تدحرج مع الزقاق الضيق كالعادة نحو دكانه المنسي في زاوية ضيقة ، تحيط به دكاكين عدة ، إنه البشير الإسكافي …
فتح باب دكانه .. أخذ إناء واتجه به نحو حنفية المسجد الموجود جواره ، ملأه ماء ، وعاد لينظف باب الدكان ، والحارة المشتركة ،المنفتح عليها .
يبدو الدكان بئيسا ، ملأه بمتلاشيات أحذية ، وكأنها أحذية سكان المدينة بأكملها ، حين يقبع بينها ، لاتكاد تتعرف عليه ، يبدو قطعة سوداء وسطها كأنه ” زيطة ” نجيب محفوظ في زقاق المدق .
علق يافطة منهدة ، حائلة ، على الباب كتب عليها ” الإسكافي معروف ” عنوان بقي عالقا بذاكرته منذ أيام دراسته الإبتدائية ، من بين عناوين كتاب ” القراءة المصورة ” الشرقية …
رجل في سن الستين ، قصير القامة ، دميم الخلقة ، أعرج ، ينحني ويستقيم في مشيته ، كأ نه راقصات ” جميل بثينة ” حتى أن بعض متعلمي الحي أطلقوا عليه إسم ” نقطة التعجب ” ، يضع على عينيه نظارتين سوداوين ، وقبعة من بقايا عهد الإستعمار الفرنسي ، لالون لها من فرط تعرضها لأشعة شمس فصل الصيف الحارقة .
يعلق على الباب أمامه ” مذياعا ” يجد صعوبة في التقاط محطة الإذاعة الوطنية الوحيدة التي يتابعها باهتمام بالغ وبزهو كبير ، تصل إليه متقطعة … تغيب كثيرا وتحضر قليلا ، كأنها تبث من كوكب المريخ .
أحَبُّ الأمور إليه .. تتبعحركات النساء العابرات أمامه ، لافرق عنده بين هذه وتلك ، وكلهن ملفوفات في أغطية بيضاء ، لايظهرن من أجسادهن غير عين واحدة يهتدين بها ، ويصنعن بها العجب العجاب .
يُحيّي هذه ، ويسلم على تلك ، وينادي على أخرى ، وهو ملتصق بأرضية باب دكانه ، يحرك رأسه الذي لايهدأ ، كأ نه ” كوبرا ” تتحين
الفرصة لإقتناص فريستها ، وقد اسودت رؤوس أصابع يده اليسرى ، من شدة ضربات المطرقة التي تخطئ المسمار وتصيبها … جلست إحداهن القرفصاء أمامه ، قدمت له حذاء ليصلحه ، وهو يحركه بين يديه ، طلب منها أن تزوره في منزله .
افتكت الحذاء منه ، بصقت في وجهه ، وانصرفت وهي تردد :
لاتـَهُـمّه مثل هذه الطعنات ، لم يتوقف عن عادته ، ولم يرتدع .
وهو منهمك في عمله ، ومنهمك في ملاحظة وملاحقة المارة بعينيه ، صرخ مناديا :
ــ ” الزّايْـخَة ..الزايخة ..” آجي .. آجي ..؟!!
انعطفت إليه ، إنه يعرفها ، كما يعرفها جل سكان الحي ، كانت ” زائخة ” في شبابها ، تلعب بعواطف أبناء حيها ، وتتلاعب بها كيف تشاء ، أما اليوم فقد انتهى كل شيء ، وأصبحت ” شيطان الحي ” .
جلست أمامه ، وقد أُرْدِم فمُها ، وابتلعت أسنانها ، وتَجمّع القذى على مآقي عينيها ، يتطاير الرذاذ من فمها ، وهي تتحدث إليه .
خاطبها مباشرة :
ــ كاين شي سلعة .. أجديدة …؟!
ـــ الْخيرْ موجودْ ..؟!
حددا موعدا للزيارة ــ بعد صلاة العصر ــ تناول البشير يومها غذاءه بالدكان ، بعدما أخبر زوجته بعدم العودة إلى المنزل ، ” بصلة ” عصرها بين أسنانه إلى جانب قطعة خبز .
قبل أن ينطلـق ، أحس برائحة كريهة تَـصّاعـدُ من جوفه ، كأنها رائحة ” بالوعة ” صرف المياه ، مد يده إلى قنينة عطر من النوع الرديء ،
عمرت طويلا بين متلاشياته ، رش منها على ثيابه ، وتحت إبطيه ، وعلى وجهه وقبعته .
لم يقتنع ، اشترى علبة ” شوينكّوم ” ذات خمس قطع ، ردمها في فمه وانطلق يجتر .
أدخلته ” الزّايْـخة ” إلى غرفة ضيقة ، أجلسته على ما يشبه أريكة ، مغطاة بأفرشة ، ابتاعتها من ” خوردة ” المدينة .
خرجت ، وعادت تتبعها ” السلعة الجديدة ” رفع البشير رأسه ، خرجت عيناه من مكانهما ، فخر فاه ، وضع يده على جبهته ، وصرخ :