وشمٌ في ذاكرتي؛السّردية المفتوحة والحبكة متراخية التّرابط

خاص- ثقافات

*حامد عبدالحسين حميدي

يشكّل ( الوشمُ ) اشارة دالة وشكلاً رمزياً لانطباعية موسومة بالشيفرات الذهنية التي تتراكم في مخيلتنا المتأججة بحفريات الذات ، فإن كان الوشمُ خطوطاً ورسوماً ذات دلالية مغروزة من قبل الواشم ، فهي تحمل الكثير من التراكمات الباطنية ، لكن حينما يشكل الوشم حفرياً في ذاكرة ، فذا بحدّ ذاته ، قراءة ثانية لتقنية الاشتغالات الشمولية .. فـ ( الذاكرة ) وبما تشمله من طاقة لعلاقات افكار وتخزين لزمنية ماضوية لأحداث وقعت وانتهت في ظلّ متاهات سردية متفاوتة الحدث – مكانياً وزمانياً –
( وشمٌ في ذاكرتي ) (1) مجموعة قصصية للقاصّة ( ليلى المراني ) (2)، مثلت الروح الشفافة لتلك الأجندة التي تغوص في خوالج النفس وهي تحاكي تكدسات امرأة غاصّة بالهمّ الحياتي المتعب ، مالت القاصة الى اللغة البسيطة الميسّرة التي تصبّ بأسلوبية ( السهل الممتنع ) لأن ما لديها من البوح القصصي يحتاج الى مثل هذه اللغة محافظة على الرصانة والدقّة السردية في تعاملها مع الحدث ، أضف الى ذلك .. سيشعر القارئ ومنذ الوهلة الاولى بهذه اللغة التي تميل أيضاً الى الرومانسية الشاعرية الهادئة ، فلا نحسّ بضجيج وانفعالات ، بل نجد انسيابية مكتظة ، ( ليلى المراني ) تعرض ما مرّت بها من أحداث حياتية واقعية ، مما جعلها تميل الى الوصفية المفتوحة أكثر مما تميل الى الحوارية التي قد تكون احياناً متنفّساً لكثير من الاشياء ، شخوص قصصها كانت تدور ضمن ذاكرتها هي ، فهي ترسم على وفق نظامها الخاصّ السردي البسيط ذات الحبكة المتراخية الترابط ، محاولة منها عدم ارهاق ذهنية المتلقي بأسماء كثيرة قد تصيبه احياناً بالغثيان .
(( احتضنتْ دبّ (الپاندا) الذي تضعه قرب وسادتها منذ عشرين عاماً ، قبّلته ، وفِي أذنه وشوشت. “أنت صديقي منذ الأزل ، أعرفك وتعرفني ، أسراري كلها معك .. مطمئنّةٌ أنا ، ليس لأنك لا تنطق ، ولكن العِشرة بيننا جعلت منّا صديقين ، بل وأكثر ، ضاقت أنفاسي في صدري ، وأريد أن أسرّك بأمر يعذّبني”
نظرت في عينيه اللتين بالكاد تظهران غائرتين بكثافة فروٍ أبيض ، وهالتان سوداوان تحيط بهما . أحسّت به ينظر إليها ، مستفهما ، أردفت : “أنا واحدة من طابور نساءٍ يطلق عليهنّ عوانس ، هل تعرف معنى ذلك ؟ بالتأكيد لا تعرف ، سأقول لك .. يقولون : فاتها القطار ، لأوضّح أكثر ، من لا تتزوّج يطلقون عليها جوراً لقب العانس ، أبيحك سرّاً الآن ، أدري أنك ستحتفظ به في حنايا قلبك الصغير ، أنا لست عانساً كما يتوقعون ”  )) (3)
اتخذت القاصّة دمية ( دبّ الباندا ) نقطة ارتكاز من خلاله تحاول ان تبثّ ما لديها من سردية انثوية ، وأكثرنا يعرف مدى تعلق الفتيات منذ طفولتهن بالدمى ومحاولة محاكاتها بطريقة تناغمية خاصة بهن ، فالإسرار لدى هذا الصديق الجامد الذي لا يحرك شفتيه ، بل يكون مستمعاً جيداً لذلك البوح ، دون ان يبوح بسرّها للآخرين ، فالارتباط به يكون وثيقاً ، وهي تعلن له عمّا تعاني منه من مشكلة العنوسة التي تعاني منها النساء ، كونها آفة تفترس ذهنية المرأة وتطبق على جلّ تفكيرها المنبسط بخيالات من التراكمية الحياتية ، تبني القاصّة سرديتها وبما ينسجم مع الفكرة التي تحاول ايصالها .
(( ببطء مرّت سيّارتها من أمامه ، وعلى بعد بضعةِ أمتارٍ توقّفت. كمن يسير في نومه تحرّك حين أشارت إليه. المسافة بينه وبينها تتّسع وكأنّها دهور ، وكأن يداً خفيّةً تمسك به وتسحبه إلى الوراء ، ركض نحوها في إصرار ، لاهثاً .. مبلّلاً .. ألقى بجسمه على المقعد الخلفيّ . مسافة شبرٍ أو ثلاثة تفصله عن ملاكه الصغير .. صباح الخير. خرجت من بين شفتيه ترتجف ، وصوتٌ كتغريدة طير تسلّل عذباً شهيّاً إلى مسمعه .. صباح النور .. أهلاً خالي .
مطرقةٌ ثقيلةُ هوت على رأسه ! .. )) (4)
في هذه القصة نجد القاصّة ( المراني ) ، تؤكد على الفوارق العمرية ما بين الاجيال ، هي مشكلة معقدة في فهم المضامين الجيليّة وعدمها ، لذا جعلت من المشهد القصصي كافياً لإيصال ما يدور في مخيلة الفتاة الحالمة وبين الرجل الذي يكبرها سنّاً مدعاة للمناقشة ، المخيلتان تختلفان فكلّ مخيلة تدور في فلك مغاير ، وحسب معطيات التلويح الذهني ، فما بين الشعور بالحبّ ولواعج الشوق ومكابداته ، وما لاح في أفق الذكورة المتعطشة ، وبين أحلام غضّة مكتنزة الضبابية ، فارق لأن يجعلنا نقف ، لنرى الخطاب مثقلاً بخطأ الارسالية واستقبالها .
(( أوامر صدرت لنا أن نبيت الليلة في الغابة ، ومبكّرا في الصباح نقطع الجزء الأخير منها ، في انتظار سيّارات صغيرة تنقلنا إلى المرحلة الأخيرة من رحلة الموت .. سرعان ما افترش المهرّبان أوراق أشجارٍ ضخمة تشبه أوراق شجرة الموز ، وناما مسافة منّا ، قال أحدنا : لا تناموا .. الثلج سيجمّد أطرافنا إن نمنا على الجليد .. داوموا على تحريك أرجلكم.
قال آخر : ليُصلِّ كلّ منّا صلاته ..
وصلّى المسلمون وقوفا ، والمسيحيّة الضخمة صلّت جالسة في صمت ، وأنا. همستُ بخشوع : يا ربّ ساعدني حتى أدخل الحدود .. ولو متّ لا يهمّ .. سيحصل أولادي على الإقامة ..
هكذا صلّيتُ , وهكذا صوّرت لي سذاجتي .. أحدهم همس باكياً : اشتقت لأكل أمّي .. كباب , وشاي على الفحم .. )) (5)
تحاول القاصّة أن تسرد لنا ما آلت له الاحداث من تشرد وضياع وهجرة قسرية عن الوطن ، وهي تسجّل لنا بتقريرية مباشرة عما جرى لها ، فالكلّ أصبح واقعاً بين فكّي الغربة والحرمان ، فالمصير مجهول لدى الجميع ، ونقصد بالجميع ممن هاجر من ( المسلمين والمسيحيين والمندائيين … الخ ) الذين لم يروا غير الله مقصداً لنجاتهم ، فغربتهم توحدت به وانساقت تحت رحمته ، هذه الرحلة التي ملئت حزناً بتقطع الانفاس في موقف يثير الشفقة ويحرك ضمير الانسانية حينما تقول : ( قال أحدنا : لا تناموا .. الثلج سيجمّد أطرافنا إن نمنا على الجليد .. داوموا على تحريك أرجلكم . ) ، فالخطابية كانت جمعية ، بهجرة النوم بعيداً عن الوطن ، هجرته كي لا يكون لـ ( الثلج ) العنصر الطبيعي قوة في استلاب الجسد وموته ، لذا كان ( تحريك الارجل ) مسوغاً في البقاء ، وللشعور بالحياة وهي تدبّ في تلك الاجساد التي تشبعت  ألماً وشجوناً ، ثم نلاحظ أن الابتهال لله ، وسيلة أخرى للبقاء ، لأن الايمان يشكل ضرورة التماسية حينما يفقد الانسان كل شيء ويصبح متجرّداً منها إلا لحاجة في انفس المتغربين طلباً ( للإقامة ) التي كانت ملاذاً آمناً لهم ، في دوامة الاحداث .. ينسلُّ خيط أمل وبصيص ذكرى ، حينما ((أحدهم همس باكياً : اشتقت لأكل أمّي .. كباب , وشاي على الفحم .. )) ، هذه الروابط والوشائج التي تنقلنا الى فضاءات الروح ، وهي تسبر اغوار النفس المتأزمة ، دفقات وتردّدات بعدية ( لأكل أمي ) معناه المكان والأرض والأمان والراحة والشعور الدافئ .
