– 27 –
سمكةٌ هي السّماء في شبكة الأرض،
والبؤسُ صيّادُها الكسول.
وانظروا: تلك هي قلوبٌ تهجم على النّجوم كمثل قطعانٍ
يرجُّها الجوع،
تلك هي أيدٍ تُلوِّح في غابات السّديم،
تلك هي رؤوسٌ مقطوعةٌ تتشرَّدُ بين الكتب.
ماذا يحدُثُ لكَ يا صوتي؟
لماذا تختنق، لماذا لا تعلو؟
ألمحُكِ، أيَّتُها السّيوفُ، نعم ألمحُكِ تتربّصين في مَفارِقِ الطُّرُقِ وفي السّاحات العامّة.
ارتجفي يا أحشائي – كلاّ لا ترتجفي،
إنّه الأفق يتمزّقُ في خطوات المهاجِرين وآهاتهم.
إنّه المَوجُ يواصِل المَحْوَ.
الفضاءُ يَحْدَوْدِبُ ويأكل بعضُه بعضاً:
أين هي، إذاً، ذاكرة الملح والضّوء، أين هو إذاً،
ماءُ التّكوين؟ وماذا نفعل بمَوج الولادات؟
ما أبهاكَ أيُّها الكلامُ الذي يتمرّدُ حتّى على النُّطْق!
وما قَولُكَ أيُّها الشُّروقُ في غروبِ أمِّكَ الشّمس؟
– 28 –
القمرُ جريحٌ يسألُ دمَه:
في أيّ إناءٍ سوف تنسكِبُ، هذا المَساء؟
– 29 –
النّعاسُ يخيطُ أهدابَ الكتابة
والصّحراءُ تشرب الحُثالةَ قبل الأخيرة في مجرّةِ الألوهة.
أحبُّكِ أيّتها الهجرة،
جسدي لحافٌ يحبُّه سريركِ.
ما أملكُه لسـتُ سيِّـداً عليه، وأمـس أخذَتِ الرّيحُ من كبِـدي أجـزاءَ وزّعَتْـها على فقراءِ الأفُق.
– 30 –
بلى، ستظلُّ الرّياحُ تأتي وتروحُ بين الضفّتين،
ستظلُّ تحيي الشّجرَ – خصوصاً أشجارَ الزّيتون والبرتقال والصّنَوبَر.
أتخيّل وأسمع الرّيحَ تقول:
– الخيالُ هو الصَّخرةُ التي سينهضُ عليها الواقع.
لكن، ها هو كرنفالُ شُهُبٍ يشَوِّشُ النّظامَ الذي يسوسُ معسكراتِ الضَوء.
– 31 –
يسبحُ القطبُ مُغنِّياً في جوف حوتٍ أزْرقَ يزور المتوسِّطَ،
تسبحُ السّماءُ مغنّيةً في جَوفِ القطب،
تسمع الشّواطِىءُ الإيقاعَ نفسَه الذي تسمعُه أُذناي.
الحَصاةُ التي ولدَت تحتَ خطوةِ النّهار الذي وُلِدَت فيه،
تُشَيِّخُ الآن.
أتّكِئ على ذكراها وأشمُّ وردةَ المُخيِّلة،
في قلب هذه الوردةِ أولَدُ مرّةً ثانية.
يؤكِّدُ ذلك شهابٌ يجيء من جهة هذه الحَصاةِ،
وها هو يتهيّأُ – ها هو على أُهْبَة الوصولِ إلى العَتَبة.
لم أعُدْ أملكُ أصابعي لكي أقلِّب الصفحات التي كتبتُها وتَكتبُها
الآنَ أيّامي،
غيرَ أنّ الصّخرةَ التي بُنِيَت عليها لا تزال مُبَلّلةً بتباريحي.
أعترفُ لكِ، يا وردةَ الهجرة:
عطرُكِ سهْمٌ جامِحٌ كريمٌ يخْتَرِقُ أحشائي.