من العبارات الكثيرة التي رددت في رثاء الكاتب أحمد خالد توفيق، الذي رحل منتصف الأسبوع الماضي، بعد أن وضع بصمته الكتابية، واحتل مكانا جيدا في الخلود، عبارة: أعاد الناس إلى القراءة.
أيضا حين يذكر الأديب علاء الأسواني في أي محفل من محافل الدردشة، تجد العبارة ذاتها تردد حتى من الذين لا يعترفون بما قدمه أدبيا، ولكن يرددون بأنه أعاد الناس إلى القراءة. وهكذا نجد كتابا آخرين في الرواية أو القصة، يحيط بهم عادة جمهور كثيف، وتوزع مؤلفاتهم بصورة سريعة، ومدهشة، وإن ظهروا في حفل توقيع لكتبهم، تظهر الصفوف المتراصة، ويظهر الصبر الذي يجعل معجبا أو قارئا أو حتى مجرد مقتن عادي للكتاب، يقف ساعات طويلة من أجل أن يحظى بتوقيع الكاتب وصورة معه، يضعها على صفحته في مواقع التواصل الاجتماعي. وهذه المواقع أيضا من أدوات الخيلاء التي ربما يستخدمها بعض الذين أعادوا الناس للقراءة، من أجل لا شيء، سوى التحية، والإعلان عن وجودهم المبتسم والضاحك، وسط أولئك الذين تمت إعادتهم للقراءة.
أحمد خالد توفيق لم يكن يظهر كثيرا، وكانت بصماته في الواقع الكتابي، والجذب بما قدمه من أعمال كثيفة الخيال ومشوقة، أكثر من وجود افتراضي يبتسم أو يضحك فيه، ولا أذكر أبدا أنني شاهدته في معرض للكتاب يجلس عرقانا وسط الأنفاس ليوقع كتابا، ولا أعرف حقيقة إن كان يوقع الكتب أم لا؟، حتى على نطاق ضيق، ولطالما شاهدت عشرات الكتاب، ممن تردد في حقهم عبارة إعادة القراءة، والذين هم بعيدون عنها، وربما تردد في حقهم عبارة مضادة، هي إبعاد الناس عن القراءة، يجلسون متأنقين ومحمومين، وسط الزهور، وألواح الشوكولاتة، ينتظرون الناس ليوقعوا لهم، ويهتمون بابتساماتهم، يتدربون على رسمها من أجل أن تبدو سخية في الصور التي ستظهر بعد ذلك.
لقد جلست حقيقة أتأمل عبارة إعادة الناس للقراءة تلك، وبدت لي عبارة لا ترددها الأجيال الحديثة من الذين قد يقرأون وقد لا يقرأون حسب أمزجتهم وأوقات فراغهم، أي تلك الأوقات التي لا تلهيهم فيها التكنولوجيا، فيمسكون بالكتب، يتصفحونها. إنها عبارة يرددها جيلنا وما قبله، أي الجيل الذي لم يكن يملك معنى أو إحساسا بالوجود، إن لم تكن ثمة قراءة متاحة.
كان معظمنا قد تربى قارئا بالفعل، إما بواسطة أسرته أو أصدقائه المقربين، أو حتى بواسطة جيران مثقفين وطيبين، يمنحون الكتب بسخاء، ويمكن أن يقيموا ندوات توعية، أو يجلس أحدهم يسمك كتابا، ويقرأ حكاياته للأطفال، غارسا فيهم متعة غريبة لن يعثروا عليها إلا إن ركضوا خلف الكتب بعد ذلك. وقد تحدثت في شهادة لي عن القراءة، عما سميته: قانون تاج السر، وهو قانون وضعه أبي، حالما تعلمنا كيف نكتب ونقرأ في المرحلة الابتدائية، وكان إجبارنا على قراءة كتاب كل أسبوع، يأتي به صاحب مكتبة صديق له، يلقيه من خلف الحائط، عصر يوم الإثنين من كل أسبوع، ولأننا كنا نعرف التوقيت ونتوقعه، كنا ننتظر، ونركض في محاولة الإمساك بالكتاب، كل يتمنى لو فاز بالقراءة أولا.
وفي حديثي عن مدينة بورتسودان، وذلك الحي الحجري الذي يقع بجوار السينما والمستشفى، ويقيم فيه موظفو الخدمة المدنية في بيوت ضيقة صغيرة، لكنها واسعة الصدر، تحدثت عن العم حمزة، وكان رجلا مسنا أذكر أنه في حوالي الستين أو أكثر في ذلك الوقت، كان رجلا غريبا فعلا، يملك كشكا من الخشب أمام المستشفى، يبيع فيه أشياء كثيرة متباينة، مثل الملابس الجاهزة، وألعاب الأطفال، وأيضا الحلويات المختلفة، وفي يوم الجمعة الذي لا يفتح فيه الكشك، يجمع أطفال الحي في البيت الذي يقيم فيه مع عائلة لم تكن من أقاربه، يقرأ لهم القصص من كتب كثيرة أذكر منها ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، ويجعلهم متشوقين لمعرفة المزيد.
كان جو حمزة، هو غرس في القراءة بكل تأكيد، وتفعيلا للمادة الترفيهية الوحيدة التي كانت موجودة في ذلك الوقت، وحقيقة كان ذلك الجو بالنسبة لنا، أشد روعة من جو السينما المتاح لنا مرة في الشهر، ذلك أن السينما كانت تمنح التشويق مباشرة، بينما الحكايات، تشعل الخيال لمعرفة ما بعدها.
إذن نحن كنا من جيل غرس في القراءة، وليس من جيل أعيد إليها، كما حدث للجيل الذي بعدنا، حين صعبت الحياة كثيرا، وأصبح اقتناء الكتب من الممارسات المترفة للناس، والذي يقرأ بالفعل، يقرأ بصعوبة شديدة من كتب إما كانت موجودة في بيته أصلا وقد يكون قرأها من قبل أو كتب استلفها من أحد بعد إلحاح، وجاءت سنوات لم تعد المكتبات المقامة في الأسواق منذ زمن بعيد، تستقطب زبائن جددا، وتغبرت الكتب على رفوف كثير منها، ولتغلق بعضها أو يتحول نشاطها العام إلى بيع الأدوات المدرسية وكراسات التلوين، وربما الشامبو وكريمات الشعر.
مؤكد ليس كل من يولد في جيل هجر القراءة، ليس قارئا، هناك قارئ بالطبع، وما دام ثمة كتاب في الجيل، فلا بد من قراء، فقط نتحدث عن كثافة القراءة، وطرق أبواب المكتبات، والمتعة في اقتناء الكتب وتقليبها كثيرا قبل البدء في مصادقة صفحاتها.
ويأتي الذين تحدثت عنهم، الكتاب الذين يظهرون فجأة إما بنتاج كثيف متراكم أو نتاج قليل جدا، أو حتى كتاب واحد، ليتحلق الناس من حولهم، الذين كانوا يقرأون من قبل والذين لم يقرأوا أبدا، وتتحقق مقولة: إعادة الناس للقراءة، المقولة التي سنرددها نحن، جيل الغرس المبكر في القراءة بلا خيار آخر سوى ذلك.
أنا متأكد أن أحمد خالد توفيق، كان محبا لكتابته، ومحبا للذين بدأوا قراء معه والذين عادوا للقراءة بسببه، وطالعت عشرات العبارات من كتاب جدد، أكدوا بأنهم تربوا قراء على يدي أعماله، وكتبوا بعد ذلك بهدي مما تعلموه من تلك الأعمال.
________
*القدس العربي