نقرأ في تقديم الكتاب من د. مديح الصادق : (( أما الأحداث في حكايات ليلى المُرَّاني فهي جزء مما عاشته ، واكتوت بناره ، أو ما يتكرر يوميا في وطن ألهبته الحروب بنيرانها ، والصراعات الطائفية ، وتناهشته حيتان الفساد من كل حدب وصوب ، ما كان نتاج بيئة تطبعها ازدواجية الخلط بين مظاهر التحضّر ، والعادات الموروثة ، وما ينتج من هذا الخلط من أحداث وشخصيات جسَّدتها بشكل أو بآخر في نصوصها ، وللخيال حصة فيما كتبت ، وبلا خيال لا جمال لنص أدبي . )) (6)
اذ يؤكد ( الصادق ) على هذه اليوميات التسجيلية التي حاولت القاصّة ( المراني ) بفطنتها أن تضعها نصب عين القارئ كونها تجسّد ارتباطية وطن غصّ بأتون الحرب والصراعات الطائفية والفساد ، وظلّ رهين خيالها .
(( انتظرت قدوم العيد بفارغ صبر ، وإمكانيّات متواضعة الأم تدير بها شؤون عائلة كبيرة ، دفعها أن تتّخذ قراراً لا جدال فيه ، لا شيء جديد ، إلاّ في الأعياد.
أصبح للعيد نكهةٌ خاصة ، ومراسم وطقوسٌ مميّزة ، ثوبٌ وحذاءٌ جديدان ، ونقودٌ قليلة ، سرعان ما يستولي عليها شاكر ، حين ينصب أراجيحه الخشبيّة ، لتتسارع الأجساد الصغيرة في امتطائها ، وكركراتٌ نشوى تملأ المكان فرحاً وحياة . )) (7)
الحلم الصغير ، في ظل ظروف معيشية قاسية قد يتحوّل الى نقمة أحياناً ، ليصبح بعيد المنال ، لكن للفتيات الصغيرات من المبررات المقنعة ولاسيما امام ( الامّ ) . القاصّة ( المراني ) تركّز على  عادات وتقاليد العائلة العراقية  .. من شراء ملبس العيد صورة طريفة ومثيرة ، والرغبة بشراء ( حذاء جديد ) والإصرار عليه ثم نيله ، حدثاً سردياً له نشوته الطفولية – انذاك – لكن / ان يكن الحذاء فريسة للضياع من قبل كلب لدى الاقارب اعطى للحدث الصبغة الفكاهية و رسم التندّر عليها .. الامر الذي أدّى الى ضياع ذلك الحلم وتلاشيه .
بهذه القصص ( وشمٌ في ذاكرتي ) استطاعت ( ليلى المراني ) وبما تمتلكه من خزين حكائي منبسط ، أن تكون ، قصصاً واقعية بحمولات دلالية واضحة وبسيطة ، تنساق ضمن تحرّك سردي رصين ، قصص تدعونا للقراءة والتتبع .. تغرينا بالعودة الى العيش في ذاكرة بقي فيها وشمٌ مثّل لنا الكثير حينما نحاول فكّ شيفراته الدلالية ، تدعونا للحرية والتسامح والنقاء.. الى رصد معنى الطفولة البريئة .. ومحاكاة الحلم الصغير ، الى حقوق المرأة التي كبُرت .. وما زالت رهين مجتمع لن ولم يستطع ان يعطيها حقّها ، ( المراني ) وفّقت في تناولها الواقع الحياتي الذي لا يمكننا أن ننسلخ عنه إلا بذاكرة متخمة .
………………………………
هوامش :
………..
(1) وشمٌ في ذاكرتي : ليلى المراني ، دار المختار للنشر والتوزيع ، مصر الطبعة الاولى 2017 .
(2) ليلى المراني ( ليلى عبدالواحد غياض المرّاني ) : قاصة عراقية مغتربة ، تولد العراق – بغداد . خريجة قسم اللغة والأدب الإنكليزي / كلية التربية / جامعة بغداد ،عملت في سلك التدريس ، درست في مدارس العمارة ؛ ودار المعلمات الابتدائية ، ثم انتقلت إلى بغداد وواصلت التدريس فيها ، كتبت القصة القصيرة في ( المجلة الأدبية ) الصادرة في كلية التربية آنذاك ، نشرت قصصاً قصيرة في ( مجلة الصدى ) التي تصدرها الجمعية المندائية في استوكهولم ، وقصصاً وخواطر ومقالات على موقع التجمع الإنساني الثقافي الالكتروني ، ومؤسسة المختار ، ومنتدى ثورة قلم لبناء انسانٍ أفضل ، صدرت لها ( وشمٌ في ذاكرتي ) مجموعة قصصية ، عن دار المختار للطباعة والنشر في القاهرة .
(3)     ص 11. الأرجوحة الحمراء .
(4) ص 19. حين تتشابك الخيوط .
(5) ص 22. فصل من رحلة الموت .
(6) ص 8 . الدكتور مديح الصادق رئيس التجمع الانساني الثقافي في كندا .
(7) ص 28. أحلام ممنوعة.
_________
*ناقد عراقي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *