الموعــــد الملعــــون

خاص- ثقافات

*عبدالله زغلي

تدحرج مع الزقاق الضيق كالعادة  نحو دكانه  المنسي  في زاوية ضيقة ، تحيط به دكاكين عدة  ، إنه  البشير الإسكافي …

فتح باب دكانه .. أخذ إناء  واتجه به نحو  حنفية المسجد الموجود جواره  ،  ملأه ماء ، وعاد لينظف باب الدكان ، والحارة المشتركة  ،  المنفتح عليها .

يبدو الدكان بئيسا  ،  ملأه بمتلاشيات أحذية  ،  وكأنها أحذية سكان المدينة بأكملها  ،  حين يقبع بينها  ،  لاتكاد تتعرف عليه  ،  يبدو قطعة سوداء وسطها  كأنه ” زيطة ” نجيب محفوظ  في زقاق المدق  .

علق يافطة منهدة ، حائلة ، على الباب كتب عليها  ” الإسكافي معروف ”  عنوان بقي عالقا بذاكرته منذ أيام دراسته الإبتدائية  ، من بين عناوين كتاب   ” القراءة المصورة ” الشرقية  …

رجل في سن الستين ، قصير القامة  ،  دميم الخلقة  ،  أعرج   ،  ينحني ويستقيم في مشيته ، كأ نه راقصات ” جميل بثينة ”  حتى أن بعض متعلمي الحي أطلقوا عليه إسم  ” نقطة التعجب  ”  ،  يضع على عينيه نظارتين سوداوين  ،  وقبعة من بقايا عهد الإستعمار الفرنسي  ،  لالون لها من فرط تعرضها لأشعة شمس فصل الصيف الحارقة .

يعلق على الباب  أمامه  ” مذياعا ” يجد صعوبة في التقاط محطة  الإذاعة الوطنية الوحيدة التي يتابعها باهتمام بالغ وبزهو كبير ، تصل إليه متقطعة … تغيب كثيرا وتحضر قليلا  ،  كأنها تبث من كوكب المريخ .

أحَبُّ الأمور إليه .. تتبع حركات  النساء العابرات أمامه  ،  لافرق عنده بين هذه وتلك  ،  وكلهن ملفوفات في أغطية بيضاء  ،  لايظهرن من أجسادهن غير عين واحدة  يهتدين بها  ،  ويصنعن بها العجب العجاب  .

يُحيّي هذه  ،  ويسلم على تلك  ،  وينادي على أخرى  ،   وهو ملتصق بأرضية باب دكانه ،  يحرك رأسه الذي  لايهدأ ،  كأ نه  ” كوبرا  ”  تتحين  

     الفرصة لإقتناص فريستها  ، وقد اسودت رؤوس أصابع يده اليسرى ، من شدة ضربات المطرقة التي  تخطئ المسمار وتصيبها …               جلست إحداهن القرفصاء أمامه  ،   قدمت له حذاء ليصلحه  ،  وهو يحركه بين يديه  ،  طلب منها  أن تزوره  في منزله  .

افتكت الحذاء منه  ،  بصقت في وجهه ، وانصرفت وهي تردد :

ــ  لعنة الله عليك .. الشّارفْ .. المْوَسّخْ .. الخانَـزْ …؟!

لاتـَهُـمّه مثل هذه الطعنات  ،  لم يتوقف  عن عادته  ، ولم يرتدع .

وهو منهمك في عمله  ،  ومنهمك في ملاحظة وملاحقة المارة بعينيه  ،  صرخ مناديا :

ــ ” الزّايْـخَة .. الزايخة ..”   آجي .. آجي ..؟!!

انعطفت إليه  ، إنه  يعرفها ، كما يعرفها جل سكان الحي  ،  كانت ” زائخة ” في شبابها  ،  تلعب بعواطف أبناء حيها  ،  وتتلاعب بها كيف تشاء   ،  أما اليوم فقد انتهى كل شيء  ،  وأصبحت ” شيطان الحي ”  .

جلست أمامه ، وقد أُرْدِم فمُها  ،  وابتلعت أسنانها  ،  وتَجمّع القذى على مآقي عينيها  ،   يتطاير الرذاذ من فمها ، وهي تتحدث إليه  .

خاطبها مباشرة  :

ــ كاين شي سلعة .. أجديدة …؟!

ـــ الْخيرْ موجودْ .. ؟!

حددا موعدا للزيارة  ــ بعد صلاة العصر ــ  تناول البشير يومها غذاءه بالدكان ،  بعدما أخبر زوجته بعدم العودة إلى المنزل  ،  ” بصلة ” عصرها بين أسنانه إلى جانب قطعة خبز .  

قبل أن  ينطلـق ، أحس برائحة  كريهة  تَـصّاعـدُ  من  جوفه ، كأنها  رائحة            ” بالوعة ” صرف المياه  ،   مد يده  إلى قنينة عطر  من  النوع  الرديء  ،

عمرت طويلا بين متلاشياته  ،  رش منها على ثيابه  ،  وتحت إبطيه  ،  وعلى وجهه وقبعته   .                                                                        

لم يقتنع  ،  اشترى علبة  ”  شوينكّوم  ”  ذات خمس قطع  ،  ردمها في فمه  وانطلق يجتر .

أدخلته ” الزّايْـخة ” إلى غرفة ضيقة  ،  أجلسته على ما يشبه أريكة  ، مغطاة  بأفرشة  ، ابتاعتها من ” خوردة ” المدينة  .

خرجت ، وعادت  تتبعها ” السلعة الجديدة ”  رفع البشير رأسه  ،  خرجت عيناه من مكانهما   ،  فخر فاه  ،  وضع يده على جبهته ، وصرخ  :

ــ  مَـــرْتـــي …..؟؟؟!!!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *