اشتغالات الرمز في “عودة آدم”.. ” ورطة الجد الجميلة؟ “

خاص- ثقافات

*عبد الجليل لعميري

تقديم :

  “عودة ادم “عمل للشاعر المغربي عبد الرحيم الخصار، صدر عن منشورات المتوسط (براءات) في طبعته الأولى 2018 بميلانو/ايطاليا وهو في 72 صفحة من الحجم المتوسط.

 يتوزع هذا الديوان عل 59 مقطعا شعريا(أوقصيدة قصيرة تتأرجح بين سطرين شعريين وصفحة كاملة).هذه المقاطع/القصائد غير مرقمة ولا معنونة ،كتبت كل منها في صفحة مستقلة بدون أي فاصل بينها ،وكأنها موجات متدفقة منسابة،بهدوء أحيانا (سطران) أو بمد ممتد أحيانا أخرى (تتجاوز العشرة أسطر)لا حواجز داخل المقطع/القصيدة ،بل هي تتدفق ولا تنتهي سوى بنقطة في آخر المعنى..وتخفت علامات الترقيم الأخرى.ويعد هذا الديوان الجديد تعزيزا انتاجات الخصار الشعرية التي نذكر منها :انظر واكتفي بالنظر (2007) ونيران صدقة(2009).

*من القصة القصيرة إلى القصة القصيدة:

+حكاية ادم الشعرية : تفاعل القصة والقصيدة.

  إن كان للشعر بالنثر علاقة يشوبها بعض الصراع الخفي ، منذ القديم،فان لها آيات تدل على الاتصال الظاهر والواعي.فقد استفاد الشاعر مما تتيحه “النثرية”من إمكانات خصوصا في أنواعه الحكائية(وأهمها القصة القصيرة المتساوقة مع حجم القصيدة).كما استفاد القاص من غنى اللغة الشعرية وفاعليتها في تطوير لغة القصة القصيرة خصوصا (ولعل مثال ادوارد الخراط معلوم بحديثه وتنظيره للقصة القصيدة).

  وقد كتبت في باب توظيف القصة في الشعر الكثير من الدراسات ،بعضها تحدث عن القصة في الشعر القديم والحديث(ثروة أباظة مثلا). ولعل الشاعر الحديث/الحداثي قد طور هذه العلاقة،فارتقى بها من مستوى علاقة الصدفة ،إلى علاقة القصد الواعي المسبق. حيث أصبحت تقنيات الحكي أدوات يتوسل بها الشاعر لبناء حبكة مضامينه وصوره الشعرية،خصوصا أن الوعي النقدي للشاعر الحديث وتنوع ثقافته(الاطلاع الواسع المتاح على التراث والفلسفة والعلوم الإنسانية و التشكيل و السينما)فتح عينيه على انمحاء الحدود بين الأنواع الأدبية.

والشاعر عبد الرحيم الخصار هو من طينة الشاعر  الحديث المتشبع بثقافات  العصر وخبراته،لأنه  قارئ  نهم وجوال  من حفدة ابن  بطوطة.وليس  غريبا عن  عالم الحكي، لان له تجربة سردية  ممتعة  بعنوان”خريف  فرجينيا”  تجمع بين روح الرحلة ومتعة

اليوميات(2017).كما  ننتظر  دخوله إلى  نادي  الرواية حسب  تصريح  له  مؤخرا.كل هذا  يبرر وجود  روح الحكي  في  قصيدة/ديوان  “عودة  ادم”.

فما هي أهم وقائع  هذه الحكاية؟وما  مدى مساهمتها  في شعرية النص؟؟

*وقائع السقوط  والحيرة :

  اختار  الشاعر لحكايته بطلا تفوح منه روائح  العتاقة والدين،باعتبار  اسمه “ادم”  الدال على رجل مخلوق  من تراب  احمر او صلصال  او أديم الأرض ،أبو  البشر ،والوارد ذكره  في “الكتب السماوية”المعروفة ..وجعله  يقوم بفعل  بشري قديم :االرحلة ،باعتبارها حركة في المكان والزمان.هذه االرحلة اتخذت شكل  عودة ،وعبر ذلك نتعرف  على ما سبق  العودة وما لحقها.

   من خلال التاريخ الديني الذي يلقي بظلاله خلف حكاية ادم الشعرية ،نعرف انه خلق أولا وظل موجودا بالجنة مع الملائكة (ص11)وكان أول رجل على الأرض(ص9) ،وحين طالت يده شرك التفاح(ص9)،نزل إلى الأرض أول مرة ،ليظل فيها محاصرا بالندم إلى أن رحل عنها .وهو ألان ينزل (يعود)إليها مرة ثانية بإرادة الشاعر الذي يقوده إلى ارض عمرت قرونا بعد رحيل الأب الأول .وتأتي باقي الأحداث عبارة عن مشاهد يراها ادم ويحكيها باستعمال ضمير المتكلم(الرؤية المصاحبة)،لأنه مشارك في أحداث هذه الحكاية ،فهو الذي يعود إلى الأرض وهو الذي يرى ويتذكر .هذه المشاهد تقوم على لحظتين زمنيتين :

أ/لحظة الماضي ،حين يتذكر ادم ماضيه،وماضي البشرية وماضي الأرض ،وهي لحظة يمتزج فيها الألم بالفرح(هذه الأرض/ربما كانت عقابا ربما كانت غنيمة حرب)ص 17.وتفوح”حسرة وحنينا”ص 11.لكنها لا تخلو من قوة “في عهدي لم تكن تمة/امرأة تمد يدها للعابرين”ص 29.فرغم ندم ادم على نزوله الأول،فهو ارحم من عودته الآن.

ب/لحظة الحاضر :زمن عودة ادم إلى الأرض بعد عشرات القرون ،وهي لحظة مأساوية تطغى عليها الأزمات،وان كانت أيضا لا تخلو من لقطات منيرة:يرى ادم مشاهد من الفقر(ص26)والحرب(ص30)وهي مشاهد تجسد عبثية الوجود وبلادة المشاعر(كانت القنابل تسقط/على رؤوس أحفادي/فيما الجالسون حولي يزرعون أبصارهم/في هاتف او جريدة /يثرثرون…”ص30.ولا يخفي ادم إعجابه ببعض مظاهر التطور في الأرض الجديدة ،خصوصا بعض المهارات والتقنيات الحضارية الجديدة (المصاعد/القطارات/القنطرة/الطائرة..”ص.ص 34/38.وهذا التعاقب ألتناوبي بين الحزن والفرح،بين الغضب والدهشة،بين الألم والراحة ،ينبت مشاعر ممزقة في ادم (العنف/الحروب/المجاعة/الفقر)ص ص 40/41.فيدفعه ذلك إلى استنكار ما آلت إليه الحالة البشرية (أي ارض/هذه التي زلت إليها قدماي؟ص42)متذكرا خذلانه(خذلني التفاح/ص44).ومتذكرا وضعيته الأولى حين كان مركز الكون الوحيد(كنت رجل السماء الوحيد/أومئ للضوء فيعدو هضابا ووديانا تلمع/تهب أنفاسها على شجر الخلد فيزهر…ص43).أما الآن ،في زمن العودة ،والنزول الثاني للأرض(بعد خذلان التفاح)فادم يصبح سيزيفيا مضاعفا(أحس بأطرافي وقد غلت/إلى أحجار ثقيلة) 47.وهنا تتولد لغة يصبح معها الجمال مغتربا في هذا العالم:”لا احد هنا ينتبه إلى القمر”ويتولد الاستنكار كآخر أسلحة ادم “إلى أين تمضي أيها العالم وانأ الأب الأول لكل هذا الأبد؟” وادم يتورط أكثر في تجواله على وجه الأرض يستعرض تاريخ الأحفاد بلونيه الأبيض والأسود ،الديانات المختلفة ومصائر الشعوب. بهذا الاستعراض عبر تداعي الذكريات يرى ادم وجهه في المرآة،فيرى غربته هو ووجهه ويلجأ إلى الهروب عبر النسيان(الملاح الوحيد الذي سيجدف بنا /هو النسيان ص57).يتخذ حكي ادم الحميم شكل اعترافات(ص59)،يضمنها رغبته في تحسين الوجود “ربما كان أولى ليد السماء/أن تحنو أكثر”ص60.رغبة معلقة في السماء لان ادم “الطيان السكران/الذي يتشقق الخزف في مواقده/ترتعش يداه وما من حيلة”ص63،فالعجز يطوقه بحزام من التشاؤم(هذا الكوكب/ضربة فرشاة /سيمحوها المطر)ص66.ومصير حفدته هو الاختفاء(ص67)لكن هذا الأفق السوداوي ،الذي رسمه حكي ادم عن مصير حفدته ،سيتكسر بنغمة منشرحة في آخر القصيدة/الديوان :”وفي طريقي التي تنتهي/ستبدأ بعدها طريق/سأخلط الأمل بالماء/وادهن الجدران”ص69.

   بهذا يتضح أن الشاعر وفر لحكايته الشعرية كل عناصر الحكي الأساسية:فالأحداث غنية مشحونة بالصراع والدرامية،والسارد/الشخصية /البطل ادم يقوم بفعل سردي هائل تبنى عليه القصيدة/الديوان بالكامل.مع وجود أماكن أساسية ذات أبعاد رمزية متنوعة(مفتوحة/مغلقة/معادية/حميمة)أهمها الأرض كفضاء متنوع يشبه غابة يوري لوتمان التي تحدث داخلها وقائع خطيرة ،وانتقال الإنسان بين حدي “البيت الآمن ” و”الغابة الخطيرة”يجسد حركة ادم وسلالته بين الفضائين التي هي جوهر المأساة الإنسانية التي صورها لنا الخصار شعريا.أما الزمن فانه يحضر بطبيعته السردية الواضحة(المزاوجة بين الاسترجاع والترهين)،فان قامت رحلة ادم على المشهدية (وجوده كتجسيد لرحلة راهنة)فإنها استحضرت ما قبل تاريخ التفاحة في شكل استرجاعات لإنارة اللاحق بواسطة السابق.وهذا التعالق الزمني شكل لحمة النص وجوهره الدينامي.وعن اللغة الحكائية نقول بوجودها متجسدة في ثلاثية :الوصف،السرد والحوار،في تعالق يضمن التكامل والتفاعل.

إن اختيار الشاعر لأدم كسارد/شخصية مناسب للطبيعة الشعرية للنص(ضمير المتكلم له وظيفة تعبيرية واضحة وتنزع نحو التخلص من الطابع الفرداني الغنائي لترقى الى الطابع الدرامي الوجودي لأنه أيضا يمتح من ايجابيات اللغة الحوارية المونولوجية وما تحققه من بوح وكشف للنوايا والمواقف الداخلية. ويتناوب الوصف والسرد لتقريبنا من فضاءات وشخصيات النص الشعري .

فهل توظيف روح القصة في هذه التجربة الشعرية يعزز شعريتها ام يضعفها؟

*الرمز وبناء الشعرية في “عودة ادم”.

أسست الشعرية العربية صورتها على أدوات وأساليب بلاغية وأسلوبية متعددة ،سعيا وراء نشدان المثال الشعري.فمرورا بالتشبيه والاستعارة والكناية ووصولا الى الانزياح والرمز بالأسماء او بالأساطير ،تشكلت تجارب متفاوتة الشعرية.

ولكن هل البلاغة /الأسلوبية وحدها تبني الصورة الشعرية؟

    هذا السؤال قاد بعض التجارب الشعرية إلى البحث عن وسائل وأدوات فنية أخرى ،متنوعة وغير مألوفة لبناء الصورة ،مثل ما رأينا هنا فيما يخص توظيف تقنيات الحكي لبناء وتشكيل النص الشعري،مضمونا ورؤية شعرية .وهناك من استوحى الرؤية التشكيلية في الشعر ،أو الرؤية السينمائية أو تقنيات المسرح…

ولكن يظل الرمز،بجميع ألوانه،سيد التصوير في الإبداع الأدبي نثرا وشعرا،والإبداع الفني عموما (كتابة مسرحية /رسم ونحت وسينما).

وعودة ادم تجربة شعرية تراهن على الرمز لبناء رؤيتها الفنية.

*الرمز :في المفهوم.

  على مستوى اللغة الرمز تصويت خفي باللسان كالهمس او إشارة بالشفتين.وحسب ما ورد في كتاب “من الرمز الى الرمز الديني”للباحث التونسي بسام الجمل(2007):”فالرمز كلمة مأخوذة من اليونانية ،وتعني قطعة من الخزف او الخشب تقسم بين شخصين بيد كل واحد منهما قسم يستدل على هوية احدهما ويثبت طبيعة صلته بالأخر”ص 13.

واصطلاحا هو :إشارة إلى أمر لا يقع تحت الحواس ،وهو معنى خفيا إيحائيا ،او وسيلة إيحائية تلميحية. ويعتبره البعض لغة تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة (البرق الذي ينتج وعيا بعالم لا محدود(.وهو أيضا مفهوم مشحون بمعاني وطاقات إيحائية جديدة،تحدث غموضا يدفع الى البحث عن معاني جديدة.ومن هنا تصبح الحاجة لتأويله ضرورة لفهم التعبير الشعري.

والرمز أنواع تطورت بتطور المنجز الشعري الإنساني،ويمكن الدمج بين أكثر من نوع داخل القصيدة الواحدة.وحسب المنجز النقدي الحديث يمكن التوقف عند :الرمز الأسطوري الذي يوظف بطلا أسطوريا لتصوير رؤية الشاعر للوجود

(سيزيف/بروميتيوس/سربروس/تموز/عشتار…) .والرمز التاريخي الذي يستعمل بطلا تاريخيا قديما او حديثا (جيفارا/صلاح الدين الايوبي..)،او الرمز الشعبي الذي يستدعي بطلا شعبيا (سيف بن دي يزن/بيبرس..)او الرمز الصوفي (شخصية صوفية مثل الحلاج)او الرمز الادبي الذي يقوم على توظيف شخصية ادبية (لوركا/المعري).واخيرا الرمز الديني الذي يعتمد شخصية دينية (عيسى/ايوب..).وقد يوظف الرمز توظيفا حرفيا مباشرا أو جزئيا او ايحائيا ،أو يوظف كقناع.

ونسجل هنا ان الشاعر الخصار قد اختار توظيف رمز ديني باعتماده لاسم ادم ابو البشرية المذكور في الديانات الثلاث،معتمدا على استعماله كقناع رمزي للتعبير عن رؤيته للكون وأحواله.

فما هي اشتغالات الشاعر على الرمز الديني ؟وكيف بنى هذا الرمز الصورة الشعرية في القصيد/الديوان؟

*اشتغالات الرمز الديني في “عودة ادم”:

 بالعودة إلى المعنى الذي أورده بسام الجمل في كتابه ” من الرمز إلى الرمز الديني”تلاحظ ان هذا المعنى يقابل بين طرفين/شخصين يملك كل منهما ما يدل على هويته وهوية الأخر،والصلة الرابطة بينهما ،وان ما يستدل به هو عبارة عن نصف قطعة(خشب/خزف)ناقصة ولا يتحقق كمالها إلا بوجود القطعة الثانية ،ومن هنا فالشاعر هو نصف القطعة الخزفية/الخشبية التي تحتاج إلى نصفها الأخر الذي يتممها ويكمل وجودها ،أي الرمز المجسد في نموذج من النماذج المشار إليها سالفا.

  وباختيار الشاعر الخصار لاسم ادم ،فقد اختار رمزه الديني باستدعاء هذه الشخصية الدينية وتقمصها ،باعتبارها النصف الأخر المكمل له هنا يصبح ادم قناعا رمزيا للشاعر،ولأدم كرمز ديني خصائص تأهله ليكون رمزا فعالا ووظيفيا في بناء الرؤية الشعرية ،نذكر منها :

  -انه رمز متلبس بالوجود الإنساني،لأنه يكشف عبر رحلته/عودته الوضعية البشرية الهشة في بعدها الدرامي والإنساني.

– انه قابل للتحول ،فادم كشخصية دينية يصبح حاملا لدلالات تتجاوز معناه الأصلي ،ليرمز للضياع والتمزق والتحدي وغيرها من المعاني.

-انه يمتلك معقولية خاصة به ،جوهرها منطق داخلي خاص بسيرورة الأحداث وبناء الرؤية ،حيث تتكامل العلاقات السببية لتشكيل بنية النص ولحمته.

-انه رمز قابل للتصنيف ،فادم يصنف كرمز ديني اسلامي خاص بالمسلمين،كما يصنف باعتباره رمزا كونيا يتجاوز العربي/الاسلامي الخاص الى الكوني العام،وهو مركب لأنه يختزل تحولات الوجود البشرية ولا يقف عند ما هو بسيط وخاص بالفردي المحلي.

-وأخيرا فانه قابل للتأويل ،مما يجعل معناه غير محدود او محصور في الزمان او المكان او الثقافة ،فقد يدل على نموذج الإنسان الذي يدفع ثمن الخطأ مضاعفا(توارث الأخطاء)،وقد يرمز للدلالة على “تراجيديا الحقيقة”كما يقول ريكور،وقد يدل على تراجيديا السقوط /النهوض في الحياة.

وحسب بيرس :”الرمز يمثل الطابع التمثيلي للإنسان،وهو مجموعة من علامات متنوعة ترتبط بما تمثله”.فلماذا اختار الشاعر ادم من دون غيره من الرموز؟وهل يخلو النص من رموز أخرى بنفس الأهمية ؟

  اول ما نلاحظه انه رمز غير مستهلك-ان جاز التعبير-بمعنى ما ،فبعض الرموز تم تداولها بشكل موسع في تجارب شعرية مختلفة مثل (ايوب/عيسى/الاساطير ).ولعل في ذلك فضلا للشاعر وهو يبادر الى الاشتغال على ما هو غير “مسبوق”؟

 وثانيا فتقنية القناع مكنت الشاعر من التعبير عن رؤيته الشعرية للوجود ودراميته بطريقة غير مباشرة ،لان المباشر يفقد القول الشعري شعريته المنشودة،وهذا لا يعني تجريد القول التقريري المباشر من أهميته في تنويع الأساليب داخل القول الشعري.

والقناع يتيح للشاعر توسيع رؤيته وتوظيف معارفه التاريخية والنفسية والدينية وكل ألوان ثقافته الشخصية.

وبهذا يكون الشاعر وادم وجهان لبعضهما البعض،فادم يحتاج الشاعر ليقوده نحو الأرض الجديدة ومظاهر البؤس والإدهاش فيها ،هو دليله في مسالكها التي لم يألفها.

وادم هو الصوت الذي يستعيره الشاعر لقول ذاته،القناع الذي يخفي وجه الشاعر لدرجة لا نرى سوى الرمز،والشاعر يستريح في ظله متمتعا/متحسرا بما يرويه ادم ويحسه.فأين ينتهي الشاعر ؟وأين يبدأ الرمز/ادم؟

  لعل كثافة التعبير الشعري عند الخصار تجعل المهمة صعبة،فكلما حاول القارئ إلقاء القبض على صورة الشاعر، يفاجأ بظهور وجه ادم،وكلما قال :هذا ادم يتكلم ويرى ويحكي،ظهر له وجه الشاعر او صوته واستحالت مهمة التمييز بينهما.

  هذا ما جعل الصورة الشعرية تتجاوز القصائد/المقاطع لتخترق النص العضوي كله ،لم يعد التصوير في عودة ادم يراهن على بناء الصورة الشعرية عبر عناصر منفصلة ،بل راهن على إطار مركب يقوم على رمز ادم من بداية النص الى اخره.

وجود رمز ادم في مقاطع الديوان وجود متنامي تكراره يضيف لا يعيد ،يبني افقيا وعموديا لا خطيا.

وأنت تنهي العمل الشعري ترتسم أمامك لوحة بألوان الحياة :السواد ،البياض ،الاحمرار والاصفرار…حياة فيها الرمادي والازرق والاخضر…صورة الوجود البشري بماء الأمل مع قطرات الحزن.

*دوافع ونتائج توظيف الرمز الديني في عودة ادم :

من اهم الدوافع العامة للإبداع “ضغط الواقع”المتجلي في معاناة الذات/الجماعة البشرية.ولعل عصرنا الحديث(الذي عاد إليه ادم او ارجع إليه)،هو المثال الصارخ على المعاناة الجماعية والفردية ،الحروب والمجاعات والفقر والتفاوت الطبقي والعنصرية ،والظلم والتفسخ…انسحاق الإنسانية في ذروته ،فرغم انه العصر الذي أنتج اكبر ترسانة حقوقية وأنتج ألوان الفكر الديمقراطي والعلمي ،وأرقى أنواع التحضر والرفاهية ،فان له وجه قبيح يظهر انسحاق الإنسان وعبوديته وفقدانه لأبسط الحقوق .شاعرنا الخصار ابن شرعي لهذا العصر ،وملتقط حساس لنبضه ومطلع جيد على وحشيته ومأساويته.لذلك فان هذا الدافع قوي وراء “عودة ادم”ليكون شاهدا على المأساة.

ومن دوافع الاشتغال على الرمز الديني في هذه التجربة ان للشاعر تجربته الشعورية الخاصة-ككل الشعراء-والتي تجسد البعد النفسي في هذا العمل الشعري ،بعد يمزج بين ظلام الرؤيا (السواد)وبياض الأمل ،مزيج يجسد حيرة الشاعر وتأرجحه بين النزوع المتفائل المتعلق بالحياة.وصراع الموت /الحياة ثنائية معهودة في الوجود والفكر والإبداع.ومجسدة هنا بدقة متناهية في شخصية ادم الحي/الميت ،والذي عاش ألوانا من الحياة والموت،الوقوف والسقوط،الأمل واليأس.

وللخيال الرمزي أيضا وظيفة/دافع هي خلخلة التلقي المألوف للغة الشعرية،والتمرد على التوقعات الشعورية المعهودة و النمطية.و الخصار هنا نجح في جرنا/توريطنا في دوامته الشعرية باستعمال رمز يريد له ان يكون غير مألوف  (أدمه الخاص)،مع بناء توقعات مزيفة بشكل قصدي.فحين نقرأ القصيدة الديوان (سواء للمرة الأولى او للمرة العاشرة؟)تتولد لدينا توقعات كاذبة سرعانما يشوش عليها معطى منفلت يظهر هنا او هناك.بمصادفة اسم ادم في العنوان نتوقع اجترار حكايته الدينية،إلا أننا نصادف حكاية أخرى جديدة لا تقطع مع الأولى ،لكنها لا تخضع لها ،بل تستقل عنها وتبني افقها الخاص(كما رأينا في ملخص الحكاية)،وبهذا يخيب تلقينا المألوف ويفرض النص علينا ان نمارس “قراءة نشيطة” كما يقول امبرتو ايكو،قراءة لا تكتفي بالتوقع الجاهز،وإنما تمارس التأويل..

والرمز الديني هنا يساهم في اغناء لغة القصيدة،ليخلصها من غنائيتها الذاتية المونولوجية،ويرقى بها الى بعدها التركيبي البوليفوني المعبر عن قضايا إشكالية في وجود الإنسان وجوهره(إشكال هشاشة الإنسانية رغم الشرائع والديانات والقوانين …).

ولان اللغة في القصيدة لم تعد قشرة شكلية بل هي جوهر قابل للتأويل لاكتشاف التاوي خلف ظاهره،وهذا يحرر لغة القصيدة من المباشر المتداول ،بجعلها تتجاوز التواصل المحدود الى بناء الدلالة وترميزها.مما يوصلنا الى الغموض (مقاطع قصيرة لا تتجاوز سطرين شعريين/الشذرية)وهو غموض يخلق المتعة ويضاعف المعنى وهو يبنيه.

هكذا يصبح الرمز ادم قمة تعبيرية يتوسلها الشاعر لبناء صورة مركبة عبر القصيدة/الديوان كلها،صورة تعج بالانزياحات والصور البلاغية المنتمية الى الخيال التقليدي (التشابيه/الاستعارات) او الحديث  الانزياحات (انسنة الطائر/الريح)كما يتجلى في الصفحات :14/16/17/20/22/24…و57.

*الشاعر وعلامات الترقيم :

لم يستعمل الشاعر في قصيدته/ديوانه بشكل أساسي سوى نوعين من علامات الترقيم:

1/النقطة،في نهاية مقاطع شعرية مكتملة المعنى.مما يجعل الجملة الشعرية المتأرجحة بين الطول والقصر وكأنها دفقة او مد يتأرجح بين الامتداد والتقلص ،او كأنها تنفس متقطع لاهت خلف ايقاع الرحلة/الحياة نزولا وصعودا…

2/علامة الاستفهام والتي هي أساسا تقوم على قاعدة النقطة ،وتدل على وجود طلب الاستفسار ومعظمها يرتبط باستنكارات ادم وهو يشاهد تدهور الوجود(ص ص 42/47/48)،دلالة على القلق والانشغال على مصير أبنائه وأحفاده وقلقل الشاعر من عصره على وجوده…

هذا مع ورود علامتين اخريتين بشكل جزئي (الفاصلة ص 17 ونقطتا التفسير ص 16المرتبطتان بوجود حوار بين ادم والطائر).

ولعل هذا التركيز على النقطة بالدرجة الأولى،وتفادي الباقي إلا لماما،له دلالة خاصة عند الشاعر وعند المتلقي،فالرهان على الشذرية في التعبير،والتداعي المتدفق محدود الامتداد هدفه رصد نبض التعبير عند الشاعر.

والشذرية كوجه من وجوه الاقتصاد في اللغة مظهر آخر لشعرية هذا النص الذي يتيح لك ان تقرأه اكثر من مرة وهو ينساب بين عينيك كموال غنائي جميل ورائق رغم غيمة حزن شفيف.

لم تعد شعرية القصيدة الحديثة حكرا على عنصر فني واحد،بل أصبحت رهينة تنوع العناصر،وحسن سبكها وصياغتها وصوغها وحبكها..وهذا ما نجح فيه الشاعر هنا،بحيث قارب بين البعيد والقريب،النثر والشعر ،بين البلاغات والأساليب ..ونسج قصيدته..شعريته..

على سبيل الختم :

هل يمكن الحديث عن بطل إشكالي في عودة ادم؟بطل يبحث عن قيم أصيلة في عالم منهار؟

وسؤالي الخاص إلى الشاعر:لماذا عاد ادم بدون حواء؟هل القصيدة حواء؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

           عبد الجليل لعميري

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *